الفصل 11
كان الكلام غير منطقي قليلًا، لكن العالم في النهاية مكانٌ ينتصر فيه أصحاب الوجوه السميكة.
“حقًا؟ إذن حين رأيتَ الدوق لأول مرة لا بد أنكِ صرختِ أيضًا، صحيح؟”
(يعني والدها)
وكما أن الوقاحة تفوز أحيانًا، فهناك دائمًا من هو أوقح منها ليتغلب عليها، وهذه هي القاعدة الظالمة في هذا العالم.
ميلونا، التي فوجئت بأن سؤالها الجريء قوبل بسؤالٍ أجرأ منه من قِبل ويد، حدقت فيه مذهولة ثم عضّت شفتها السفلى بخفة كي لا يُلاحظ.
كانت تعرف أنه لن يتجاوز الأمر بسهولة، لكن لم تتوقع مثل هذا الهجوم المرتد.
وفوق ذلك، كان الدوق غلوفر حاضرًا في المجلس.
وجدت ميلونا نفسها في موقفٍ لا يمكنها فيه أن تكذب بسهولة، ولا أن تصمت، فألقت نظرة جانبية إلى الدوق محاولة التماسك بابتسامةٍ مصطنعة، ثم أجابت ويد:
“لم… لم أصرخ.”
للحظة وجيزة، خطرت ببالها فكرة أن تكذب بوقاحة أكثر وتقول إنها صرخت فعلًا، لكنها في النهاية اعترفت بالحقيقة بلسانها.
فميلونا كانت قادرة على أن تكون باردة الوجه كلما أرادت، لكن أمام الدوق، الذي جُرّ إلى هذه الخديعة الإلهية ليعترف بها كابنته، لم تستطع أن تُكدّس كذبة فوق أخرى.
(إذن ضميري الصغير بحجم حبة الفاصوليا لا يزال يشعر بالذنب…)
ابتسمت ابتسامة متيبسة كي تخفي ارتجاف فمها، وأخذت تلمح بعيونها نحو الباب المغلق.
كانت تعرف جيدًا أن الفرار أحيانًا هو الحل الأمثل أمام مشكلة لا يمكن حلها.
ولذلك، كان من الطبيعي أن يخطر ببالها الكاهن كانون، الذي غادر قبل قليل.
(إنها مسرحية ذات نهاية محددة على أي حال، أيها الإله! أسرع وأرسل خادمك إلى هنا!)
كانت تدرك أنها ستضطر إلى مواجهة ويد مرة أخرى عاجلًا أم آجلًا، لكن على الأقل الآن كانت تحتاج بشدّة إلى فرصة للهروب والتفكير بسلام.
أما ويد، الذي جلس مائلًا واضعًا قدمًا على أخرى، فكان ينظر إليها بعينين لامعتين كما لو أنه عثر على لعبة مسلية جديدة.
“إذن لم يكن الدوق قبيحًا لتصرخي، بل لأنني أنا الوسيم الأقرب إلى ذوقك؟”
“هاهاها… مستحيل، طبعًا…”
“سموك، أرجو أن تكفوا عن أسئلة تُحرج ابنتي.”
“ألستَ أنت أيضًا فضوليًا؟ أليست هذه الفتاة التي يقال إنها تصرخ كلما رأت وسيمًا، لم تصرخ حين رأت واحدًا من أوسم رجال الإمبراطورية وهو أنت؟”
“لستُ فضوليًا.”
“أم أنك انشغلت بالجلوس في المنزل حتى نسيت كيف تُسيطر على تعابيرك؟ وجهك يفضحك.”
“ربما عيناك هما من يخطئان الرؤية.”
“أتُشكك في نظر عيونٍ ملكية؟”
“بل أقلق على قوة بصركم، يا سمو الأمير.”
(إلهي، ألستَ تنوي إنقاذي حقًا؟)
بدأت ميلونا تتذمر في داخلها وهي تنظر إلى غلوفر وويد وقد دخلا في حرب كلامية بسببها.
أين ذهب الكاهن كانون، ولماذا لم يعد حتى الآن؟
ابتسامتها المصطنعة ترتجف، وعرقٌ بارد يسيل على ظهرها، لكنها لم تستطع أن تُظهر ضعفها.
