الفصل 15
في الليلة الماضية جلست ميلونا مع الماركيز في مكتبه، يداً بيد، وهي تكتم دموعها وتروي له ماضيها.
لم يكن في نيتها أن تجري اعترافًا كما لو كانت في محكمة كنسية.
لكن بما أنّ “غرفة ابنة المركيز” لم تُرتّب بعد، فقد احتاجت لشيء تتحدث عنه مع المركيز في أثناء الجلوس معه.
ورغم أن ميلونا لا تحب الحديث عن نفسها، إلا أنها لم تجد مفرًّا من سرد قصتها بعدما رأت أن كل ما يكرره المركيز هو: “آسف، آسف حقًا، أرجوك سامحيني.”
“أول ذكرى لي هي عن ذلك البيت… حيث كانت هناك امرأة تناديني بالجوهرة.”
أول ما يمكن أن يسمى بـ”ذكرى” كان دائمًا صورة تلك المرأة بعينيها الزجاجيتين.
كانت تناديها بجوهرتها، لا تطيق أن تبتعد عنها دقيقة واحدة. تلك المرأة فقدت طفلها منذ زمن وجنّت بعده.
لم تكن ميلونا تعلم ذلك، لكن تلك المرأة كانت هي من ساعدت في ولادة زوجة المركيز ثم خطفت الرضيعة — ميلونا — وهربت بها.
امرأة مريضة في عقلها لم تكتفِ بخطف الأيتام من الطرقات، بل لم تتردد في اختطاف أطفال لديهم آباء وأمهات لتناديهم “أولادي”.
لكن “أولادها” لم يكن لهم عمر أطول من تسع سنوات.
فبعد أن يتجاوزوا التاسعة تهملهم، وهذا المرض جعلها كنزًا بالنسبة لتجار البشر: يخطفون الرضع ليسلموهم إليها، ثم يأخذون الأطفال الذين تتخلى عنهم عند التاسعة ليباعوا عبيدًا خارج الإمبراطورية.
هم يلقون عليها الجزء المتعب من العمل، ويجنون الأرباح. تجارة عسلية بكل معنى الكلمة.
ميلونا سقطت بين يديها في الوقت الذي كانت فيه تلك التجارة تنمو في الظل.
ورغم أن ميلونا كانت واحدة ممن أتت بهم المرأة بنفسها، إلا أن التجار عاملوها كـ”سلعة” من سلعهم.
كانت فتاة صغيرة بملامح نبيلة وعينين براقتين، جميلة بحق. لذلك عاملوها كما لو كانت “جوهرة”.
لكن معاملة الجوهرة تلك لم تتعدّ كونها أقل ضربًا من باقي الأطفال حين يتعرضون للتأديب.
[جوهرتي… أمك تحبك.]
كانت المرأة أحيانًا تقرأ لها القصص وتهمس بذلك. مشاعر لم تُظهرها أبدًا لبقية الأطفال.
وربما لأنها شهدت مخاض زوجة المركيز وولادة ميلونا بعينيها، ازداد تعلقها بها أكثر من الآخرين.
لكن هذا التعلق جلب كارثة على تجار البشر.
[هذه المجنونة! ماذا؟! تقول إنها ابنتك؟ هذه بضاعة لنا!]
[ابنتي! ابنتي أنا!]
حين بلغت ميلونا التاسعة، جاء الرجال كعادتهم ليأخذوا الأطفال الذين تخلّت عنهم المرأة.
لكن هذه المرة، رفضت أن تسلّم ميلونا، محتضنة إياها ومغروسة أظافرها في ذراعها حتى سال الدم.
[أتدركين كم تساوي هذه الصغيرة؟! إنها تنزف! اسحبوها حالاً!]
بينما طال الجدال، اندلع حريق.
لا أحد يعرف السبب. كل ما بقي في ذاكرة ميلونا هو أن النار اشتعلت في ذلك القصر الخشبي القديم حيث حُبست مع الأطفال، وأن الناس اجتمعوا لإطفائه.
أنقذوا ميلونا وبقية الصغار دون جرح واحد. أما المرأة والتجار فقد ماتوا — قيل اختناقًا بالدخان أو احتراقًا بالنار، أو كلاهما.
