اتسعت عينا الطفل وهو ينظر إلى لوسيوس.
ثم ما لبث أن عقد حاجبيه ببطء وبدأ يبكي بحزن شديد.
وعندما خفف لوسيوس قبضته، اندفع الطفل إلى أحضان مايا.
“بيل، هل أنتَ بخير؟”
سألت مايا بصوت قلق وهي تربت على ظهر الطفل.
“……بيل؟”
“نعم، إنه طفل يُدعى بيل. كنا نعتني به بشكل منفصل لأنه مصاب بمرض جلدي معدٍ…”
عندها فقط لاحظ لوسيوس معصم بيل المتبقع الظاهر من تحت كمه.
و كانت ملامح مايا توحي بأنها لا تفهم سبب مجيء لوسيوس إلى هذه الغرفة.
“للاحتياط، من الأفضل ألا يقترب سمو الدوق كثيرًا.”
في تلك اللحظة تبيّن سبب محاولة مايا المستميتة لمنعه.
ترك لوسيوس الطفل الباكي و مايا المنشغلة بتهدئته وغادر الغرفة.
عندها وقف وظهره إلى الباب، غارقًا في التفكير.
لم تظهر عليه أي تعابير واضحة، لكن عينيه الذهبيتين لمع فيهما تأمل حذر.
و كأنه سيظل واقفًا هناك إلى الأبد، لكنه أخيرًا تحرك.
“سمو الدوق؟”
كانت راينا قد صعدت الدرج و رأته.
“هل تبحث عن الغرفة التي يقيم فيها الأطفال؟”
بالطبع، لم تكن راينا تجهل سبب وجوده هنا.
فهي من خططت منذ البداية لجعل لوسيوس يتبع مايا.
“حتى يتمكن من رؤية بيل المصبوغ الذي يشبه كاليكس.”
الشيء الذي طلبته من السيد كان صبغة شعر.
كانت صبغة فريدة صنعها كهنة المعبد باستخدام القوة المقدسة.
تمنح لونًا حيًا للشعر الأبيض الباهت و تعيد الحيوية للعيون الباهتة.
وقد تم تطويرها لتواسي المرضى طريحي الفراش لفترات طويلة.
حصلت راينا من السيد على صبغة شعر سوداء و أخرى للعيون الحمراء ، و استخدمتهما على بيل.
كما رسمت بقعًا حمراء على جلده باستخدام مستحضرات التجميل.
‘بمجرد أن ينتهي من تفقد باقي غرف الأطفال…’
فحتى إن ظهرت شائعات لاحقًا عن طفل مريض بشعر أسود و عيون حمراء، فسيفترضون أنه بيل، لا كاليكس.
“هل تريدني أن أرافقكَ في الجولة؟”
“لا داعي، لن يكون هناك فائدة من المتابعة.”
اقترب لوسيوس من راينا.
“ما هذا المفتاح في يدك؟”
سأل وهو يشير إليه بعينيه.
رفعت راينا المفتاح وقالت
“ألم أقل سابقًا انني أبحث عن شيء؟ إنه مفتاح خزانة مكتبي. و ربما يفيد سمو الدوق.”
أومأ لوسيوس بذقنه إشارة إليها بأن تتابع.
“أنا على اتصال بشبكة دور الأيتام في الإمبراطورية. وتلك الشبكة محفوظة في الخزانة.”
“…….”
“بما أن الطفل الذي تبحث عنه قد يكون اتجه نحو دار أيتام، سأقوم بإرسال استفسار.”
“سيستغرق الرد بعض الوقت، أليس كذلك؟”
أومأت راينا برأسها.
من البداية، كانت تنوي مساعدته فقط لكسب الوقت.
“على الأقل سيوفر ذلك عناء تفتيش دور الأيتام. دعه لي، و سموك يمكنكَ الاستمرار في البحث عن الطفل بطريقتك.”
استمع لوسيوس بوجه جامد، ثم تكلم ببطء:
“راينا.”
عندما ناداها بصوت منخفض، تجمد جسدها دون أن تشعر.
