“هل يمكنكِ أن تخبينني بمزيد من التفاصيل؟”
كما توقعت راينا، أبدى لوسيوس اهتمامًا.
كان صوته حذرًا، ولم يكن في سلوكه أي علامة على التسرع.
لذلك، كانت راينا واثقة.
كانت كلماتها خيطًا ذا معنى، حصل عليه لوسيوس أخيرًا، ولم يكن يريد أن يفوّته بأي حال.
“يبدو أن الطفل لم يكن يبدو كيتيم تائه، لذا قام بسؤاله عن أشياء مختلفة. لكنه لم يجب، فظن أنه ربما لا يستطيع الكلام.”
شعرت راينا مجددًا بأنها محظوظة لوجود جوناثان في أكاديمية البحرية. فالأكاديمية البحرية مكان يمنع فيه دخول الغرباء بشدة.
وهذا ما جعل لوييوس، الذي لم يكن أمامه خيار آخر، سوى أن يطرح الأسئلة على راينا، ولم يكن بوسعه التحقق مباشرة من إجاباتها عبر جوناثان، وكل ذلك كان بفضل هذا القوانين الصارمة للأكاديمية.
“سمعتُ أنه لم يطلب مساعدة أخي أيضًا. لكنه لم يستطع تركه وشأنه، لذا أعطاه بعض النصائح.”
“ما نوع النصائح؟”
“ذكر له أسماء بعض دور الأيتام، و قال انه يمكنه الحصول على المساعدة هناك. و أعطاه بعض المال أيضًا.”
أنهت راينا حديثها، و انتظرت لترى رد فعل لوسيوس.
أخفض لوسيوس عينيه قليلاً و اتخذ تعبيرًا شاردًا وكأنه غارق في التفكير.
حدقت راينا في وجهه لكنها لم تستطع معرفة ما يدور في ذهنه.
“أعذرني…”
وبينما طال صمته، فتحت راينا الحديث مجددًا.
“إن لم يكن في ذلك إزعاج، هل يمكنني سؤالك عن علاقتكَ بهذا الطفل؟”
لم يرد لوسيوس فورًا، بل اكتفى بالنظر إليها.
وبعد صمت قصير، تحدث أخيرًا.
“ولماذا تهتمين بذلك؟”
كما توقعت.
لم تكن تتوقع منه إجابة سهلة، لكن ردة فعله كانت أبرد مما توقعت.
ما شأنك أنتِ، و كأن هذا ما كان يريد قوله.
إذا كنتَ تريد أن تجد شقيقكَ بأي ثمن، فعليكَ أن تكون مستعدًا لتقديم بعض التنازلات من أجل الحصول على معلومات مهمة.
‘لكن لوسيوس لا يبدو أنه مستعد لذلك أبدًا.’
أدركت راينا مجددًا ما يفكر به تجاه كاليكس، وجددت عزمها.
لن تسلم كاليكس إلى لوسيوس أبدًا.
“أنا فقط…”
خفضت راينا عينيها وتابعت حديثها.
“سألت لأنكَ تبدو و كأنكَ تبحث عنه بقلق شديد. وإن كان طفلًا عزيزًا عليكَ…”
رفعت حاجبيها قليلاً لتبدو أكثر حزنًا.
“فلا بد أن الألم لا يمكن وصفه بالكلمات.”
رأى لوسيوس رموشها الطويلة ترتجف بلطف.
بدت كما لو كانت تحاول جاهدًة منع دموعها من الانهمار.
كان وجهها، الذي بدا باردًا متجمّدًا أمام الكونت وزوجته، قد أصبح مليئًا بالتعبيرات أمامه.
رفعت راينا عينيها من جديد.
لكن عينيها لم تظهر فيهما أي أثر للدموع.
غطى لوسيوس فمه بيده وكأنه يلمس ذقنه.
فعل ذلك ليمنع طرف شفتيه من الارتفاع بلا وعي.
“خصوصًا أنا…”
“في المرة السابقة ، عندما التقينا عند الجدول.”
قاطعها لوسيوس وهو يبعد يده عن فمه.
