.:
الفصل 99
كانت رنايا تعرف أنّ سيلين ضعيفة البنية، فقد اعتادت أن تراها مريضة على الدوام حين كانت تقيم بجوارها.
لكنّها لم تكن يوماً بتلك الحال المزرية، كما لو أنّ لحمها قد تلاشى ولم يبقَ منها سوى العظم والجلد.
بدا وضعها أسوأ بكثير ممّا كان عليه في آخر لقاءٍ بينهما.
تساءلت رنايا في قلقٍ: ما الذي يُؤلمها؟ أيمكن أن تكون قد أُصيبت بداءٍ عضال كما ورد في الرواية؟
‘من الأفضل أن أستدعي الطبيب.’
فكيف يمكنها أن تقف مكتوفة اليدين أمام مريضةٍ تتعذّب؟
وبينما كانت تنهض من مقعدها بعد تنهيدةٍ طويلة، مدّت سيلين ذراعها الهزيلة لتقبض على طرف ثوبها.
“…رنايا.”
كان صوتها الذي كان يومًا صافياً رقيقاً، قد صار مبحوحاً متكسّراً.
أما عيناها، اللتان طالما تألقتا كالجواهر، فقد خبت بريقهما وتذبذبتا في حيرةٍ وارتباك.
من الطبيعيّ أن تشعر بالخوف، فهي استيقظت في مكانٍ لا تعرفه.
“هل عادت إليكِ بعض القوة؟”
“أين أنا…؟”
“في منزلي. أتذكرين أنّك فقدتِ وعيكِ فور وصولكِ؟”
أومأت سيلين برأسها الصغير.
حرّكت شفتيها اليابستين بصعوبةٍ قبل أن تجهد نفسها لتنهض.
حتى ذلك الفعل البسيط بدا لها مؤلماً، فانكمشت حاجباها من شدّة الإرهاق.
“ألَمْ تغادري العاصمة؟”
“…”
“ولِمَ أتيتِ إلى هنا إذًا؟ أين هو… زوجكِ الثاني الذي كان معكِ آنذاك؟”
انهالت الأسئلة من فم رنايا دفعةً واحدة.
وبينما بدت سيلين مرتبكة للحظة، أجابت بهدوء:
“غادرتُ… ثمّ عدت. أردتُ أن أتحدث معكِ مرّةً أخرى. لكنّني لم أستأذن للخروج لأنني مريضة، فخرجتُ خلسةً.”
لم تدرِ رنايا أكانت سيلين مدهشةً أم مجنونة.
كيف تجيد التسلل وهي في تلك الحالة الضعيفة؟
‘هل لهذا السبب يسمّونها البطلة الهاربة؟’
“ولأنكِ لا تعرفين عنواني، ظللتِ تتجولين في الشوارع بتلك الحال؟”
أومأت سيلين ثانيةً، ثمّ راحت تتلفّت من حولها كأنها تبحث عن شخصٍ ما.
“ليليا ليست في البيت الآن.”
“…”
“لقد التحقت بالأكاديمية هذا العام، وستعود في المساء.”
لو كانت ليليا في المنزل لما جلبت سيلين إليها، فليس من الحكمة أن تلتقيا من دون استعداد.
تملّكت الدهشة وجه سيلين وهمست: “الأكاديمية…”
ثمّ قالت بصوتٍ خافت: “بلغتْ ذلك العمر بالفعل؟”
“نعم، فقد مرّت سنوات منذ رحيلكِ.”
“…”
“لكن قولي لي، ما الذي أردتِ الحديث عنه؟”
في الحقيقة، كانت رنايا هي الأخرى ترغب في لقائها، فقد ظلّ في صدرها كلامٌ لم يُقَل بعد.
كانت تريد أن تسألها إن كانت تنوي رؤية ليليا ولو مرّةً واحدة.
لكنّها لم تستطع كبح حدة صوتها كلما همّت بفتح الحديث.
عندها، وقع نظر سيلين على دمية الدبّ الموضوعة عند النافذة، تلك التي أهداها كاين لليليا بمناسبة التحاقها بالأكاديمية.
“ذلك الرجل…”
قالتها أخيراً بعد صمتٍ طويل.
“متى… علم بوجود ليليا؟”
لم تحتج رنايا إلى تفسير، فقد أدركت فوراً أنّ المقصود هو كاين روتشستر، زوج سيلين السابق ووالد ليليا.
“لم يمضِ سوى أيام قليلة. عرف قبل دخولها الأكاديمية مباشرةً.”
“وكيف؟”
“كان يبحث عنكِ باستمرار، إلى أن توصّل إلى قرية لوكلير وعرف بشأن ليليا. …وأنا أيضاً لم أكتشف هويته إلا حديثاً.”
لم تكن سيلين قد سألت، لكنّ رنايا شرحت في محاولةٍ لتبرير شيءٍ ما.
غير أنّ سيلين ظلت محدّقةً في الدمية دون أن تُبدي أيّ انفعال.
“كنتُ أسمع أخبارَه كلّ يومٍ من خارج القصر. ثمّ وصلتني شائعةٌ تقول إنّ له ابنةً سرّية، فخمنتُ أنّها ليليا… وكان حدسي صحيحاً.”
لقد أصبح اسم آل روتشستر حديث الجميع مؤخراً، فلا عجب أن تبلغ أخبارهم مسامع سيلين أيضاً.
