الفصل 18
بينما كان وايد يقلق بصدق من أن يكون قد أصاب الإمبراطور خللٌ في عقله، كانت ميلونا تستعيد في ذهنها ما قرأته قبل قليل بأم عينيها في بطاقة الدعوة.
لو كان التوأمان دانيلو ودانييلا قد شاهدا البطاقة، لكانا قد بدآ أولًا بالتأكد مما إذا كان الذهب الذي يلمع في زخارفها حقيقيًا أم لا. غير أن ما كُتب بداخل تلك البطاقة الفاخرة كان هو المشكلة الحقيقية…
«حفل بلوغ من؟ أنا؟ لماذا حفل بلوغي أنا؟ الإمبراطور بنفسه؟ ها؟ أهذا حقًا حفل بلوغي؟»
ميلونا تجمدت مكانها، حتى إنها لم تفكر في استدعاء اسم الحاكم الذي بدأت تتيقن مؤخرًا من وجوده.
أي عبث هذا بحق السماء؟
أن تتلقى بطاقة من الإمبراطور نفسه كان بحد ذاته أمرًا مربكًا، فكيف إذا كان يريد إقامة حفل خاص بها وحدها!
«أهذا واقع حقيقي؟ ليس حلمًا؟ مستحيل… حتى خيالي الجامح لا يمكن أن يتجاوز حدوده إلى هذا الحد!»
شعرت أنها تكاد تجن، ومع ذلك لم يكن مسموحًا لها أن تفقد وعيها.
منذ أن سمعت خبر أن وايد قادمٍ إلى هنا وهو يحمل دعوةً من الإمبراطور، وهي تكاد تنفجر من الارتباك.
بعد أن ألقت اعترافًا أحمق وسخيفًا، دون أي استعداد نفسي، ها هي تجد نفسها خلال يوم واحد فقط أمام فرصة لرؤية ذلك الوجه الوسيم من جديد!
لم يكن هذا إلا تدبيرًا من السماء لربطهما ببعضهما بالقوة.
كان ينبغي أن يكون الأمر عونًا، لكنها لم تشعر سوى وكأنها تواجه كارثة قادمة.
وعندما وصلها خبر أن المركيز ووايد بانتظارها في قاعة الاستقبال، كانت لا تزال شاردة الذهن، أشبه بإنسان باغته إعصار مفاجئ، عاجز عن التصرف.
“…جلالته تكرم وترك للآنسة خيارًا أيضًا.”
بخلاف سائر الدعوات، كان في آخر السطر عبارة إضافية: «إن لم ترغب آنسة غلوفر بحضور الحفل، فسيُلغى الأمر وكأنه لم يكن.»
لكن من ذا الذي يجرؤ على رفض دعوة من الإمبراطور؟
“ألن تجيباني بعد؟ أية نوايا يحملها جلالته بهذا؟”
“أنا، الصعلوك، كيف لي أن أدّعي معرفة مقاصد الإمبراطور العظيم؟”
“صاحب السمو!”
“حتى أنا لا أعلم. إن لم يعجبكم الأمر، فارفضوه.”
كان الجميع في القاعة يعرفون أن ذلك مستحيل.
قبضت ميلونا يدها المغطاة بالقفاز الأسود، الذي لا يليق أبدًا بفستانها، ثم نظرت إلى بطاقة الدعوة في يد أبيها وقالت بحزم:
“سأحضر بكل سرور.”
“ميلونا…”
“كيف أرفض دعوة من جلالته؟ بل ومن يد دوقٍ جليل جاء بها بنفسه!”
صحيح أن وايد لم يكن إلا قد انتزعها من كبير الخدم الإمبراطوري قبل أن يوصلها، لكن النتيجة في النهاية أن أحد أفراد العائلة الإمبراطورية سلّم بطاقة الإمبراطور بنفسه.
«حتى لو كان وراء الأمر غرضٌ خفي، فلا حول لي ولا قوة.»
لقد تربت في أزقة موحشة، وإن كان لها أوصياء، إلا أن البقاء على قيد الحياة في تلك البيئة لم يكن ممكنًا إلا بالتأقلم مع طباعها.
إن كان لا سبيل لتجنب الفخاخ، فكان الحل أن تُحطَّم بعنف.
وهكذا نشأت فلسفة ميلونا: “السلامة أولًا، لكن لا مجال لتفادي كل شيء.”
«والآن، لم أعد وحيدة، أليس كذلك؟»
قد يكون رابطها مع أبيها لا يزال غريبًا ومتحفظًا، لكنها كانت متيقنة أنه سيكون أول من يقف لحمايتها إن وقع الخطر.
ليلة واحدة فقط قضتها في هذا القصر، لكنها كانت كافية لترسخ ذلك اليقين.
