الفصل 6
شعار ميلونا في الحياة كان دائمًا “السلامة أولًا”، وقد بذلت جهدها دومًا لتتمسك به.
لكن أحيانًا، فقط أحيانًا، كانت غريزتها تسبق عقلها فتقودها إلى المخاطر.
“أنا مجنونة! مجنونة تمامًا! أيتها اليدان، لماذا بحق السماء فعلتما هذا؟!”
كانت ميلونا تحدّق غاضبة في الكيس الفاخر الثقيل الموضوع على سريرها، ثم في يديها المرتجفتين.
لطالما اعتزّت بمهارة يديها السريعتين، لكنهما كانتا تتحركان قبل عقلها في بعض الأحيان، فتوقعانها في ورطة.
وعادةً ما كانت تجد طريقة لتدارك الأمر.
تارةً ببيع المسروقات خلسة، وتارةً بالاستعانة بداينيلو ليخفي الآثار.
إلى الآن، كان ذلك كافيًا لحل كل مشكلة.
“لكن… كيف لي أن أسرق هذا بالذات؟! فيمَ كنت أفكر؟!”
المصيبة هذه المرة أن الطرق المعتادة لا تصلح.
فمن المستحيل أن تُصرَّف مسروقات شخص من سلالة ملكية، بل ودوق!
أما إشراك داينيلو في الأمر، فذلك لا يعني سوى جرّ الجميع إلى الموت معها.
“الموت معًا؟ مستحيل!”
لقد جمعها بداينيلو رابط منذ الطفولة، منذ أن كانت طفلة هزيلة تموت جوعًا في الأزقة.
مجرّد فكرة أن يجرّه خطؤها إلى الهلاك، كانت كابوسًا لا تريد حتى تخيّله.
“وإن انتهى بنا الأمر إلى الجحيم… فهل عليّ أن أستمع إلى ثرثرته هناك أيضًا؟! لااا! هذا أسوأ!”
وضعت يديها على رأسها وارتمت على السرير متظاهرة بالبكاء.
بالطبع لم تكن دموعًا حقيقية، فقد بكت بما يكفي في طفولتها، والآن صارت تعرف أن وقت البكاء أفضل أن يُستغل في التفكير.
كانت تبكي تمثيلًا، لعلّ الحاكم الذي يعاينها من الاعلى يتأثر ويقدّم يد العون.
“لا بد أنّك تراقبني… صحيح؟ ما أرسلتني هنا لتقول لي أنقذي العالم بالحب ثم تركتني وحدي بلا متابعة؟”
لكن ميلونا لم تكن واثقة من ذلك.
فالحاكم الذي ابتسم لها من قبل وهو يقول: “أما يَسُرّكِ أن تُنقَذ الدنيا بالحب؟” بدا لها غير مسؤول إطلاقًا.
ومجرد التفكير في ذلك جعل عرقًا باردًا يسيل على ظهرها.
“أيها الحاكم! هل تسمعني؟ أنا أغير الخطة! لن تكون خطة أنت أول من صرخ حين رأى وجهي، بل الخطة القديمة: أنت أول من سرقتُ منه وتبتُ بنفسي!”
شعرت وكأنها داينيلو، الذي يرهقها بجعلها تغيّر وتعيد ترتيب ديكور متجر الزهور كله، ثم يقول في النهاية: “أظن أن الشكل الأول كان أفضل.”
لكنها قررت أن تكون وقحة هذه المرة.
فالخطة الأصلية… كانت أضمن.
“لكن… كيف أعترف بالجريمة؟ لو ذهبت فقط لإعادة الكيس، فسوف يعتقلونني فورًا!”
ميلونا، بخبرتها، لم تُعتقل يومًا.
أحيانًا كانت تُطارَد من الحرس، لكنها دومًا تملك ثلاثة مسارات هروب على الأقل.
أما داينيلو فكان يتهكم: “اللص الحقيقي لا بد أن يزور السجن مرة واحدة على الأقل!”، قبل أن تعاقبها دانييلا بمحاضرة طويلة جعلت أذنيها تنزف من كثرة الكلام.
“ولنقل أنني اعترفت… ثم ماذا؟”
هي نفسها كانت تعرف أن كل هذه “خطة” بالاسم فقط.
في الحقيقة، لم يكن سوى تفكير بصوت عالٍ لتهدئة نفسها وسط ضباب الطريق المسدود.
حتى المزاح بدا أخفّ من ثقل المأزق.
“لكن في النهاية… لم أفسد الأمر أنا، بل هاتان اليدان اللعينتان!”
كانت توبّخ يديها وكأنهما كيانان مستقلان عنها.
نوع مختلف من الهروب من الواقع، مثلما فعلت قبل ساعة حين كان صدر ويد يحتضنها.
لكنها لم تسمح لخيالها أن يستمر طويلًا.
لطالما كانت واقعية: تفضل كسرة خبز أمام عينيها على أحلام وردية بعيدة.
“أولًا… فلنعترف: لقد فشلت.”
نعم، لقد فشلت.
حتى قبل أن تبدأ مهمتها، انهارت الخطة.
صحيح أن القناع حجب نصف وجهها، لكن عينيها المميّزتين لم يخفيا.
ولو كان العكس، لوجدت بصيص أمل.
