1
الفصل 1
كان ذلك يومًا يهطل فيه المطرُ منذ الصباح كأنّ السماءَ قد انشقّت وسالت منها المياه.
تنفّس أنديل، صاحب الحانة الصغيرة في أحد أزقّة شارع بيلوت الخلفيّ، تنهيدةً حرجةً وهو يُطالع وجهه المتوتّر في المرآة.
والسببُ في ضيقه كان تلك الفتاةَ الجالسةَ عند الطاولة المقابلة التي تشرب الخمرَ بإفراط.
بطبيعة الحال، ليس في شرب الزبائن للخمر في حانةٍ ما خطأٌ يُذكَر.
لكنّ المشكلة الأولى هي أنّ هذه الحانة لا تستقبل في العادةِ الزبائنَ الغرباء، أمّا المشكلةُ الثانية فكانت أنّ الفتاة تمكث على هذه الحال منذ ثلاث ساعاتٍ كاملة.
‘لكن لا أستطيعُ طردَها أيضًا…….’
كان المطر لا يزال يهطل بغزارةٍ في الخارج.
ولو أنّها دخلت لمجرّد الاحتماء من المطر، لأعطاها مظلّةً وأرسلها في طريقها.
غير أنّها جاءت بثيابٍ مبتلّة كفأرٍ مبلول، تحتسي الخمرَ بوجهٍ يفيضُ بالحزن، وتكتمُ دموعها بصمتٍ شجيّ، ولم يكن أنديل من أولئك الذين يستطيعون أن يوجّهوا أمرًا بالطرد لمثل هذه الآنسة الرقيقة.
أمّا كونُ تلك “الفتاةِ الرقيقةِ التي تشرب الخمرَ بوجهٍ حزينٍ وتكتمُ دموعها” قد أنهت خمسَ زجاجاتٍ من أقوى أنواع الخمر في الحانة، فذلك لم يكن ذا أهميّةٍ تُذكَر.
على أيّ حال، كان المكانُ، الذي اعتاد الضجيجَ والحركة، غارقًا في صمتٍ ثقيلٍ أشبه بصمتِ المقابر.
ألقى أنديل نظراتٍ متردّدة بين الزبائن المضطربين والفتاة الوحيدة، ثمّ زفر ببطء.
عندها رفعت الفتاةُ زجاجةً فارغةً ولوّحت بها، تطلبُ المزيد.
قال أنديل بصوتٍ حذرٍ وهادئ:
“آنستي، لقد شربتِ كثيرًا بالفعل، فماذا لو توقّفتِ عند هذا الحدّ؟ سأُعدّ لكِ غرفةً في الطابق العلويّ، يمكنكِ أن ترتاحي هناك حتّى يتوقّف المطر…….”
“حسسننًا، زجاجةٌ أخرى…… لا، بل أكثر، كثييرة، كم واحدة؟ مئتااان؟”
“…….”
لقد بدأت تتحدث بالهراء تمامًا، وفقدت السيطرة، لكنّ لونَ وجهها لم يتغيّر، فبدت ظاهريًّا في كامل وعيها، مما جعل أنديل يبتسم ابتسامةً باهتةً محرجة.
لكنّه لم يكن ليستطيع تقديم المزيد من الخمر لمن وصلَ إلى هذا الحدّ من السُكر.
وهو يعرف أنّ السكارى حين يُمنعون عن الشرب يزعمون أنّهم بخير، ويُصبحون أكثرَ إزعاجًا.
قال برفقٍ مصطنع:
“أعتذر، لكنّ الخمرَ القويَّ قد نفد اليوم. لديّ نوعٌ أخفّ قليلًا، هل أرغبْتِ به؟”
“نعم، ذلك جيّد، شكرًا لك.”
اغتنم أنديل اللحظةَ واستبدل ما في الزجاجة بالماء دون أن تلاحظ.
كان هذا يسيرًا عليه، فأن تُخفي شيئًا عن عيني امرأةٍ عاديّةٍ ليس أمرًا صعبًا على الإطلاق.
وكما توقّع، لم تُبدِ الفتاةُ أيّ شكّ، بل نظرت إلى الزجاجة، وبدل أن تصبّها في الكأس، رفعتها مباشرةً إلى فمها.
كانت تجرعها بحماسٍ عجيب، حتى إنّ أنديل نفسه ارتبكَ رغم علمه أنّها تشرب ماءً.
