كانت دار الأيتام التي يتّجه إليها راينا و لوسيوس تُدعى دار وايت فيلد للأيتام.
تقع بين دار غرين غاردن للأيتام في المنطقة الوسطى للإمبراطوريّة ومنطقة الجنوب.
بما أنّه وصلتهما رسالةٌ تفيدُ بوجودِ طفلٍ يشبه كاليكس في تلك الدّار، اتّجها إلى هناك أوّلًا.
توقّعت راينا، طوال الرّحلة، أن يتوقّفا بين الحينِ و الآخر لتناول الطّعام أو النّوم.
ففي النهاية، كانا في عجلة من أمرهما للبحث عن طفلٍ مفقود.
لكن، خلافًا لتوقّعات راينا، بدأت المناظر الرّيفيّة خارج نافذة العربة تتحوّلُ إلى مناظر المدينة الصّاخبة.
لم تتوقّف العربة إلّا أمام نزل في وسط المدينة.
“لماذا هنا…؟”
نظرتْ راينا إلى لوسيوس بتعجّب.
“سنرتاح هنَا اليوم و ننطلق غدًا صباحًا مبكرًا.”
“نرتاح؟”
ليسَ في العراء، بلْ في مكانٍ لائق؟
اتسّعتْ عينا راينا بدهشة.
ألم يكنْ لوسيوس يتحرّك بلا توقّف، يظهر و يختفي كالصّاعقة خلالَ الأيّام القليلة الماضية؟
هذا يعني أنّه لمْ يرتح أبدًا.
و معَ ذلك، يقترح الرّاحة في رحلة قصيرة إلى دار وايت فيلد للأيتام؟
‘هل هذا لأنّني ضعيفة البنية؟’
شعرت راينا بالحيرة، لكنّها فكّرت أيضًا أنّ ذلك متوقّع.
‘إذن، هوَ لا يبحثُ عن كاليكس لأنّه يهتمّ به حقًا.’
بهذه الفكرة، نزلتْ راينا من العربة.
كانَ المكان الذي سيقيمان فيه نزلًا نمطيًا: الطّابق الأوّل مطعم، و الطّابق الثّاني غرف ضيوف.
بينما كان السّائق و الحمال يرتّبان العربة، اقترب لوسيوس من راينا.
“لنتناول الطّعامَ أوّلًا.”
أومأتْ راينا موافقةً على اقتراحه.
قبلَ لوسيوس شرطها بأن ترافقه مقابل تناول الطّعام معًا دون تساؤل.
لم يسأل لماذا أرادت تناول الطّعام معه.
‘ربّما يفكّر مثلي.’
يريد خلق فرصة للحوار لاستكشاف نواياي.
توجّهت راينا مع لوسيوس إلى المطعم.
جلسا و طلبَ كلّ منهما طعامهُ من النّادل.
“…..”
ساد صمتٌ ثقيل بينهما.
ربّما لأنّ الوقتَ قد تجاوز موعد الطّعام، كان المطعم خاليًا من الزّبائن.
عندما وصلَ الطّعام، بدآ الأكلِ في صمتٍ مطبق.
“حانَ الوقت لبدء الحديث.”
ألقت راينا نظرة خاطفة على لوسيوس و فتحت فمها
“لم أكنْ أعلم أنّ للدّوق الأكبر أخًا.”
“وماذا تعلمينَ إذن؟”
“ماذا؟”
رفع لوسيوس عينيه لينظر إلى راينا.
“منذ لقائنا الأوّل، تصرّفتِ و كأنّكِ تعرفينني جيّدًا.”
“…… ”
“عادةً، الأشخاص الذين يحترسون منّي ينقسمون إلى فئتين.”
واصل لوسيوس وهو ينظر إلى راينا مباشرةً
“إمّا أنّهم يريدون قتلي، أو أنّهم ارتكبوا ذنبًا يستحقّ الموت تجاهي.”
“……”
“في لقائنا الثّاني، بدوتِ و كأنّكِ ستصابين بالإغماء من الرّعب عند رؤيتي.”
ابتلعتْ راينا ريقها.
انزلقت عيناها نحو يد لوسيوس.
لماذا بدت سكّين المائدة العاديّة التي يمسكها حادّة جدًا؟
“كان ذلكَ بسببِ الإشاعات التي تتبعك، سموّك.”
حاولتْ راينا الحفاظ على نبرةٍ هادئة.
“معظم النّاس، بمن فيهم أنا، يعرفونك من خلال الإشاعات.”
حدّقت عيناها البنفسجيّتان الزّاهيتان في لوسيوس مباشرة.
