الفصل 7
أسرة غلوفر المركيزية.
واحدة من أعرق السلالات التي تحكم إمبراطورية ريشيوس، تلك التي تُعرف بـ إمبراطورية الذهب.
هذه الأسرة، التي ورثت لقبها جيلاً بعد جيل حتى منذ قيام الإمبراطورية، عُرفت دومًا بموقفها المحايد داخل البلاط الإمبراطوري.
غير أن “الحياد” في السياسة عادةً لا يصمد طويلاً، ومعظم من تبنّوه سرعان ما تلاشت قوتهم.
لكن آل غلوفر كانوا الاستثناء.
فمنذ تأسيس الإمبراطورية وحتى يومنا هذا، لم يتزعزع حيادهم قيد أنملة.
والسبب بسيط:
كانوا يملكون القوة الكافية لحماية حيادهم، ويستندون إلى مبرّر راسخ هو أنهم يخدمون “الإمبراطورية” لا “العرش الإمبراطوري” نفسه.
قد يقول البعض إن خدمة الإمبراطورية تعني بالضرورة خدمة العرش، لكن آل غلوفر أثبتوا عبر السنين أنهم إن رأوا في الأسرة الإمبراطورية خطرًا على الإمبراطورية نفسها، فلن يتردّدوا في رفع سيوفهم بوجهها.
بفضل ذلك، ومع الزمن، غدت هذه الأسرة مثالًا للتفاني في خدمة ريشيوس، تنال احترام النبلاء والشعب على حدّ سواء.
ولهذا السبب بالذات كانت الأسرة الإمبراطورية تراقب آل غلوفر بحذر، لكنها لم تستطع أبدًا إقصاءهم؛ فما من مكسب يرتجى من معاداة من يرفع شعار “الإمبراطورية أولًا”.
بل على العكس، كان من شأن ذلك أن يُظهر العرش وكأنّه يضع مصلحته فوق مصلحة الأمة.
أسرة لا يمكن الاقتراب منها كثيرًا ولا الابتعاد عنها كثيرًا.
ذلك هو الموقف الذي احتلّه آل غلوفر.
لكن وراء هذه السطوة والهيبة، كانت هناك مأساة ظلت جاثمة على البيت المركيزي لثمانية عشر عامًا.
قبل ثمانية عشر عامًا، وفي ليلة عاصفة بشكل غير مألوف لأيام الربيع، كان مركيز غلوفر مشغولًا بأعماله في القصر حتى ساعة متأخرة، بينما غادرت زوجته روزالين القصر على عجل بعدما بلغها خبر تدهور صحة والدتها.
كانت في أشهر الحمل الأخيرة، لكن القلق دفعها إلى امتطاء العربة.
غير أن العاصفة كانت أشد قسوة مما توقعت.
فانقلبت العربة وهي تحاول تفادي شيء ظهر فجأة في الطريق.
مات السائق في الحال، وأصيبت كبيرات الوصيفات التي كانت برفقتها وفقدت وعيها، بينما وضعت روزالين طفلها داخل العربة المحطمة قبل موعد ولادته الطبيعي… ثم فارقت الحياة من أثر النزيف.
حين وصل المركيز بعد فوات الأوان، وجد جثمان زوجته، لكن الطفل كان قد اختفى.
بحث بجنون، لكنه لم يجد أي أثر؛ فالعاصفة مسحت كل الدلائل.
وبالرغم من استعانته بالعرش، لم يُعثر على الطفل قط.
ومع مرور السنين، ورغم نصائح أقاربه بالتخلي عن الأمل، أعلن المركيز أنه سيمنح مكافأة خيالية لمن يعيد إليه ابنه أو ابنته.
ومنذ ذلك الحين، لم يَخْبُ أمله قط.
ومعروف أنّ آل غلوفر يُولدون بشَعر أسود حالك كابتلاع الشمس.
لكن اللون الأسود شائع في أرجاء ريشيوس، فكان من السهل على الدجالين استغلال هذه الصفة.
جاء كثير من الأطفال إلى بابه، بعضهم محمولًا، وبعضهم جاء بنفسه مدّعيًا أنه الوريث المفقود.
لكن في كل مرة، كان المركيز يستقبلهم بلهفة، ثم يُطردون بعد أن يُثبت المعبد أنّهم ليسوا الطفل الضائع.
سنوات من الأمل الكاذب، والخيبات المتتالية.