وبعد لحظاتٍ وضعت الزجاجةَ جانبًا، مائلةً رأسها باستغراب.
“غريبٌ…… لِمَ هناك طعمٌ للماء في الخمر؟”
كانت مخارجُ حروفها متعثّرةً، غير أنّ لسانها ما زال يملك حسّ تذوّقٍ حادًّا.
لكنّ أنديل أجاب مبتسمًا بلا أدنى اضطراب:
“ذلك لأنّه خمرٌ صُنع خصّيصًا ليُشرب بسلاسةٍ كالماء، وله رائحةٌ قريبةٌ منه أيضًا.”
“آه، فهمت…….”
“لكن، آنستي، يبدو أنّ أمرًا سيّئًا قد حدث لكِ اليوم.”
قال ذلك ليُغيّر مجرى الحديث.
الفتاة، التي كانت ترفع الزجاجة لتشرب مجدّدًا دون اكتراث، توقّفَت فجأةً، وتجمدَ وجهُها.
ثمّ بعد لحظةٍ، خرجت من بين شفتيها كلماتٌ جعلت وجهَ أنديل يتجمّد هذه المرّة:
“هناك شخصٌ أريد قتله.”
إذن فهي ليست زبونةً عابرةً فحسب.
سادَ صمتٌ ثقيلٌ حتى خُيّل أنّ أنفاسَ الجميع انقطعت.
ضاقَت عينا أنديل قليلًا وهو يرمقها بحذر.
“ذلك الوغد…… ذلك الكلبُ الحقيرُ خانني. يا له من نذل!”
“آه؟ أعني…… فهمتُ، أي إنّه……”
“لكنّك تعلم؟ اكتشفتُ في النهاية أنّي كنتُ المرأة التي يخون واحدةً معها…… نعم، أنا كنتُ المرأةَ الأخرى…….”
تمتمت بكلماتٍ شاردةٍ، كأنّ عقلها قد فارقها، ثمّ رفعت زجاجةَ الماء – التي تظنّها خمرًا – وشربت منها مرّةً أخرى، تضحكُ ضحكةً فارغةً مفعمةً بالمرارة.
ثمّ تابعت كلامها بلا ترتيبٍ ولا وعي.
“قالَ لي إذا تزوّجنا فمالكِ لي ومالي لكِ، فساعدتُه ببعض المال.”
“ولم يُعدّها، وفَرَّ هاربًا.”
“كنتُ أنوي أن أبيع خاتم خطوبتنا، لكن في النهاية كان مجرد حبة زجاجٍ رخيصة…….”
“آه، هكذا؟ إنّه لأمرٌ مؤسفٌ حقًا.”
“نعم. إنه لأمرٌ مؤسفٌ.”
“لذلك أريد أن أقتله…… لكنّ قتل إنسان مهما كان حقيرًا فهو أمرٌ سيّئ……إذا ذهبتُ إلى السّجن…… ألن يحزنَ والدايّ؟”
“……بالطبع سيحزنان. لو أن ابنتي قالت إنها تريد قتل شخصٍ ما، لكنتُ أُفضّل أن ألطّخ يديّ أكثرَ من أن أراها تُساق إلى السّجن. فكيف لي أن أحتمل رؤية طفلتي يُقبَض عليها.”
“لكن والدايّ في السماء، لذا لا يستطيعان مساعدتي.”
“…….”
“أيها الوغد. أيها الحقير…….”
انقلب صدرُ المرأة التي كانت تهمسُ كأنّ عقلها مختلًّا إلى الأمام.
لم يمضِ وقتٌ طويلٌ حتى انطلقَ منها أنفاسٌ هادئةٌ وهي مغطّاةٌ بشعرها.
ضحكَ أنديل ضحكةً محرجةً وهو ينظرُ حولَه.
منذ أن قالت ‘أريد أن أقتله’ والجميعُ متحفّظون، لكنّه نظر باستخفافٍ إلى وجوههم المتلعثمة ثمّ هزّ رأسَه.
هي لم تَأتِ لطلبِ خدمةٍ…….
حينئذٍ بدأ الرجالُ ذوي الملابس السوداء يتحدثون كعادَتهم.
كان الحديثُ خافتًا، لكنّه عاد.
على أيّ حال، الزبونة التي سببت قلقه قد غلبها النّومُ من الشّراب.
