الفصل 12
مهما فكرت، فقد بدأت ميلونا تسير في الممر خلف الكاهن الغريب غانون، الذي بدا كأنه مجنون بطريقة جميلة، وهي تحاول إقناع نفسها أن الوضع الحالي ليس سيئًا تمامًا.
بفضله تخلّصت من التواجد في نفس المكان مع وايد، وتخلّصت أيضًا من نظرات المركيز الذي كان يحاول كبح دموعه كلما رآها.
وفوق ذلك، حصلت أخيرًا على ما كانت تتمنّاه: وقت لترتيب أفكارها. صحيح أن ذلك الوقت لن يطول، وستعود لتواجه المشاكل من جديد، لكن في هذه اللحظة بالذات شعرت بالراحة.
غانون: “إنه أمر عجيب حقًا.”
ميلونا: “……عفوًا؟”
غانون: “فالكاهن الأعلى، الذي لم يكن يبدي أي اهتمام سوى بمتابعة النور، صار يُظهر اهتمامًا كبيرًا بالآنسة.”
قبل قليل فقط قالت لنفسها إن الوضع مريح؟ تسحب كلامها.
كلمات غانون اللطيفة المحمّلة بالرهبة جعلتها تتوقف فجأة وتتجمد مكانها.
فاهتمام أصحاب المقام الرفيع لطالما جلب الكوارث على من هم دونهم.
فما بالك بالكاهن الأعلى نفسه، الذي قيل إنه يُبدي اهتمامًا بها؟
شعرت ميلونا وكأن جرسًا هائلًا مجهول المصدر يدق في رأسها، نذيرًا بمستقبل مخيف، ورفعت ببطء رأسها نحو غانون الذي توقف بدوره ونظر إليها.
ميلونا: “ما، ما الذي تقصده بالضبط……؟”
غانون: “لا معنى خاص. مجرد ملاحظة لا أكثر.”
ألقت يديها خلف ظهرها تخفيهما لا إراديًا، وابتلعت ريقها. صحيح أن أحدًا لم يعرف بأثر الوصمة على يدها، لكنها شعرت فجأة وكأن كل شيء قد انكشف.
لحسن الحظ، لم يُضِف غانون شيئًا آخر، بل عاد يمشي في الممر، فتنفست ميلونا الصعداء ولحقت به.
****
بعد مسافة طويلة، وصلا إلى ممر ينتهي بباب ضخم. وما إن وقفا أمامه حتى أخذ الباب يُفتح ببطء، كأنما كان ينتظرها.
رأت من الداخل مشهدًا جعلها تفتح فمها دهشة:
جدران مغطاة بقطع زجاج صغيرة بحجم الكف، مصطفّة مثل خلية نحل، تتخللها آلاف الأشعة الضوئية التي اجتمعت لتغمر تمثالًا عظيمًا قائمًا في وسط القاعة، مانحة المكان جوًا مهيبًا غامضًا.
غانون: “عادةً يدخل المرء هذا المكان بين يدي أحد الكهنة، أما الآنسة فلا تحتاج لذلك، يمكنك الدخول وحدك.”
بكلمات أخرى: لستِ رضيعًا حتى أحملك، ادخلي بنفسك.
تنهّدت ميلونا داخليًا، ثم دفعت نفسها بخطوات بطيئة إلى الداخل.
أمامها، وسط وهج النور، كان هناك التمثال. التمثال الذي جسّد ذاك “النور” الذي أخبرها سابقًا أن عليها أن تُنقذ العالم بالحب.
هل التمثال صُنع على هيئة النور، أم النور هو من قلد التمثال؟ لم تستطع التمييز. فقط رفعت رأسها نحوه مذهولة.
وفجأة، انغلق الباب خلفها بصوت خافت لا يناسب ضخامته، فتمتمت:
ميلونا: “……طيب، وماذا عليّ أن أفعل هنا بالضبط؟”
لم يشرح لها غانون شيئًا عن طريقة الطقس، ثم تركها وأغلق الباب! لحظة ضيق عابرة اجتاحتها، لكنها سرعان ما انجرفت مع رهبة المكان، وعادت تحدق بالتمثال وهي تقترب خطوة بخطوة.
وفي اللحظة التي وصلت فيها أسفل قدميه، غمرها ضوء أبيض ساطع.
صوت النور: “يسرني أن أراكِ مجددًا.”
