“كنت أشعر بأعراض الحمى منذ الصباح.”
لمست راينا جبهتها بيدها.
وبحلول الظهيرة، بدأت الحرارة تشتد بالفعل، حتى بدت جبهتها وكأنها تغلي من شدة السخونة.
كانت ترغب في الاستلقاء على الأريكة في الحال، لكنها قاومت.
“على أية حال، سيعود قريبًا.”
وكما توقعت راينا، لم يمضِ وقت طويل حتى عاد الشخص الذي كانت تنتظره إلى غرفة الاستقبال.
إنه الدوق لوسيوس إنغرسول، سيد منزل دوق إنغرسول.
كان يجوب أرجاء الإمبراطورية بحثًا عن شقيقه المفقود.
و لسوء الحظ، كان شقيقه قد حُكم عليه بأنه في حالة مرضية حرجة لا شفاء منها، ما يجعل الوضع مؤلمًا للغاية.
كانت راينا تساعده في وضعه المؤسف.
بالطبع، لم يكن سبب تورطها معه مجرد تعاطف فحسب، إذ لم يكن بينهما معرفة سابقة أو صلة.
“كيف سارت الأمور؟”
عندما سألته راينا، هزّ لوسيوس رأسه.
وكان ذلك يعني أنه لم يعثر على شقيقه اليوم أيضًا.
ويبدو أنه كان يتوقع ذلك إلى حد ما، إذ اقترب من راينا بوجه خالٍ من الانفعال.
“تبدين متعبة.”
قال ذلك و هو يتفحص ملامح وجه راينا.
“بصراحة، لم أكن أظن أنكِ ستأتين معي إلى هذا الحد.”
كان الاثنان في دار أيتام تقع في أقصى شرق الإمبراطورية، في منطقة ريفية نائية.
رغم صعوبة الطريق، لم تتردد راينا و لو للحظة في مرافقة لوسيوس.
فهي، مثله، كانت شديدة الإصرار.
ولو أن دوافعها كانت مختلفة قليلًا، لا بل مختلفة تمامًا.
“لا بأس. دعنا نعود الآن.”
قالت راينا بابتسامة بالكاد ارتسمت على شفتيها، ثم استدارت.
لكنها ما لبثت أن شعرت بدوار مفاجئ جعل جسدها يترنح.
حاولت بسرعة التمسك بالطاولة، لكن لوسيوس كان أسرع منها.
أمسك بذراعها و دعمها.
“آه، شكرًا…”
توقفت راينا عن الكلام و اتسعت عيناها بدهشة.
فقد كانت بين ذراعي لوسيوس الذي دعمها.
حاولت التراجع وهي مذهولة، لكنه لم يتركها.
“أنتِ لستِ بخير على ما يبدو. يمكنني الشعور بحرارتكِ حتى من فوق الملابس.”
بقي ممسكًا بها حتى أوصلها إلى أريكة غرفة الاستقبال.
جلست راينا بهدوء، فأمر لوسيوس أحد موظفي دار الايتام أن يُحضر لها ماءً لتشربه.
وبينما كان الموظف في طريقه، أسندت راينا مرفقها على مسند الأريكة و وضعت يدها على جبهتها.
بدأ الصداع ينبض في رأسها أيضًا.
بينما كان لوسيوس يراقبها، توجه نحو النافذة.
لكن عيونه، التي كانت تتأمل الحديقة، لم تكن فيهما أي راحة أو هدوء كمن يستمتع بالمنظر.
كانت نظراته داكنة، تختلط فيها مشاعر كثيرة.
كان من الواضح أنه يكبح شيئًا على وشك الانفجار.
وأخيرًا، ظهر الموظف وهو يحمل كوب الماء.
“أحضرتُ الماء.”
“شكرًا.”
لكن حين كانت راينا تتناول الكوب، انزلقت يدها دون قصد.
تحطّم!
تحطم الكوب تحت قدمي راينا محدثًا صوتًا مرتفعًا.
وفي تلك اللحظة، تحطّم صبر لوسيوس أيضًا.
“لا تلمسيه.”
بصوت حازم، أوقف لوسيوس يد راينا التي كانت على وشك مدّها نحو شظايا الزجاج.
ربما بسبب الحمى، كان عقلها مشوشًا، وكادت ترتكب حماقة بالتقاط الزجاج بيدها العارية.
الموظف المرتبك ذهب مسرعًا ليحضر أدوات التنظيف قائلاً إنه سيقوم بالتنظيف.
أما لوسيوس، فركل الشظايا بقدمه جانبًا، ثم جثا على ركبتيه أمام راينا.
تحت أطراف فستانها ، رأى جرحًا رقيقًا على ظهر قدمها سببه الزجاج، فعبس بين حاجبيه بشدة.
“سأفحص الجرح للحظة.”
قبل أن تتمكن راينا من الاعتراض، نزع لوسيوس حذاءها.
و بيدين حذرتين ، راح يتفحص قدمها البيضاء الظاهرة.
في صمت ثقيل، كانت راينا تشعر بالحرج والانزعاج.
“لماذا…”
تكلم لوسيوس و هو ما زال ممسكًا بكاحلها.
“لماذا تفعلين كل هذا؟”
“نعم؟”
“أنت مريضة لدرجة أنكِ لا تستطيعين حتى الإمساك بكوب ماء، فلماذا أصررتِ على مرافقتي؟”
“لأني أردت مساعدتك ولو قليلاً يا دوق…”
“لهذا السبب تحديدًا لا أستطيع أن أفهم.”
قاطَع لوسيوس كلام راينا و رفع رأسه.