“إن لم يكن الدوق قبيحًا، فأنا إذن الوسيم الذي يناسب ذوقها، لذا صرخت…”
“سموك! ما هذا الكلام؟! ذوق؟!”
“ولماذا ترفع صوتك هكذا، يا دوق؟”
“ذوق ابنتي ليس أمرًا لتُصدروا أنتم الحكم عليه!”
“لكنها بنفسها قالت إن لديها عادة تصرخ عند رؤية وسيم، فلماذا لم تصرخ عند رؤيتك؟”
“لأنها عادة، لا ذوق!”
“مهما يكن. استنتجت نتيجة منطقية فحسب.”
“عادة! وليست ذوقًا! وابنتي ذوقها ليس بهذا السوء!”
“هل تُلمح الآن أن وجهي كريه؟”
“أيعجبك الإمساك بالكلمات هكذا؟”
“نعم، أجدها مسلية.”
(إلى أين سيمتد هذا الجدال الطفولي؟)
رغم أن ويد لم يعد يسأل عن سبب صراخها، فإن متابعة هذا الجدال السخيف الذي بدا كأنه شجار أطفال، جعل رأس ميلونا يدور.
وفي تلك اللحظة، فُتح الباب أخيرًا، وظهر الكاهن كانون.
“يا كانون!”
“هاها، لم أكن أعلم أن السيدة ستستقبلني بهذه الحفاوة.”
(كيف لا أستقبلك! أنت منقذي!)
اندفعت ميلونا بصدق نحوه، ونهضت من مقعدها لتقترب منه.
بالنسبة لها في تلك اللحظة، كان هو المنقذ الحقيقي.
ولم تكن هي وحدها من شعرت بذلك، بل حتى الدوق غلوفر، الذي نهض جديًا هذه المرة، والقلق يطفح على وجهه وكأنه لا يحتمل الانتظار أكثر.
“هل منحكم النور الجواب؟”
“نعم.”
“إذن…!”
“مبروك يا دوق، لقد استعدت ابنتك حقًا.”
“…”
“لقد تحقق حلمكم أخيرًا.”
“آه…”
تمتم الدوق بأنفاسٍ متقطعة وهو ينظر إلى ميلونا.
لم ينطق بكلمة، لكن عينيه المرتجفتين، ونظراته المبللة بالدموع، وصوته المرتعش، عبّرت جميعها عن شعوره.
كأنه تخلص أخيرًا من حملٍ ثقيل كان يرهقه. مدّ يديه المرتجفتين وأمسك بيد ميلونا، وكفاه المبتلتان بالعرق دلّتا على توتره الشديد.
لكن ميلونا، العارفة بأن كل هذا مجرد خدعة إلهية، لم تستطع أن تواجه عينيه بصدق.
فالحاكن قد شهد بنفسه، ومن بعد ذلك من سيصدق نفيها؟
كل ما استطاعت فعله هو مجاراة فرحة الدوق بابتسامة مشرقة دون أن تسحب يدها.
“ابنة حقيقية، إذن…”
أما ويد، فقد استند إلى ظهر الأريكة، متشابك الأصابع على ركبتيه، يطرق بخفة على يده الأخرى، وعيناه تتأملان الاثنين بوجهٍ يصعب تفسيره.
“أعتذر يا دوق، لكنني مضطر لاستعارة الآنسة قليلًا.”
لكن من قطع لحظة التأثر تلك لم يكن سوى الكاهن كانون نفسه.
رفع الدوق رأسه ببطء، والدموع لم تجف بعد من عينيه، ونظر إلى كانون باستغراب.
“لِماذا…؟”
“لا تقلق يا دوق. لن أفصل بينكما مجددًا.”
“إذن ما السبب؟”
“لأن السيدة لم تنل معموديتها بعد.”
“آه…”
كان أطفال نبلاء ريشيوس يخضعون لمراسم المعمودية بعد مرور ثلاثة أسابيع على ولادتهم، عبر كاهن رفيع أو في المعبد مباشرة.