تحقّق أنديل من الساعة المعلّقة على الحائطٍ، ثمّ نهضَ حاملاً الفتاةَ النّائمةَ إلى الطابق العلويّ لينقلها هناك.
في تلك اللحظةِ بالذات، فتحَ البابُ وأُدخل صوتُ المطرِ مع رجلين إلى الحانة.
وقفَ أنديل متلعثِمًا للحظةٍ مظهرًا ملامحَ ارتباكٍ غير مألوفةٍ عنه، ثمّ سارعَ في تحيّتهما.
“أهلًا وسهلًا، يا سيِّديّ. لقد أتيتما قبل الموعدِ المحدَّد.”
“انتهى العملُ أسرع من المتوقّع. لا أفهم لماذا يثيرون الشجارَ لو كانوا سيخسرون على الفور.”
“على الأقلّ حصلنا على ما نريد، لذا لم يكن ذهابُنا سُدًى.”
ضحكَ الأوّل قليلًا وقال متبرّمًا: “ما كان ينبغي أن أُتعب نفسي بالذهاب أصلًا.”
“ما هذا الكلام؟ بفضل حضورك، سارت الأمور على ما يرام. لولا مرافقتك لما رغبت في تخيّل ما قد يحدث لشخص ضعيف مثلي لو ذهبتُ بمفردي. على كلٍ، لقد حذّرناهم بأننا سنتجاوز هذه الصفقة مرةً واحدة فقط، وإذا تكرر الموقف فلن نرحمهم.”
” و بالمناسبة…….”
قالَ جيريل وهو يمسح شعره المبتل بطريقةٍ غير مبالية، ثمّ أمعَنَ النظرَ في المرأةِ الممدّدةٍ فتقلّصت حاجباه.
“من هذه؟”
بدَت عيناه الذهبيّتان الضيّقتان مليئتين بالنفور.
حين التفتَ إينوط، الذي خلَع معطفَه المبتلّ، إلى المرأة أيضًا، قالَ أنديل: “زبونةٌ عادية.”
من قبيل الصدفة، كانت المرأةُ جالسةً بجوار المقعدِ الذي يجلس عليه إينوك دائمًا.
جلَسَ في مقعدِه المخصّص كما اعتاد، فأخذ يقطب جبينه دون أن يدري.
حتى ذاك السكيرُ المعروفُ لم يستطع ألّا النفور من رائحة الخمرِ الكثيفة، وإمساكُ سكيرٍ بزجاجته وهو يعتبر زبونًا ليس بالأمر العادي، ويبدو أنّها لم تكن عميلةً طلبت خدمةً من النقابة.
بينما كان إينوخ يتأملها واضعًا ذقنَه على كفّيه، خرجت أصواتٌ من أركانِ الحانة فجأةً.
“يا سيِّدي المالك! تلك الفتاةُ لقد رُفضت من قبل خطيبها و تمت خيانتها، فأرجوك ارأف بها.”
“نعم، لقد سمعت أنّ الرجل كان حقيرًا لدرجةٍ مؤسفةٍ!”
“لقد ذكّرني ذلك بأختي في مسقط رأسي. أختي عانت كثيرًا بسبب الرجال…….”
“لكنكَ نحرت عنقه، أليس كذلك؟”
“قد يكون من السهل أن تمحو شخصًا من الوجود، لكنّ استعادةَ القلبِ الجريحِ والزمنِ الضائعِ أمرٌ مستحيلٌ.”
“آه…… هذا صحيح…….”
تساءل إينوط في سره عن سببِ تصرّفهم هكذا، ثمّ ألقى نظرًا متضايقًا عندما تلا تلك الكلمات أحدُ أعضاء النقابةِ بوقارٍ.
ضحِكَ أنديل وضحكةً خفيفةً، ثمّ قال لإينوك:
“يبدو أنّها دخلت بالصدفة لتتفادَى المطر. لا يبدو أنها تعرف هذا المكان، فسأرسلها بهدوءٍ عندما تصحو.”
“لا أظنّ دخولها كان صدفةً، فموقعُ هذا المكان غيرُ لافتٍ للصدفة في هذه الأيّام، والأمرُ مريبٌ.”
“سأتولّى أمرها بهدوء.”
ما إن أنهى أنديل كلامَه حتى قاطعه جيريل معترضًا.
استعمل الكلمة نفسها ‘بهدوء’، لكنّها جاءت بثقلٍ مختلف.
التعليقات لهذا الفصل " 1"