“لا تقلقوا. ما الذي قد يحدث أصلًا؟”
“لكن…”
“حتى لو وقع ما لا يُحمد، فأنا أعرف كيف أخرج نفسي من الورطات. وفوق ذلك… هناك المركيز… أعني، أبي… أيضًا.”
“صحيح! أنا هنا! لا تقلقي يا ابنتي! سأحل كل شيء بنفسي!”
عينا المركيز البنفسجيتان، المليئتان بالقلق منذ قليل، أضاءتا فجأة.
بالنسبة لميلونا، التي اعتادت أن تحمل أعباء حياتها وحدها منذ صغرها، بدا الموقف غريبًا ومحرجًا.
لكن لو سُئلت إن كانت تكرهه، فالجواب قطعًا لا.
شعور طفيف بالحرج، نعم، لكنه كان يصاحبه دفء غريب يُثير ابتسامة لا إرادية.
ستذوب هذه الغرابة مع مرور الوقت، وما دام هو أبوها الحقيقي، الذي أكّد الحاكم نسبها إليه، فلن يزول الرابط مهما قيل.
غير أن وجه وايد، وهو يراقب هذا التبادل المليء بالثقة بين الأب وابنته، قد غشى عليه برود قاتل.
«سقط في حبها تمامًا بعد يوم واحد فقط.»
كان المركيز جليسيًا، صارمًا، عُرف ببرود لا يُخترق، لا يسمح لإبرة واحدة أن تنفذ إلى قلبه.
لكن ها هو يكشف كل ضعفه لابنته المكتشفة حديثًا، ويظهر لها جانبًا لم يره أحد من قبل.
عندها خطرت ببال وايد صورة الإمبراطورة الأرملة، التي غادرت العاصمة منذ زمن في رحلة نقاهة.
لو كانت في مكانه، وفقدت طفلها… هل كانت لتُظهر نفس الوجه الذي يُظهره المركيز الآن؟
«مستحيل.»
تذكر تحذيرها الصارم له عندما كبر قليلًا، وهز رأسه بابتسامة ساخرة، يطرد انزعاجًا اجتاحه فجأة.
ثم قال، وقد استعاد نبرة هادئة:
“إذن فلنعتبر أنكِ ستشاركين… والآن، أود أن تمنحيني بعضًا من وقتك، يا آنسة.”
“بأي شأن، يا صاحب السمو؟”
“سؤالي كان للآنسة، لا للمركيز.”
“إنها ابنتي.”
“وهل قلت غير ذلك؟ فقط، لدي ما أقوله لها وحدها.”
لو أنني أستطيع صفع هذا الرجل المتغطرس مرة واحدة فقط…
فكرت ميلونا في أن تطيح بيده بصفعة خيالية، بينما هو يبتسم ابتسامة مستفزة تسحق أعصاب أبيها.
لكنها لم تجد بدًّا من الإيماء برأسها موافقة، مع تنهيدة مخفية لم يلحظها.
«…ليتني أستطيع فسخ هذا العقد الغبي، لكن الثمن حياتي. آه، يا لها من مأساة.»
في عالمها القديم، كانت غرامات الإلغاء تساوي أضعاف العربون.
وهنا، ما دامت حياتها نفسها هي العربون، فلا مجال للهرب.
لا بد أن تُنقذ هذا العالم بذلك الحب البائس، أو تهلك.
غادرت القاعة برفقة وايد، والمركيز يوصيها بأن تصرخ طلبًا للعون لو حدث أي شيء.
“يبدو أن المركيز يعتز كثيرًا بحديقته.”
“سمعت أن زوجته، أي… أمي، كانت تحب الأزهار.”
“أجل، أظنني سمعت ذلك أيضًا.”
يا للحرج…
كادت ميلونا تختنق من التوتر، لكنها لم تجد منفذًا للهرب.
كما في المعبد، ها هو وايد يرافقها في خطواتها، يسد كل مخارج الهروب التي لطالما اعتادت أن ترسمها في ذهنها أينما ذهبت.
ضغطٌ خانق، تضاعفه حقيقة أنها لا تدري ما الذي ينوي قوله لها.
“فـ… فما الذي تودون الحديث عنه؟”
ألقت السؤال بسرعة، كما لو كانت تُنهي واجبًا مدرسيًا، ثم ندمت في الحال.
إذ إن وايد، الذي كان يتمشى متأنيًا وهو يتأمل أرجاء الحديقة، توقف فجأة، وركز نظره عليها بوجهٍ يحمل ابتسامة مشاكسة.
كانت نظراته، الوسيمة الواثقة، عبئًا يكاد يسحق أنفاسها.
“أشعر أن حديثنا بالأمس انتهى بسرعة شديدة.”