لم يكن تمثالًا. كان النور نفسه، الحاكم الذي أعادها بالزمن، يقف أمامها وينتظرها.
ورغم أنه يخفي وجهه خلف حجاب، إلا أنها شعرت بوضوح بابتسامته وهو يمد يديه ليمسك بيديها برفق.
النور: “هذا مكان يمسّه قَدَري مباشرة، لكن لا أستطيع البقاء طويلًا.”
ميلونا: “آه، ذاك…….”
النور: “الوقت ضيق، فلنبدأ بالأهم. ميلونا، يا أغلى أطفالي.”
ميلونا: “نعم.”
النور: “تذكري جيدًا. أنا لا أخدع.”
ميلونا: “……عفوًا؟”
النور: “الخداع فعل أناني غبي يقوم به من يعاني النقص والضعف. ليس أمرًا يليق بي.”
حاكم يدافع عن نفسه مؤكدًا أنه لا يخدع؟!
صحيح، فقد كانت ميلونا مؤخرًا تلجأ إليه في كل حين، وتبثه همومها وتتهمه ضمنيًا بالكذب. لا عجب أن يشعر بالضيق.
سواء كان الحاكم يعرف معنى الظلم مثل البشر أم لا، فقد استمعت بصبر لشكواه كلها.
النور: “همم، أطلْت الحديث رغم قلة الوقت.”
ميلونا: “لا بأس، فالإنسان…… أقصد، حتى الحاكم ، قد يضطر للكلام إن شعر بالظلم.”
النور: “كما توقعت، لقد اخترت قلبًا نقيًا.”
غطى خده بخجل وضحك ابتسامة صغيرة خلف الحجاب، بينما هي اكتفت بالإيماء.
النور: “حان وقت الإجابة عن أكثر ما يشغلك.”
ميلونا: (تقترب بتركيز)
النور: “أنتِ بالفعل ابنة المركيز الحقيقية.”
ميلونا: “……لماذا؟”
النور: “لأنك حقًا ابنته.”
كأنها توقعت ذلك منذ أن بدأ يدافع عن نفسه، لكن سماعه مباشرة منه أثار سؤال لماذا في ذهنها.
مدّ يده ليمسّد شعرها الأسود الكثيف بحنان.
النور: “قبل أن أعيدك بالزمن، حدثت مشكلة صغيرة. لولاها لكنتِ عشتِ منذ البداية مع والدك في سعادة.”
ميلونا: “مشكلة؟”
النور: “لا أستطيع إخبارك الآن.”
ثم مد أصابعه ليقرص خدها برفق، مبتسمًا.
النور: “ستعرفين لاحقًا. إلى ذلك الحين، عيشي مطمئنة وتلقي الحب بلا خوف.”
ميلونا: “……تحبون تكرار كلمة ’الحب‘ كثيرًا.”
النور: “وكيف لا أعشق أجمل ما في هذا العالم؟”
ترك يديها، وبدأ يبتعد شيئًا فشيئًا. لم تحصل منه على إجابات وافية، لكنها امتلأت بطمأنينة غريبة من قوله: انغمسي بالحب كما تشائين.
النور: “سأظل أراقبك.”
ميلونا: “نعم.”
النور: “ستكونين بخير.”
ميلونا: “أنا جيدة في تدبير الأمور.”
النور: “ابحثي عني إن شئتِ، لكن باعتدال.”
ميلونا: “سأحاول.”
النور: “لا تنسي، ميلونا. أنتِ أحب أطفالي. والحب هو ما ينقذ العالم.”
ثم اختفى.
***
عادت إلى القاعة الأصلية، والتمثال أمامها كما كان، مغطى بحجاب حجري يوحي بابتسامة مخفية.
همست ساخرًة:
“أعتقد أنني الوحيدة في إمبراطورية ليسيوس التي حصلت على تأكيد نسَبٍ من الحاكم نفسه.”
طبعًا، هذا سر يجب أن تحتفظ به.
لو شاع أنها التقت بالحاكم وتحدثت معه، فستُحتجز في المعبد وتُعامل كقديسة.
رفعت يدها تتحسس وجنتها حيث لمسها النور، ثم استدارت لتغادر. لقد تلقت “المعمودية”، وتأكدت من نسبها، ولم يبقَ ما تفعله هنا.
فتحت الباب بنفسها هذه المرة، فوجدت عند المدخل كاهنًا لم تره من قبل.