“هل حاول أن يأخذ ليليا؟”
“لن أسمح له بذلك، وليليا نفسها لا تريد الذهاب إليه.”
ابتسمت سيلين بمرارة، وهبّت نسمةٌ باردة حرّكت خصلات شعرها الأسود لتكشف عن وجهٍ شاحبٍ كالموتى، فأصابت رنايا بالذهول.
“لم تتناولي شيئاً بعد، سأعدّ لكِ حساءً فلتأكلي قليلاً قبل أن ترحلي.”
لكنّ صوت سيلين المبحوح أوقفها عند باب الغرفة:
“رنايا.”
نظرت إليها الأخيرة، فإذا بسيلين تقول بنظرةٍ ثابتة:
“أنا أنوي مغادرة هذا البلد قريباً.”
لم يكن ذلك مفاجئاً، فقد علمت رنايا أنها تقيم منذ أيام قرب الميناء تبحث عن سفينةٍ ترحل عليها.
“كان ينبغي أن أرحل منذ زمن، لكنني في كل مرة أصل إلى الميناء أتراجع. كأن شيئاً يربطني هنا. ثم أدركتُ ما الذي لم أستطع تركه، ولهذا جئت.”
“ما الذي تحاولين قوله؟”
ظنّت رنايا أنّ الأمر يتعلّق بالندم أو بالرغبة في وداع ليليا، لكنّ حدساً مفزعاً راودها، ولم تلبث أن تجمّدت ملامحها حين نطقت سيلين بالكلمات التالية:
“أريد أن آخذ ليليا معي.”
تجمّد عقل رنايا في مكانه.
‘تلك التي هجرت طفلتها بلا التفاتةٍ واحدة، تعود الآن لتأخذها؟!’
كان وقع الصدمة كصفعةٍ على وجهها.
“تريدين… أن تأخذيها؟”
“نعم. إن بقيت هنا، فلن يتخلّى ذلك الرجل عنها. لا أريدها أن تقع في يد تلك العائلة، لذا سأرحل بها.”
كم بدت ساذجةً الآن! كانت تظن أنّ سيلين جاءت لتعتذر أو لتودّع ابنتها، لا لتنتزعها مجدداً.
“هل جننتِ؟!”
ارتجف صوت رنايا وهي تصرخ لأول مرة في وجهها.
“أتظنين ليليا شيئاً تمتلكينه؟ تتركينها حين تشائين وتأخذينها حين تشائين؟!”
تعالى صراخها حتى دوّى في أنحاء المنزل.
اشتعل وجهها حُمرةً وغضباً حتى كادت عروقها تبرز.
“لو كنتِ تنوين حقاً رعاية ابنتكِ، لهربتِ معها منذ البداية! حينها كنتُ سأقول إنّك تتحملين المسؤولية على الأقل. أما الآن، فتعرفين ما أفكر فيه؟”
“…”
“أنكِ إنسانةٌ أنانية! كما كنتِ دائماً، لا ترين سوى نفسكِ!”
لم تكن سيلين تعلم كم بكت ليليا حتى اختنق صوتها تلك الليلة التي رحلت فيها أمّها.
ولا كيف كانت تجلس كل مساء عند النافذة تنظر إلى الطريق علّها تراها عائدة.
لو علمت، لما تجرأت على النطق بما قالت.
‘لا، لا أريد حتى محاولة فهمها بعد الآن.’
فكّرت رنايا بمرارة.
“هل سألتِ ليليا يوماً عمّا تريده؟ هي إنسان، لها مشاعرها وأفكارها الخاصة، حتى وإن كانت طفلة.”
“…”
“اخرجي. لا أريد رؤية شخصٍ كهذا في بيتي.”
أشارت نحو الباب، فنهضت سيلين متهاويةً من السرير، ثمّ جثت على ركبتيها.
ضحكت رنايا بذهولٍ ساخر.
“ما الذي تفعلينه الآن؟”
“…أنا نادمة.”
“انهضي. لا أريد سماع أعذارٍ بائسة.”
لكنّ سيلين تابعت كلامها رغم كل شيء:
“حينها، لم أكن بعقلي. …لم أستطع السيطرة على مشاعري. لذلك اعتقدت أن بقائي إلى جوارها سيؤذيها.”
“…”
“كيف لا أُحبّها؟ إنها الطفلة التي حملتُها في رحمي عشرة أشهر.”
“كلّ ما تقولينه الآن مجرّد أعذار.”
“إذن ماذا كان يجب أن أفعل؟”
رفعت رأسها، والدموع تتساقط على الأرض قطرةً قطرة.
كان منظرها الباكي يؤلم رنايا في الماضي، أمّا الآن فلم يحرّك فيها شيئاً سوى النفور.
“ذلك كان أفضل ما استطعتُ فعله في ذلك الوقت…”
* * *
سيلين غريويل، الابنة الوحيدة لأسرة غريويل النبيلة.
جلست ذات نهارٍ مشمسٍ عند النافذة تتأمل الحديقة.
كان الطقس رائعاً، والناس في مثل هذا اليوم يخرجون للنزهة، أمّا هي فلا تستطيع.
‘كم أودّ أن أخرج أيضاً.’
فقد كانت في الخامسة عشرة من عمرها، ومع ذلك لم تغادر بيتها يوماً بسبب ضعف جسدها المزمن.
التعليقات لهذا الفصل " 99"