“ألم تتحدثي عن ملكية خاصة آنذاك؟”
اتسعت عينا راينا دهشة.
لماذا يتحدث عن ذلك الآن؟
“عندما تحققت، اتضح أن الجانب الآخر من الجدول كان ملكية خاصًا لأحد دور الأيتام.”
هل تحقق من ذلك؟
“لماذا؟”
لم تكن تتخيل أنه قد بحث في أمر دار الأيتام بناءً على مجرد ذكرها العابر لكلمة “ملكية خاصة”.
“هل هذا هو دار الأيتام الذي تديرينه؟”
“نعم.”
“إذن هذا يفسر الأمر. لماذا ذكر كرولوت أسماء دور الأيتام.”
“…ربما كذلك.”
أومأت راينا برأسها بخفة.
كانت تحاول أن تبدو هادئة، لكنها كانت في الواقع منزعجة للغاية.
‘هل لديه قدرة على قراءة الأفكار؟’
الكلمات التي نطق بها لوسيوس كانت تلك التي أعدتها راينا مسبقًا في حال قابلته.
لكن بما أنه سبقها بالكلام، شعرت راينا بعدم الارتياح.
“حتى لو رفض، فهو في النهاية مجرد طفل.”
“…”
“ربما شعر في نهاية المطاف بالضياع، و توجّه إلى دار الأيتام.”
أخذ لوسيوس في الحسبان احتمال أن يكون كاليكس قد توجه بالفعل إلى دار الأيتام.
وكان هذا أيضًا ما كانت راينا تنوي إخباره به.
اتخذ لوسيوس مجددًا ملامح شخص غارق في التفكير.
تشابكت يداه، و بدأ ينقر بخفة بإصبعه السبابة على ظهر يده الأخرى.
بدت حركته و كأنه يقيس الزمن، فلم تستطع راينا أن تحول نظرها عن أصابعه.
“آنسة راينا، إن لم يكن لديكِ مانع.”
فتح لوسيوس فمه من جديد.
“أود أن أطلب منكِ التعاون.”
“ما نوع التعاون الذي تتحدث عنه؟”
“أود أولاً أن أفتش دار الأيتام الذي تديرينه.”
عند سماعها برغبة لوسيوس في تفتيش دار الأيتام، تعمدت راينا أن تتجهم.
“كما قلت لكَ من قبل، عاد أخي وحده. وبالطبع، ذلك الطفل ليس في دار الأيتام الذي أديره.”
عندما ردت راينا بحزم، ارتفعت زاوية فم لوسيوس بخفة.
ابتسامته المائلة التي علت شفتيه بدت مناسبة تمامًا لوجهه.
لم تستطع راينا أن تبدي إعجابها بتلك الابتسامة التي رأتها لأول مرة.
لأن عيني لوسيوس لم تبتسما على الإطلاق.
“أنا من النوع الذي لا يهدأ حتى أتحقق بنفسي عندما تكون الإجابة واضحة.”
“…….”
“هل يمكنكِ التعاون؟”
نظرت راينا بهدوء إلى لوسيوس.
لم يكن بإمكانها أن تُظهر ترددًا أكثر من ذلك في الإجابة.
رأت أن هذا كافٍ، ففتحت فمها أخيرًا.
“فهمت.”
انعوجت شفاه راينا ببطء.
“بما أن سمو الدوق يطلب ذلك، فبالطبع يجب أن أتعاون.”
دعت راينا لوسيوس إلى دار الأيتام برحابة صدر.
كانت الأمور تسير بسلاسة وفق خطتها.
لأن ما كانت تريده فعلًا هو أن يفتش لوسيوس دار الأيتام.
****
وصلت العربة التي كانت تقل راينا و لوسيوس إلى <دار أيتام الحديقة الخضراء>.
فتح الأطفال الذين كانوا يلعبون في الفناء أعينهم على اتساعها.
لم يسبق أن جاء رجل نبيل شاب مثل لوسيوس إلى هذا المكان.
وسط نظرات الأطفال الفضولية، قفزت إيلي.