وبها يحصلون على اعتراف رسمي بأنهم من دمٍ نبيل، وتغدو بركة النور شهادةً على كونهم نبلاء “حقيقيين”.
ففي الماضي، اكتُشف أثناء معمودية أحد الأطفال أنه لم يكن إلا ابن خادم، بعد أن ظن الجميع أنه وريث نبيل. ومنذ ذلك الحين، صارت المراسم إلزامية لكل أسرة نبيلة.
“وبما أن النور هو من قادها، فسأتولى أنا معمودية الآنسة.”
“ه، هذا…!”
المعمودية عادةً من اختصاص الكهنة فقط: الكهنة العاديون لعامة النبلاء، والرفيعي المنصب لأصحاب الرتب العليا.
أما أن يتولاها أحد “التسعة” من الكهنة المميزين، فكان شرفًا لا يناله إلا أفراد العائلة الإمبراطورية.
لكن أن يتولاها كانون بنفسه بميلونا…؟
يكفي مجرد كونها الابنة الضائعة لعائلة غلوفر لتسلّط عليها الأعين كلها، بعضها فضولي وبعضها حاقد.
(وسيخلقون عيوبًا من العدم لينقضّوا على ابنتي…)
كأن الدوق كان يرى بأم عينه الذئاب التي ستهاجم ابنته طمعًا في تشويه سمعة بيت غلوفر.
الدوق لم يكن يريد أن تتعرض ميلرونا لجراحٍ أو هجومٍ لمجرد استفزازٍ فارغ.
“ألا ترون أن الأمر أعظم من اللازم؟”
“لا تقلقوا. فالكاهن الأعظم نفسه قد أذن بذلك.”
“ولكن…”
“أعرف ما يقلقكم يا دوق. لكن طالما من حضروا هنا يُبقون أفواههم مغلقة، فلن يعرف أحد.”
وانتقلت نظرة كانون نحو ويد، الذي ظل يبتسم بوجهٍ غامض لا يُقرأ.
“لا يمكن التغاضي عن طلب يصدر من خادم النور.”
“أشكرك.”
كانت النظرة أقرب إلى تهديدٍ رقيقٍ منها إلى رجاءٍ مخلص، لكن سواء كان ويد أو كانون، فقد تبادلا الابتسامات متجاهلين ما تحمله أعينهما من رسائل مبطنة.
“…أشكركم على هذا القدر من العناية.”
“لا شكر، فذلك كله من مشيئة النور.”
وفي خضم كل ذلك، بقيت ميلونا وحيدةً تمامًا، مستبعدة من كل النقاشات التي تسير بعكس إرادتها، فلم تستطع حتى أن تتنهد.
لقد قيل لها “أنقذي العالم بالحب”، لكن الأمر بدا كما لو أن الحاكم يزيح كل ما قد يعرقل ذلك “الحب”، بسرعةٍ مدهشة.
وهكذا، في لحظة واحدة، ارتقت من مجرد بائعة مشبوهة متخصصة في عقود الملكية في الأزقة الخلفية، إلى ابنة دوقٍ رفيعة المقام. عندها فقط، أدركت ميلونا إلى أي حد كان الحاكم جادًا في “الحب”.
(…حاكمي … صدقك مرعب…)
وإن كان بهذه الجدية، فما الذي سيفعله بعد ذلك؟ بما أنه هو من يحرّك الأحداث، لم يكن في وسعها حتى أن تخمّن خطوته القادمة.
“أتتفضلين بمرافقتي قليلًا؟”
الجملة في ظاهرها دعوة، لكن نبرتها أمرٌ صريح. وفوق ذلك، عيناه تتلألآن بضياءٍ مبالغٍ فيه.
لم تعرف ميلونا أكان هذا يُسمى جنونًا هادئًا أم جنونًا خفيًا، لكنه
ا عجزت عن تحديده.
“ألن تذهبي؟”
وهي تحدق في وجه كانون الوسيم، الذي بدا كأنه سيفعل أي شيء باسم الحاكم إن رفضت، لم تجد ميلونا بُدًا من التوجه مجددًا بنداءٍ داخلي إلى السماء.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 11"