الكاهن: “السيد غانون استُدعي إلى الكاهن الأعلى، ويعتذر أشد الاعتذار لأنه لم يتمكن من مرافقتك حتى النهاية.”
ميلونا: “لا بأس، أشكره على وصولي إلى هنا أصلًا.”
ثم خطرت ببالها ملاحظة: غانون، الذي قال إنه سيشرف على الطقس، لم يفعل في الواقع سوى أن يكون دليلاً للطريق.
لم تفهم ميلونا مطلقًا لماذا خرج كانون معها في الأصل إذا كان سيتخلى عنها في النهاية، لكن على الأقل، كان من دواعي سرورها أنها لن تضطر لرؤية وجهه ثانية في طريق العودة.
فذلك الكاهن، الذي بدا كأنه مجنون ببراءة، مجرد النظر إليه فترة طويلة لم يكن جيدًا لصحتها النفسية.
الكاهن: “المركيز وصاحب السمو الدوق بانتظارك في قاعة الاستقبال. سأرافقك في طريق العودة.”
… لو لم يقل هذا، لكانت ميلونا تشعر بالفعل بخفة وسعادة.
أما المركيز فانتظاره أمر طبيعي.
لكن، لماذا بحق السماء لا يزال وايد هنا، ولم يعد إلى قصره، بل ينتظرها؟
ميلونا: “صاحب السمو الدوق… لا يزال هنا؟”
الكاهن: “نعم.”
ميلونا: “لماذا؟”
الكاهن: “عفوًا؟”
ميلونا: “آه، لا، لا شيء…”
إنه بانتظار سماع سبب صرختي بالتأكيد.
(يا قلبي شكله وقع 🥰🥰)
ميلونا (تفكر): إنه عنيد! مخيف!
ارتجفت وهي تعانق كتفيها بذراعيها بعد أن تذكرت وجه وايد المبتسم وهو يغيظ المركيز.
ايها الحاكم … هل عليّ أن أسرق حب رجل مخيف كهذا؟
لم تمضِ بضع دقائق منذ أن وعدت النور بمحاولة تقليل النداءات له، لكنها الآن من جديد تكاد تناديه متوسلة أن يعيد النظر في مصيرها.
ميلونا: “أم… أيها الكاهن.”
الكاهن: “نعم؟”
ميلونا: “هل يمكنني العودة وحدي؟ لقد حفظت الطريق كله وأنا آتية! ورأيت أن الحديقة الداخلية مذهلة الجمال… إنها ليست مفتوحة للعامة، وقد لا أراها ثانية، لذا…”
الكاهن: “آه… هذا…”
عرفت ميلونا أنها تحتاج عذرًا معقولًا. الوقت ثمين، وإن كانت ستواجه وايد، فعليها على الأقل أن تلتقط أنفاسها أولًا.
فقاطعت كلمات الكاهن قبل أن يرفض، وقالت مسرعة:
ميلونا: “لن يطول الأمر، أعِدك! فقط سأمشي ببطء في الممر وأتأمل قليلًا… لن يتأخر أحد بسببي، أليس كذلك؟”
رفعت يديها متشابكتين حتى ذقنها، وأبرقت بعينيها المتوسلتين.
كانت تلك التعابير البريئة التي وصفتها دانيلّا ذات مرة بأنها تصلح لاستعطاف الناس، بينما وصفها دانيلو بالسخافة. لكن، على أي حال، كانت مؤثرة بما يكفي لسرقة محفظة شخص غافل بسهولة.
الكاهن: “لكن لا يليق أن تتحركي وحدك…”
ميلونا: “أرجوك… نعم؟”
في تلك اللحظة، بينما كان الكاهن يتردد على وشك الموافقة، انقطعت أجواء التردد بصوت بارد من آخر الممر.
وايد: “طلب ليس صعبًا حتى يحتاج لكل هذا التفكير، أليس كذلك؟”
خرج من الظلال الممتدة في الممر، فارتجف كلٌّ من ميلونا والكاهن على حد سواء من المفاجأة.
لكن ما صدم ميلونا حقًا كان كلمته التالية:
وايد: “إن كان القلق
كبيرًا… فسأرافق الآنسة بنفسي.”
عيون ذهبية متألقة بابتسامة باردة تلاقت مع عينيها البنفسجيتين المرتبكتين.
ابتسامة دافئة على وجهه، لكن نظرته… كانت كفيلة ببعثرة سكينتها بالكامل.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 12"