أما الآن، فلا سبيل للظهور أمام ويد مجددًا.
النتيجة؟ واحدة.
“الهرب.”
ما زال أمامها وقت قبل أن تُفتح أبواب الفناء.
إذن لا بأس لو اختفت فترةً حتى تُمحى ملامحها من ذاكرة الدوق.
“سأعود مع تغيّر الفصول… وحتى ذلك الحين، سأستمتع برحلتي مع المال المدّخر.”
أشارت إلى مكان تحت الفراش، حيث خبأت ثروتها التي ادّخرتها قبل عودتها.
لم تستمتع بها في حياتها السابقة، وهذه فرصتها لتبذيرها قبل الموت.
“كل شيء سيتدبّر! ربما… ربما!”
كان فيها شيء من الشك، لكن التفكير الإيجابي مهم.
معلمتها التي ربّتها دائمًا ما قالت: “إلى جانب السلامة، أهم ما تحتاجينه للبقاء هو التفكير الإيجابي.”
وكثيرون سخروا من هذا الكلام، لكن بقاء ميلونا حيّة كان الدليل على صوابه.
“لا داعي لتجهيز أشياء كثيرة. فقط المال، ثم أهرب. مع أول غفلة من الحرس، أتسلق الأسوار وأنجو.”
أومأت برأسها وهي تردد كلماتها، ثم تجمّد وجهها.
فالكيس الفاخر الذي يخص ويد لا يزال على سريرها، يلمع كأنه يسخر منها.
“اللعنة… ماذا أفعل بك؟”
لا تستطيع أن تحمله، ولا أن تتركه.
حرقه إهدار، وتركه خطر.
ومع تزايد صداعها، وصلها صوت خافت من النافذة.
صوت لم يكن ليُزعج غيرها… لكنه بالنسبة لها كان كطبول الحرب.
وقع أقدام عديدة، متناسقة، محمّلة بالسلاح.
أصوات تعرفها جيدًا منذ عودة ويد للحروب السابقة.
ابتلعت ريقها بقلق.
“لا… لا يمكن أن يكونوا عرفوا هويتي بهذه السرعة…؟! لكن، لماذا الصوت يقترب أكثر؟!”
صوت الجموع، همهمة الجنود، يزداد وضوحًا.
وبينما كانت تدعو أن يكون مرورًا عابرًا، جاءها صوت صاحبة المتجر أسفل الدرج، مرتجفًا.
فعرفت أن دعاءها لم يُستجب.
“اللعنة!”
ارتجّت درجات السلم الخشبية القديمة تحت وقع خطوات الجنود الصاعدة.
وفوق ذلك، كان المشهد خارج النافذة كفيلًا بأن يُغرق ميلونا في اليأس.
جنود يرتدون دروعًا لامعة يطوقون متجر البقالة من كل جانب.
ثم توقفت الخطوات الثقيلة أمام الباب.
الآن… إذا فُتح ذلك الباب──
[أنا انتهيت!]
وليس أنا فقط.
العالم كله انتهى! كيف يمكن أن يُغضّ الطرف عن حادثة كهذه: لصّة ظهرت في نفس توقيت الاغتيال وسرقت كيس نقودٍ من أحد أفراد العائلة الإمبراطورية!
[يا إلهي! طلبتُ فقط قليلًا من المساعدة! إن هلك هذا العالم فستكون غلطتك أنت!]
كانت ميلونا تلعن الحاكم في سرّها، لكن في اللحظة التي سمعت فيها صرير الباب وهو يُفتح، ارتمت على الأرض مبسوطة الجسد كقطعة قماش.
“أعتذر! أرجوكم… اتركوا لي حياتي!”
هي تعرف جيدًا أن أي مقاومة في وضع كهذا عديمة الفائدة.
لو كان بوسعها لقدّمت كفيها متشابكتين لتتوسل، لكن دور اليدين الآن أن تظل ملتصقة بالأرض، لتُظهر أنّها لا تُفكّر حتى في أدنى درجة من التمرد.
“ارفعي رأسك.”
لا بد أنه يريد التأكد من وجه المجرمة، أليس كذلك؟
ابتلعت ريقها ببطء، ثم رفعت ميلونا رأسها على مهل.
“واو…”
الكلمة أفلتت من فمها دون وعي.
بشرة بيضاء ناعمة، وحاجبان وسيمان تحتَهما عينان أرجوانيتان داكنتان تلمعان، وأنف مستقيم، وشفاه حمراء منطبقة بخط حاد.
أما شعره الأسود فقد رُبط بخفة وتدلّى على كتفيه… كان رجلاً وسيماً حدّ الانبهار.
للمرة الأولى ترى ميلونا عينين أرجوانيتين بهذا العمق والحدة. فوجدت نفسها تحدق فيه وكأنها مسحورة.
“أجل… أنتِ هي.”
اهتز صوته، عندها فقط أدركت ميلونا أنّ الموقف يسير في اتجاه غريب جدًا.
“أخيرًا… وجدتك.
”
“… عفواً؟”
“أنا… أنا والدك.”
“… هاه؟”
حدّقت ميلونا في عينيه الأرجوانيتين المبتلتين بالدموع، ولمعت فكرة في رأسها:
[مساعدة الحاكم… يبدو أنها انحرفت إلى اتجاه خاطئ.]
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 6"