لم يهم ميلونا أيّهما كان.
الأطفال أُرسلوا إلى دار أيتام قريبة، لأن أحدًا لم يرد أن يتكفل بهم. إلا أن مدير دار الأيتام تقدّم بنفسه وتكفّل.
لكن منذ أول يوم، أدركت ميلونا:
“تفوح منه رائحة نتنة.”
حدسها كان سيئًا للغاية.
ونظرة المدير إليها… نفس النظرة التي رآها في عيون تجار البشر. نظرة ترى فيها سلعة ثمينة.
فهربت من دار الأيتام بلا تردد.
“لقد تعبت كثيرًا، لكن لا أندم.”
حياتها في الأزقة الخلفية كانت قاسية.
قاسية لدرجة أنها شعرت كل يوم وكأنها تذبل وتزحف نحو الموت.
ولولا أن “ذلك الشخص” انتشلها، لكانت جثة هزيلة على الرصيف.
“لا أعرف اسمه. كان يرتدي زيّ كاهن، فناديته بالكاهن فقط… لكنه لم يكن كاهنًا عاديًا على ما أظن.”
ذلك الكاهن كان يخفي وجهه دائمًا تحت غطاء.
كان يأوي الأطفال من الأزقة، ومن بينهم ميلونا.
بل هو من جمع بينها وبين دانييلو و دانييلا.
“علّمني القراءة والكتابة، وأطعمني، وأعطاني سريرًا دافئًا.”
وعندما بلغت العاشرة، أهدى لها اسمًا.
كانت تُدعى دائمًا “هذه، ذاك، أيتها الطفلة، أيها الصغير”، والآن أصبح لديها اسم.
لو كان لها أن تدعو أحدًا “أمي”، لكانت ذلك الكاهن، لا تلك المجنونة.
“لكن حين بلغت الثالثة عشرة… اختفى دون أثر. لم أستطع العثور عليه بعدها.”
في الثالثة عشرة يمكن للمرء أن يفعل أشياء كثيرة.
في ذلك الوقت صار دانييلو ودانييلا يُعرفان بـ”الطائر الأزرق” و”الطائر الأسود”.
ميلونا استطاعت النجاة بما تعلمته من الكاهن ومن الأزقة.
وعندما بدأت تكسب المال، صارت تزور المعبد، تقدم التبرعات وتساعد في الأعمال التطوعية.
فلم تجد وسيلة أخرى لرد الدين.
“ثم اكتشفت أنني ابنة المركيز الضائعة…”
لكنها لم تستطع أن تقول لأبيها الحقيقي إن وظيفتها الأساسية هي “متخصصة في نقل الملكية” (أي الاحتيال).
فقدمت نفسها فقط كموظفة في محل زهور.
شيء في ضميرها تحرك، ضمير علّمها إياه الكاهن، وإن كانت قد نسيته لبعض الوقت.
وبعد أن أنهت قصتها، لم يستطع المركيز إلا أن ينفجر في بكاء صامت.
رجل بالغ، يمسك يدها ويذرف الدموع بصمت… مشهد لم تره ميلونا في حياتها.
ولولا تدخل الخادم راينر ورئيسة الخدم فاني، لظل يمسك بيدها ويبكي حتى بزوغ الفجر.
وفي الصباح التالي، حين التقت به على مائدة الطعام، رأت عيناه متورمتين من كثرة البكاء. لم تستطع إلا أن تجلس بوجه لا هو ضاحك ولا باكٍ.
“يمكنك مناداتي باسمي. لا، أرجوك، نادني باسمي.”
قالتها ميلونا وهي ترفع فنجان الشاي في غرفة زوجة المركيز، متجنبة عينيه.
دموع الآخرين ترهقها.
وخاصةً عندما تكون مليئة بالصدق… تجعلها تشعر بثقل شديد.
عقلها تقبّل أنها ابنته، لكن قلبها لم يفعل بعد.
“بصراحة، أنا ممتنة لأنك أبقيت اسمي كما هو، لكن…”
أسماء النبلاء لا تُعطى عشوائيًا.
ميلونا لم تعرف التفاصيل، لكن حتى في حدود معرفتها العامة، فهمت أن للاسم معنى خاصًا.