حتى جاء صباح ربيعي آخر، كان سيكون يوم ميلاد طفله المفقود لو عاش، فزار البيت رجل غامض في ثوب كاهن مهترئ، يخفي وجهه تحت غطاء رأسه.
قال:
[أنا أعلم أين يوجد طفلكم.]
جلس في قاعة الاستقبال، طلب كوب شاي، ثم أخبر المركيز بعينين باردتين:
[الأفضل أن تسرع. الطفل في موقف صعب الآن.]
ثم ارتسمت ابتسامة غامضة على شفتيه وغادر بلا أثر، حتى الفرسان الذين حاولوا تتبّعه لم يجدوا له أثرًا، كأنّه تلاشى في الهواء.
اعترض كبير الخدم، محذّرًا من فخ محتمل، لكن المركيز لم يصغِ.
لم يستطع تجاهل أي بصيص أمل، ولو كان مجرد سراب.
أمر قائد فرسانه، الرجل الذي يحمل ندبة عميقة على جبهته، بالاستعداد، ثم ركب جواده متجهًا إلى العنوان: متجر بقالة قديم.
رفع رأسه إلى الطابق الثالث، حيث عُلّق اسم جوان، المرأة التي أخبرته بالمكان.
تذكر زوجته الراحلة وهمس في قلبه:
“روزا… هل سنجد طفلنا هذه المرة حقًا؟”
وصعد الدرج الخشبي المهترئ.
وحين فتح باب العلية أخيرًا…
استقبله صوتٌ مرتجف:
“آسفة! أرجوكم… اتركوني على قيد الحياة!”
كانت فتاة صغيرة ممدّدة على الأرض، ملتصقة بها كأنها اقترفت ذنبًا لا يُغتفر.
قال المركيز بصوت جهوري:
“ارفعي رأسك.”
ومنذ اللحظة التي وقعت عيناه فيها على شعرها الأسود القصير المتشابك فوق كتفيها، بدأ قلبه يخفق بعنف غير مألوف.
وحين استجابت ببطء لندائه ورفعت رأسها قليلًا، تأكد المركيز تمامًا:
“……إنها أنتِ.”
شعر أسود يبتلع حتى أشعة الشمس، ملامح تشبه زوجته الراحلة، وعينان أرجوانيتان شاحبتان كزهرة البنفسج.
“لقد وجدتكِ أخيرًا.”
لم يكن بحاجة إلى ختم من المعبد أو أي تأكيد آخر.
فهذا بلا شك الطفل الذي ظل يبحث عنه طوال تلك السنوات، ثمرة الحب الذي جمعه بزوجته.
نظرتها المذعورة وهي تعض شفتها السفلية، أعادت إليه صورة روزالين في صباها.
أما تلك العينان المرتجفتان بالبنفسجي الشاحب، فكانت صورة مطابقة لعينيه حين كان صغيرًا.
حتى قائد الفرسان الذي كان دومًا يحذّره من الأمل الكاذب، لم يستطع إخفاء ذهوله وهو ينظر بالتناوب إلى وجه المركيز ووجه الطفلة.
قال المركيز بصوت متهدّج لكنه حاسم:
“أنا أباكِ.”
كانت تلك الكلمات، التي لم يجرؤ على نطقها قط منذ ثمانية عشر عامًا، تخرج الآن من بين شفتيه للمرة الأولى، وهو يمد يده نحوها.
لكن الفتاة، التي ظلّت على الأرض رافعة رأسها فقط، بدت مشوشة، غير قادرة حتى على التفكير في الإمساك بيده.
“يا صغيرتي.”
ارتبكت وهي تردّ بتلعثم:
“أنا… أنا في الثامنة عشرة من عمري، لا أظن أنه يليق أن تناديني بالصغيرة… لا، ليس هذا المهم… أظن أنّك جئت إلى المكان الخطأ…؟”
ابتسم المركيز ابتسامة دافئة، وعيناه تلمعان بدموع متوارية:
“لا، هذه المرة وجدتك حقًا. سامحيني… لتأخري كل هذا الوقت.”
ثم جثا على ركبتيه أمامها، ليكون في مستو
ى عينيها، وابتسم كما لم يفعل منذ زمن بعيد.
لقد حان أخيرًا وقت الوداع مع الكابوس الذي ظل يطارده طوال حياته.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 7"