“أي حديث تقصدون؟”
“لقد اعترفتِ لي… ثم هربتِ.”
كانت تتوقع أن يأتي على ذكر ذلك، لكنها لم تحسب أن يواجهها مباشرة وبهذا الشكل.
قالوا إن النبلاء يجيدون الالتفاف بالكلمات… لكن يبدو أن بعضهم يفضل المواجهة المباشرة.
شعرت براحة كفها داخل القفاز تبتل بالعرق، وابتلعت ريقها بصعوبة.
“قلتِ إنكِ وقعتِ في غرامي من النظرة الأولى، أليس كذلك؟”
“…ن-نعم.”
“ثم صرختِ وهربتِ بعد ذلك؟”
“ك-كنت فقط مندهشة… أن أرى فجأةً شخصًا يطابق تمامًا مثالي الأعلى… ارتبكت بشدة، فهربت دون شعور.”
“وهل لي أن أعرف، ما هو مثالك الأعلى هذا؟”
السماء زرقاء صافية، والسحب البيضاء تنساب ببطء، والطيور الصغيرة تزقزق بمرح…
لكن لماذا يسيل العرق البارد على ظهرها في مثل هذا الجو الهادئ؟
رفعت ميلونا بصرها إلى عينيه الذهبيتين المتلألئتين تحت ظل رموشه الكثيفة، محاولة أن تستعيد رباطة جأشها.
كانت قد خططت لأن تختصر الطريق وتلقي بكلمة سريعة…
لكن—
من الواضح أنني لم أكن بكامل وعيي في ذلك الوقت.
وإلا فكيف لي أن أنطق بكلام كهذا؟ كيف كنت أنوي تدارك الأمر بعد أن أفلتت مني تلك الكلمات؟
وفي الوقت نفسه شعرت بالظلم.
إلى أي حدّ كان الموقف خانقًا حتى أرغمت على قول ذلك؟
فها هو أمامي، وجهه يفضح أنه لا يصدق كلمة مما أقول، لكنه يلمع من المتعة وهو يراقبني أتخبط!
وقفت أنظر إلى وايد وهو يحدق بي بنشوةٍ وكأن معاناتي مجرد عرض ترفيهي له، فما كان إلا أن بدأ الغضب يتصاعد في صدري ببطء.
‘أنا هنا أتنقل بين كل أنواع المصاعب من أجل أن أنقذ هذا العالم، وأنت…؟ أنت تعتبر الأمر كله لعبة مسلية؟’
بالطبع، وايد لم يكن يعرف أن ميلرونا تنوي إنقاذ العالم.
لكن حتى لو عرف… هل كان سيتخلى عن هذا الأسلوب المتعجرف ويتعاون معها بصدق؟
الجواب خرج من أعماقها سريعًا: “كلا.”
‘صحيح أنني في الأيام الماضية تركت نفسي تُساق وسط دوامة الأحداث… لكن لا تظن أنني بهذا الضعف.’
رفعت عينيها نحوه وهي تبتسم ابتسامة خفيفة.
“إنّ مثالي الأعلى في الرجل… هو الجميل ذو الطباع السيئة.”
“…ماذا قلتِ؟”
“أتعرف ذلك النوع؟ الذي لا يُطاق من شدّة سوء خلقه، وتكره مجرد الاقتراب منه… لكن وجهه بالغ الجمال لدرجة أن كل شيء آخر يُغتَفر أمامه. هذا هو نوعي المفضل.”
نعم، أنت. أنت بالذات.
لم تستطع إنكار أن مظهره لا غبار عليه، لذلك شددت على كلمة “جميل” وكأنها تطعنه وتثني عليه في آنٍ واحد.
كانت فخورة بنفسها لأنها وجّهت إليه طعنة مبطنة، لكن فجأة دوّى صوته بالضحك العالي حتى تجمدت ملامحها.
“بهاهاها! جميل ذو طبع سيئ؟ هه هه هه!”
“م-ماذا هناك يا سموّك؟”
“هاها! صحيح… لا يمكن إنكار أن طباعي ووجهي لا يُستهان بهما.”
…ماذا؟ هل اعترف للتو بأنه جميل سيئ الخلق بكل بساطة؟!
“لكن، يا للأسف… مثالي الأعلى ليس أنتِ.”
“…عفوًا؟”
“ومع
ذلك، لا يليق بي أن أرفض اعترافك مباشرة. آه! ما رأيك بهذا؟ أمنحك فرصة، يا آنسة العاشقة.”
ثم ابتسم ابتسامة عميقة، كمن يُلقي بتحدٍّ مفتوح.
“ابذلي جهدك في إغوائي، ميلرونا. فلربما… أقع في شَباكك بالفعل.”
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 18"