ومع ذلك، سجّلها المركيز في شجرة العائلة كـ”ميلونا غلوفر”.
“بفضل ذلك الاسم… أنتِ الآن أمامي.”
لو لم يمنحها الكاهن اسمًا، لما عاشت حتى الآن.
المركيز كان يعرف ذلك.
“ربما ذلك الكاهن هو الذي دلّنا على مكانك.”
هوية الكاهن الذي أبلغ بمكانها ثم اختفى كالخيال لم تُعرف بعد.
المعبد لم يجد أثرًا له، ولا وجدوا كاهنًا كان يعمل في الأزقة وقتها.
“ربما هي عناية الحاكم…”
تمتم المركيز، فارتجفت ميلونا بلا قصد.
ربما قالها بلا معنى، لكن وقعها على أذنها كان ثقيلًا.
من موقع ميلونا، التي قابلت الحاكم مباشرة، لم يكن بوسعها أن تتجاهل تلك الكلمات ببساطة.
“لـ، لو كان الحاكم يريد المساعدة، لما جعلني أضيع من البداية، أليس كذلك؟”
“ذلك…… صحيح.”
ارتسمت على وجه المركيز ملامح أكثر كآبة، مما جعل ميلونا تشعر بوخزة خفيفة من الذنب.
لكن بما أنّ على ظهر يدها وسمًا مقدسًا، كان لابد لها من أن تمنع تفكير المركيز من الانجراف نحو “الحاكم”.
فوضعت كوب الشاي بعجلة كما لو كانت تريد إخفاء يدها المغطاة بالقفاز، ثم شبكت يديها فوق ركبتيها بحيث يكون ظهر اليد إلى الأسفل.
“المهم أنّكم وجدتموني في النهاية!”
“أجل، صحيح. أنا من وجدتُك.”
“نعم! بالضبط!”
“إذن…… هل يمكنني حقًا مناداتك باسمك؟”
“نعم! أرجوك!”
“إذن…… ميلونا، يا ابنتي…….”
كلمة يا ابنتي بدت ثقيلة على أذنها، لكنها على الأقل أفضل بكثير من يا صغيرتي.
ابتسمت ميلونا ابتسامة متكلّفة للمركيز الذي كان يحدّق بها بعينين دامعتين مجددًا، وفي داخلها أطلقت تنهيدة مكتومة.
وفي تلك اللحظة، كان ويد يجلس في القصر الإمبراطوري أمام الإمبراطور على انفراد.
“حقًا هي ابنة المركيز؟”
“نعم، جلالتكم. الكاهن غانون هو من تحقق بنفسه، فالأمر مؤكد.”
“إذن المركيز وجد ابنته الضائعة…….”
“لو أردتم التحقق لكان من الأسهل أن تسألوا بنفسكم، فلماذا استدعيتموني من أجل هذا السؤال؟”
ابتسم ويد وهو يوجه سؤاله إلى الإمبراطور الغارق في التفكير، بشفة مائلة باستهزاء.
لو كان شخص آخر أبدى مثل هذا التصرف، لصاح رئيس خدم الإمبراطور القابع خلفه فورًا بأن سلوكه وقح.
لكن رئيس الخدم لم يفعل، بل اكتفى بالابتسام وكأنه معتاد على أسلوب ويد، واقفًا وراء الإمبراطور كظله.
“هل سبق لك أن التقيت بابنة المركيز؟”
“حتى في أعماق المعبد صارت عيونكم تتدخل الآن؟”
“عليك أن تجيب فقط، لا أكثر.”
“نعم نعم، أعلم أنني لست مؤهلًا لطرح الأسئلة على أخي الأكبر.”
ويد، الذي سمح لنفسه بالسخرية كما شاء، رفع عينيه نحو الإمبراطور الجالس مقابل
ه.
شَعر أشقر كالذهب المذاب تحت أشعة الشمس، وعينان ذهبيتان مطابقتان تمامًا لعينَيه.
إمبراطور الإمبراطورية، وأخوه الوحيد الذي “بقي حيًّا”، كان يحدّق فيه بوجه خالٍ من أي تعبير.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 15"