ارتجف كتفا راينا دون إرادة منها.
عيناه الذهبيتان تلألأتا بقوة. كانت عيناه جميلتين كالجوهر، ومع ذلك فيهما رهبة لا توصف.
“راينا، أخبريني”
شد قبضته على كاحلها شيئًا فشيئًا.
“لماذا تُخفين أخي، كاليكس، وتكذبين علي هكذا؟”
“……”
“ولماذا تتظاهرين بمساعدتي بينما تخدعينني؟”
انفتحت شفتا راينا ببطء.
قلبها كان ينبض بعنف، أخد يضخ الدم، بينما وجهها كان شاحبًا.
‘رجاءًا’
كانت هذه هي الفكرة الوحيدة التي خطرت في رأسها في تلك اللحظة.
‘رجاءًا، فليغمى علي!’
لأن لوسيوس الذي كان يحقق معها كان مرعبًا جدًا، أرادت أن يغمى عليها هربًا من الموقف.
سواء تم استحابة أمنيتها ، أو أن جسمها المحموم قد وصل إلى حدوده، فقد أظلمت رؤيتها وسقط جسدها إلى الأمام.
“راينا!”
نادى لوسيوس اسمها بقلق و احتضنها.
و فيما كان وعيها يتلاشى، فكرت راينا
‘مسكين كاليكس.’
لقد حاولت جهدي، لكن يبدو أنني أنا و أنت سنموت هكذا في النهاية.
و مر شريط ذكرياتها أمام عينيها، حتى وصلت إلى يوم لقائها الأول بكاليكس.
*****
“راينا! أختي العزيزة!”
رجل ذو بشرة سمراء بفعل الشمس عانق راينا بشدة.
كان هو شقيقها الوحيد، جوناثان كرولوت.
كان طالبًا في الأكاديمية البحرية، و قد عاد إلى مسقط رأسه في إجازة قصيرة.
لكن الشخص الوحيد الذي كان بانتظاره في القصر هو أخته راينا.
لم يكن والدا كرولوت، الكونت و زوجته، يعلمان أنه سيعود أبكر من موعده، و كانا قد ذهبا إلى منزل أقاربهم.
و راينا، التي كانا أقرب أفراد العائلة، لم تُظهر له ترحيبًا حارًا.
فقط وقفت في حضنه على نحو غريب، لكنه لم يهتم إطلاقًا.
“يبدو أنكِ مندهشة جدًا لرؤيتي، أليس كذلك؟”
كان يؤمن بشدة أن أخته تحبه كثيرًا، حتى لو لم تُظهر ذلك.
“أتتذكرين اليوم الذي التحقتُ فيه بالأكاديمية؟ لا زال قلبي يؤلمني عند تذكر ذلك اليوم.”
أطلق جوناثان سراحها من حضنه ونظر إليها بعينين حنونتين.
“كنتِ حزينة جدًا لدرجة أنكِ أصبتِ بفقدان مؤقت للكلام.”
في الواقع، لا.
لقد كنتُ في حالة صدمة لأنني دخلت داخل قصة رواية و لا أعرف ما الذي يجري، فقررت الصمت فقط.
أجابت راينا في سرها.
‘لأن اليوم الذي رحل فيه جوناثان هو اليوم الذي أدركت فيه أنني أصبحت جزءًا من رواية.’
وكان قرارها بالتزام الصمت حتى تفهم الوضع قرارًا حكيمًا.
لأن عائلتها الجديدة كانت غريبة بعض الشيء، وكان عليها وقت لتتكيف.
نقلت راينا نظرها إلى خلف جوناثان بشكل عابر.
كانت مهتمة أكثر بالشخص الذي خلف أخيها من أخيها نفسه.
لاحظ جوناثان هذا النظر الجانبي فابتسم على نطاق واسع.
“لقد لاحظتِ، أليس كذلك؟”
ابتعد بخطوة لينظر إلى الشخص الذي كان خلفه.
“أحضرت لكِ هدية، لكي لا تغرقي في الحزن بعد أن أعود للأكاديمية.”
وكانت هذه “الهدية” التي أحضرها جوناثان ليست شيئًا سوى صبي صغير.
ربما تجاوز العاشرة بالكاد.
كان جسده نحيلًا و بشرته شاحبة.
لم تكن وجنتاه ممتلئتين كباقي الأطفال، بل كانت جافة و شاحبة، و تحت عينيه هالات داكنة.
و عيناه الحمراوان المثبتتان على الأرض كانتا مظلمتين لدرجة تُشعر من ينظر إليه بالاكتئاب.
‘أن تُهدى إنسانًا كهدية…؟’
وبالأخص طفلًا يبدو كأنه على وشك الانهيار.
شعرت راينا بالذهول، لكنها أخفت مشاعرها وسألت بهدوء
“إذن، جلبتَ هذا الطفل كهدية لي؟”
و السبب في تصنعها للامبالاة، كما ذُكر، أن أفراد عائلة كرولوت كانوا… غريبين بعض الشيء.
كان الكونت و زوجته، حكام إقليم كرولوت، يحظون بسمعة طيبة بين النبلاء بسبب لطفهم الظاهري.
و ورث الابن و الابنة جمال والديهم وكانا يتمتعان بأناقة لافتة.
و بدا من الخارج أنهم عائلة محبة وعادية، لكن المشكلة كانت…
“أجل. انظري، ألا يشبه القط الضال الذي كنتِ تحبينه عندما كنتِ صغيرة؟”
أن لديهم خللًا أخلاقيًا خطيرًا في مكان ما.
التعليقات لهذا الفصل "1"