“قلتَ إنّ الذين يحترسون منك ينقسمون إلى فئتين، لكن أعتقد أنّ هناك فئة ثالثة أكثر شيوعًا حذرةٌ منكَ لنفسَ السّبب الذي يجعلني أفعل.”
كانت راينا تعلم أنّ لوسيوس يحاولَ إخافتها لاختبارها.
لم تكنْ تنوي الانجرار وراء ذلك و الارتباك بسهولة.
عند ردّها الثّابت، وضع لوسيوس كوعه على الطّاولة.
نظر إليها و مسحَ فمه بيده.
‘هل هذه عادة؟’
دائمًا يغطّي شفتيه و ينظرُ إلى النّاس هكذا.
“كون الطّفل المفقود أخًا لك، لا أستطيع تخيّل شعور الخسارة الذي تشعرُ به، سموّك.”
“هل تعتقدين ذلك حقًا؟”
اتّسعتْ عينا راينا.
“تقولين إنّكِ تعرفينني من الإشاعات فقط، لكنّكِ تفاجئينني.”
“……”
“ألنْ تسألي لماذا أُخفي وجودَ أخي؟”
أبعدَ لوسيوس يده عن فمه.
كانت زاوية فمه مرتفعة.
رغم الابتسامة، لم يبدُ وجهه أكثر لطفًا.
بل كان ينضح بهالة خطيرة تجعل النّاس يرتعدون.
“حتّى لو سألتُ…”
أخفضت راينا عينيها و واصلت
“لن تخبرني، أليس كذلك؟”
“…..”
“و أنا لا أريدُ أن أعرف.”
أمسكتْ راينا الشّوكة بقوّة.
“أريد فقط مساعدتكَ بِقدر ما أستطيع، سموّك.”
رفعت راينا عينيها بهدوء لتنظر إلى لوسيوس، متلهّفة لمعرفة ردّه.
لم يعد لوسيوس يبتسم.
جعلَ وجهه الخالي من التّعبير عينيه تبدوان أكثرَ برودة.
أخفضتْ راينا عينيها مجدّدًا.
بدلًا من الحصولِ على معلومات عن اللّعنة، كانت منشغلة بمحاولة تبديد شكوك لوسيوس.
‘لا يمكن أن يستمرّ الأمر هكذا.’
ألا يوجد حلّ جيّد؟
“يبدو أنّه لم يعدْ لديكِ ما تسألينني عنه.”
بينما كانتْ راينا غارقةً في التّفكير، تحدّث لوسيوس.
أخذ كأس الماء، رطّب حلقه، و نهض.
“إذن، سأستأذن أوّلًا.”
“ماذا؟”
“ارتاحي جيّدًا.”
غادرَ لوسيوس المكان قبل أن تتمكّن راينا من إيقافه.
‘هل سيغادر هكذا؟’
نظرت راينا بدهشة إلى المكان الفارغ الذي تركه لوسيوس.
“مهلاً؟”
نظرت راينا إلى طبق لوسيوس و ضيّقت عينيها قليلًا.
‘الطّعام الذي أكلهُ لوسيوس بِالكاد…’
كانَ طعامًا حلوًا، وهو شيء لا يستطيع تناوله كثيرًا بسبب حالته.
***
طلبتْ راينا من الموظّف ماءً ساخنًا للاستحمام و صعدت إلى الطّابق الثّاني.
كانت غرفتها بجوارِ غرفة لوسيوس مباشرةً.
مرّت بباب غرفته المغلق بإحكام و دخلت غرفتها.
“هاه.”
فقط عندما وصلتْ إلى مساحتها الخاصّة، تمكّنت راينا من إطلاق تنهيدةٍ عميقة.
كانتْ متعبة من السّفر المفاجئ بعد قضاء وقت طويل في القصر، و كان مرافقها لوسيوس.
بما أنّها لم تستطع إظهارَ أيّ تهاونٍ أمامه، كانت الضّغوط مضاعفة، ممّا جعلها مُرهقة جدًا.
ضربت كتفيها بخفّة بقبضتيها، فجاءها الموظّف.
بينما كان يملأ الحوض بالماء السّاخن، راقبته راينا بهدوء من الجانب.
“بالمناسبة.”
عندما بدأت بالحديث ، التفتَ إليها الموظّف.
“هل طلبَ الشّخص في الغرفة المجاورة شيئًا خاصًا منك؟”
رفعَ الموظّف حاجبيه، غير مدركٍ لسؤالها.
“مِثلَ طلب ماء للاستحمام كما فعلتُ، أو طلب شيءٍ آخر؟”
تساءل الموظّف عن سبب سؤالها، لكن بما أنّه عرف أنّها و لوسيوس يسافران معًا، أجابَ بلا مبالاة
“لم يطلب شيئًا سوى ماء الاستحمام.”