ركضت إيلي نحو لوسيوس، وبدأت تدور حوله و كأنها تستكشفه، و تشمّه.
“إيلي، ابقي هادئة.”
رغم محاولة راينا منعها، لم تتوقف إيلي.
لهاث.
بعد أن أنهت استكشافها، نظرت إيلي إلى لوسيوس وهي تهز ذيلها بشدة.
كانت تهز ذيلها بقوة لدرجة أن مؤخرتها كادت تلمس الأرض.
لم تبدُ و كأنها تراه لأول مرة، فقد أظهرت له ألفة كبيرة، ثم مدت رأسها نحوه.
“…….”
لوسيوس لم يتحرك، بل اكتفى بالنظر إلى إيلي.
عينا لوسيوس الضيقتان قليلاً أطلقتا بريقًا باردًا.
لكن إيلي لم تبالِ، و وقفت على قدميها الأماميتين مستندة إلى جسدها، و نظرت إليه للأعلى.
عندما رفع لوسيوس يده مع تقطيبة خفيفة بين حاجبيه، ارتجفت راينا.
لكن يده لم تدفع إيلي بعيدًا، بل ربتت بخفة على رأسها الكثيف.
و بينما كانت راينا مشدودة لذلك المشهد، استعادت وعيها عند نباح إيلي المفعم بالحماس.
اقتربت من مايا، التي كانت تنزل من مقعد السائق، و همست لها بشيء.
للحظة نظر لوسيوس إلى مايا وهي تتجه أولاً نحو دار الأيتام.
“تفضل بالدخول.”
قالت راينا لـلوسيوس وهي تتقدمه.
أوليفيا بدت مندهشة جدًا من الضيف الذي وصل فجأة.
عندما نظرت إلى راينا و كأنها تطلب تفسيرًا، تحدثت راينا ببرود.
“الدوق إنغرسول جاء ليتفقد دار الأيتام لدينا.”
“الد، الدوق إنغرسول…؟”
عندما تحولت عينا أوليفيا نحو لوسيوس، سرعان ما خفضتهما نحو الأرض.
انحنت برأسها و شبكت يديها بقوة.
نظرت راينا إلى لوسيوس بطرف عينها.
كانت عيناه تتجهان نحو يدي أوليفيا، اللتين أصبحتا شاحبتين من شدة القبض.
“سأساعدكَ في الجولة.”
عندما قالت راينا ذلك، هز لوسيوس رأسه.
“يمكنني التجول بمفردي.”
“إذن تفضل ، يمكنكَ التجول براحتك. تصادف أنني أبحث عن شيء أيضًا.”
غادرت راينا المكان مع أوليفيا دون تردد.
تابعت عينا لوسيوس راينا وهي تبتعد.
رغم أن تركها له وحده لم يكن مريحًا، إلا أن لوسيوس توجه مباشرة نحو الدرج بمجرد أن اختفت راينا عن نظره.
رأى المرأة المسماة مايا تسرع نحو الطابق العلوي بعدما تحدثت مع راينا.
صعد إلى الطابق الثاني بخفة دون إحداث صوت.
ومن الغرفة الأخيرة في الممر، سمع صوت همسات بين امرأة و طفل.
عندما وصل إلى الغرفة، فتح الباب فجأة.
رفعت المرأة، مايا، رأسها فجأة، و اتسعت عيناها و هي تنظر إليه.
أمامها كان طفل يدير ظهره إلى لوسيوس.
شعر أسود وجسد نحيف.
تقدم لوسيوس بخطوات واسعة نحو الطفل.
“ا، انتظر لحظة!”
لكن لوسيوس أمسك بكتف الطفل بشكل أسرع من محاولة مايا إيقافه.
“كاليك…”
عندما أدار لوسيوس الطفل ناحيته، توقف عن الكلام.
عينان حمراوان فيهما مسحة من البني.
نمش على جسر الأنف.
و سن بارز يُرى من بين الشفتين المنفرجتين في ذهول.
لم يكن الطفل هو كاليكس.
التعليقات لهذا الفصل "13"