“ما السبب؟”
“……عفوا؟”
“أسأل عن سبب حرصكِ على مساعدتي بهذا الشكل.”
ابتلعت راينا ريقها بصعوبة.
لم تستطع التعود على نظراته الحادة التي تحدق بها مباشرة.
“كما قلت… أشعر بالأسى تجاه من فقد طفلًا. و إذا استطعت المساعدة، فأنا…”
لكن راينا لم تكمل، إذ ارتفعت زاوية فم لوسيوس بابتسامة خفيفة.
‘ما ردة الفعل هذه؟’
أضاءت في عقل راينا إشارة تحذير لا تدري مصدرها.
أنه ليس الوقت المناسب للتقدم، بل للتراجع خطوة.
“يبدو أنني تدخلت فيما لا يعنيني. أعتذر.”
خفضت راينا عينيها و اعتذرت، فأمال لوسيوس رأسه قليلاً.
ثم، وبعد لحظة من الصمت وهو يحدق بها، تحدث مجددًا.
“بل أنا من يجب أن يعتذر إن كنت قد أزعجتكِ.”
اتسعت عينا راينا بدهشة.
‘هل اعتذر لي لوسيوس لتوّه؟!’
حتى بعد أن سمعته بأذنيها، لم تصدق ذلك.
“لقد شعرت بالريبة فحسب، ولم تكن نيتي تجاهل لطفكِ.”
رفعت راينا عينيها نحوه بخفة عند اعتذاره الصريح.
كما توقعت، لم يخيب ظنها.
رغم أنه نطق بكلمات الاعتذار، إلا أن ملامحه كانت باردة كليًا.
“سنتحدث بالتفصيل غدًا. لقد سببت لكِ الكثير من الإزعاج اليوم.”
أنهى كلامه و مر بجانب راينا.
وقفت راينا تنظر إلى ظهر لوسيوس وهو يبتعد بلا تردد، دون أن تفكر حتى في توديعه.
‘هل قال سنتحدث غدًا؟’
ما معنى هذا الآن؟
*****
كان كاليكس ينتظر راينا في المكان السري.
لم يكن يعرف كم من الوقت قد مضى.
المكان الذي اختبأ فيه كان مظلمًا و هادئًا إلى حد مفرط.
استمع كاليكس إلى صوت نبضات قلبه القوي وهو يرمق الباب بنظرات متوترة.
“كاليكس.”
عندما فتحت راينا الباب أخيرًا، ابتسم كاليكس على الفور.
وكعادتها، لم تخيب راينا توقعاته.
‘بما أن أخي لم يجدني، يمكنني البقاء مع راينا.’
لكن على عكس كاليكس المبتهج، بدت ملامح راينا حزينة.
رغم أن وجهها غالبًا ما يكون بلا تعبير، إلا أنها كانت تبتسم بلطف أحيانًا أمام كاليكس.
وقد اعتاد كاليكس على تذكر تلك الابتسامة مرارًا و تكرارًا، لذا لاحظ على الفور أن تعابيرها اليوم كانت قاتمة على نحو غريب.
“ما بكِ، راينا؟ هل حدث شيء؟”
سألها كاليكس عندما خرج من المكان السري داخل الخزانة.
هزت راينا رأسها.
“إذًا، انتهى كل شيء الآن، أليس كذلك؟ لا داعي للقلق بعد الآن، صحيح؟”
كادت أن تهز رأسها موافقة، لكنها توقفت.
“ليس بعد.”
ركعت راينا على ركبتيها لتلاقي عيني كاليكس.
رسمت ابتسامة وهي تنظر إليه يخفي خيبة أمله.
“لقد بذلتَ جهدًا كبيرًا اليوم بالبقاء وحيدًا.”
“لا بأس.”
قالها كاليكس بنبرة قوية، راغبًا في أن يبدو ناضجًا.
فغيرت راينا السؤال بعدما لاحظت ذلك.
“ألم تشعر بالملل؟”
تردد كاليكس في الرد هذه المرة.
“كاليكس.”
أمسكت راينا بكلتا يديه.
“هل تود اللعب معي اليوم؟”
اتسعت عينا كاليكس.