أومأت راينا برأسها. انحنى الموظّف و غادرَ الغرفة.
‘ يبدو أنّ لوسيوس سينامُ مباشرةً اليوم دون فعل شيء آخر.’
شعرت راينا بالارتياح، استحمت، و خرجت.
بدأ جسدها المتشنّج من التوتّر يرتخي، و سرعانَ ما شعرت بالنّعاس.
عندما استلقت على السّرير، أصبحت جفونها ثقيلة.
“سأنام حتّى الصّباح دون استيقاظ.”
بهذه الفكرة، أغلقت راينا عينيها.
لكن، خلافًا لتوقّعاتها، لم تنم جيّدًا.
ما إن غفتْ حتّى رأت كابوسًا آخر عن وحش.
هذه المرّة، فتحت عينيها في الحلم لتجدَ الوحش أمامها مباشرة.
رغم رؤيته مرّة أخرى، لم تتأقلم مع مظهره المرعب. عندما حاولت الهروب، سمعت صوتًا خشنًا و وحشيًا في رأسها
[ما اسمكِ؟]
“هل هذا الوحش يتحدّث إليّ؟”
[سألتُكِ ، ما اسمكِ؟]
حدّقَ الوحشُ في راينا منتظرًا إجابتها.
“… راينا.”
لمست راينا حلقها بعد أن نطقت باسمها.
هذه المرّة، خرجَ صوتها.
[راينا.]
اقتربَ الوحش منها.
تراجعتْ راينا غريزيًا، فتوقّف الوحش للحظة.
حافظ على مسافةٍ و بدأ بالحديث مجدّدًا
[إلى أيّ مدى أنتِ مستعدّة للذّهاب من أجل كاليكس؟]
“ماذا؟”
[هل يمكنكِ التّضحية بروحكِ؟]
عبست راينا من السّؤال المفاجئ.
“لماذا تسألني هذا؟”
بدأت تشعرُ أنّ هذا الحلم ليس حلمًا عاديًا.
كانتْ واعية بأنّها تحلم، و يبدو أنّ الوحش ليس مجرّد نتاج لا وعيها، بل كيان له إرادة خاصّة.
[ألا تُريدين إنقاذَ كاليكس؟]
“أريد إنقاذه، لكن لا أريدُ التّضحية بروحي. هذا يعني الموت!”
أصدرَ الوحش صوتًا غرغريًا.
كانَ صوتًا كخدش المعدن، لكن راينا شعرت وكأنّه يضحك.
[لا حاجة للمخاطرة بحياتكِ. يكفي أن تُقدّمي روحكِ.]
“….. ”
[عندها، سيتعافى كاليكس.]
إذا قدّمتُ روحي، سَيتعافى كاليكس؟
شكّكتْ راينا في كلامِ الوحش.
“مَنْ أنت؟”
لماذا تظهر في حلمي و تقول هذا؟
[أنا الكائن الذي يقودُ كاليكس إلى الموت.]
اتّسعتْ عينا راينا.
“إذن، أنت اللّعنة التي أُصيب بها كاليكس؟”
إذا تجسّدتْ اللّعنة، فستبدو تمامًا كالوحش أمامها.
[لعنة.]
نظرَ الوحشُ إلى جسده.
[نعم، وجودي أصبحَ الآن كاللّعنة.]
تمتم الوحش كأنّه يتحدّث لنفسه، ثم رفعَ عينيه إلى راينا.
[إذا أردتِ إنقاذ كاليكس، قدّمي روحكِ لي.]
“كيف أثقُ بك؟”
[إذا قدّمتِ روحكِ، سأبرم معكِ عقدًا.]
عقد؟
بدتْ راينا مرتبكة، فتابعَ الوحش
[إذا أبرمتِ عقدًا معي، لن يستطيع لوسيوس لمسكِ.]
اتّسعتْ عينا راينا.
لم تتوقّع أن يذكر الوحش اسم لوسيوس.
بل بدا وكأنّه يعرفُ خوفها منه.
[لذا، احضري … من لوسيوس.]
لم تسمع راينا كلامِ الوحش بوضوح.
[… إذا كان لديكِ …، سأستطيع…]
أصبح صوت الوحش يتلاشى تدريجيًا.
“انتظر، لم أسمعك. كرّر ذلك.”
أدارَ الوحش رأسه.
نظر إلى مكان ما وقال
[راينا، لم يعدْ هناك وقت.]
بهذه الكلمات، استيقظتْ راينا مِن حُلمها.
التعليقات لهذا الفصل " 18"