“حقًا؟ هل يمكنني؟”
تفاجأت راينا قليلًا من فرحته الكبيرة.
“لكن فقط داخل هذه الغرفة، لا يمكننا الخروج.”
“لا بأس، هذا أفضل حتى.”
قبض كاليكس يديه بحماس، مما جعل راينا تضحك بهدوء في النهاية.
تناولا الطعام سويًا في غرفة راينا، ثم حلا معًا الأحجية التي أحضرتها مايا.
لم يكن كاليكس طفلًا كثير الكلام، و لم تحاول راينا جره إلى الحديث.
كان ممتعًا فقط مشاهدته يتأمل قطع الأحجية بجدية ووجه متجهم.
وجدت راينا الأمر غريبًا.
فهذه أول مرة تقضي فيها وقتًا هادئًا بهذا الشكل منذ أن قابلت كاليكس.
‘ليت الأمر يستمر هكذا إلى الأبد.’
متى يمكنها قضاء الوقت مع كاليكس دون أي قلق؟
و فيما كانت تفكر، أشارت بإصبعها إلى المكان الذي يجب أن يضع فيه كاليكس قطعة الأحجية.
“كاليكس. قلتَ ان عليكَ إعادة كل شيء إلى طبيعته كي تشفى، أليس كذلك؟”
أومأ كاليكس برأسه بينما كان ما زال منشغلًا بالأحجية.
“هل تعتقد أن أخاكَ يعرف ما المقصود بذلك؟”
توقفت يد كاليكس فجأة.
رفع رأسه لينظر إلى راينا.
“قال بومر ان من يصبح سيد عائلة إنغرسول يعرف تفاصيل اللعنة.”
عن سبب وجودها، و ما الغاية منها.
“إذًا يعرف أيضًا كيف يفكها، صحيح؟”
تردد كاليكس في الرد.
“لا أعلم، لكن بومر قال إنه حتى إن علم بذلك، فلن يستطيع فكها.”
“لماذا؟”
“لأن هناك شخصًا مميزا فقط يستطيع ذلك.”
تردد كاليكس قليلًا وهو يراقب تعابير راينا، ثم سأل
“ألم يتحرك بومر أبدًا أمامك، راينا؟”
“لا. لم يحدث بعد.”
انخفضت معنويات كاليكس قليلًا.
“لقد قال بومر بالتأكيد، إن الشخص المميز إن ظهر، سيتمكن هو أيضًا من العودة إلى هيئته الأصلية.”
“الهيئة الأصلية؟ وما هي؟”
هز كاليكس رأسه نافيًا معرفته.
“قال انه ضعيف حاليًا، لذا لا يستطيع الظهور إلا على شكل تمثال.”
غرقت راينا في التفكير.
‘إذًا تمثال بومر لم يكن الجسد الحقيقي.’
لقد استخدم التمثال فقط ليظهر أمام كاليكس، لكن له كيان آخر منفصل.
‘ما حقيقته إذًا؟’
كائن يملك قوى سحرية تمكنه من السكن في تمثال خشبي والتحرك، يا له من أمر غريب.
ظنت راينا أن هذا الكائن لا بد أنه على علاقة بلعنة عائلة إنغرسول.
وحين صمتت راينا، سارع كاليكس بالكلام.
“راينا، أنتِ شخص مميز، لذا سيظهر قريبًا.”
كان كاليكس يصدق تمامًا أن بومر سيعود للظهور.
ابتسمت راينا و أومأت برأسها.
رغبت في طمأنة كاليكس، لكن القلق كان يتسلل إلى قلبها.
لم تستطع الانتظار للأبد حتى يظهر بومر.
‘قال أن من يصبح سيد العائلة يعرف اللعنة بالتفصيل.’
وهذا يعني أن لوسيوس يعرف.
‘ما الذي يعرفه لوسيوس؟’
فكرت راينا وهي تلامس قطعة أحجية بيديها.
‘يجب أن أعرف أنا أيضًا.’
فذلك وحده ما سينقذ كاليكس.
التعليقات لهذا الفصل "14"