.:
الفصل 98
كان الصباح يفيضُ ضياءً ناعمًا، ولم يكن في قلب ليليا سوى شعورٌ صافٍ وهي تصعد إلى العربة بابتسامةٍ مشرقةٍ لا تفارق وجهها.
حتى بعد أن انطلقت العربة، أخرجت نصف جسدها من النافذة، ولوّحت بذراعيها الصغيرتين في الهواء بحماسٍ طفولي.
“أمّي، أعمامي! أراكم لاحقًا!”
“إنَّهُ خطرٌ، اجلسي كما ينبغي!”
عاد جسد ليليا الصغير إلى داخل العربة فورًا، وزفرت رنايا تنهيدةً طويلة، كأنّ مجرّد ذهاب الصغيرة إلى المدرسة استنزف قواها.
“عليَّ أن أذهب أنا أيضًا.”
“إلى أين تذهب؟”
“غريب، لم تعتادي سؤالي عن ذلك. هل أسمع في صوتك رغبةً بألَّا أرحل؟”
“ليس هذا ما قصدتُه…”
كان مظهر هيرديان مختلفًا قليلًا اليوم. فكلّ ما عليه من قميصٍ إلى حذاءٍ كان أسود، كأنّه ذاهبٌ إلى مجلس عزاء.
“استدعاني عمّي.”
تقطّبت حاجبا رنايا تلقائيًّا. لم تكن تُحبّ كونت روتشستر من الأصل، وبعد حادثة هجوم فيرماوين باتت لا تطيقه.
ثمّ ألم يصفع هيرديان ذات يومٍ من قبل؟
“إيّاك أن تسمح له بضربك مجددًا. أنت قادرٌ على تفاديه إن أردتَ.”
لكنّ هيرديان لم يُجبها إلّا بابتسامةٍ طريفةٍ أمالت طرفي عينيه.
“لِمَ تضحك؟”
“لأنّي مسرور.”
ثمّ مدّ ذراعيه وعانقها فجأة.
“لم أشعر من قبل برغبةٍ كهذه في ألّا أذهب.”
“إذًا، لا تذهب. لستَ مجبرًا على طاعة أحد.”
“عادةً يمكنني ذلك، لكن اليوم… لا أستطيع.”
رغم أنّ حركاته ونبراته كانت على حالها، شعرت رنايا بأنّ في صوته انطفاءً خفيًّا.
ربّما هو قلبُها الذي ألبسها وهْمًا.
“هل أستطيع… المجيءَ بعد اليوم أيضًا؟”
“إن عدتَ مصابًا فلن أفتح لك الباب.”
“إذًا، يجب أن أعود سالمًا حتمًا.”
قالها بنبرةٍ فيها ابتسامةٌ خفيفة، ثمّ طبع قبلةً سريعة على جبينها.
“سأعودُ قريبًا.”
وحين غاب الاثنان، عمّ السكونُ البيت فجأة.
هل كان منزلنا فارغًا إلى هذا الحدّ؟ مجرّد غياب شخصين جعل المكان يبدو واسعًا على غير عادته.
لكنّ على رنايا اليوم زيارةٌ مؤجّلة. دخلت غرفتها لتتهيّأ، غير أنّ المرآة لفتت انتباهها، فوجدت وجهها متورّدًا كالتفّاح الناضج.
“ما هذا؟ لِمَ وجهي هكذا؟”
لمست خدّيها بارتباك، فوجدت حرارتهما عاليةً كأنّهما أُحرِقا بالنار.
‘آه، لا شكّ أنّي وقعتُ في الحُبّ…’
كانت تتذكّر من قبل أنّ العاشقين حين يُفكّرون في محبوبهم تخفق قلوبهم ويبتسمون بلا وعي.
ويبدو أنّها من هؤلاء.
‘يا لي من مبتدئة! بينما هير يبدو خبيرًا بالأمر…’
ورغم ذلك، لم تكره حالها.
أما الزواج، فما زال أمرًا بعيدًا عنها، غير أنّها لم تجد بأسًا في الحبّ نفسه.
‘ربّما لهذا يعشق الناس.’
هزّت رأسها مبتسمةً وأكملت استعدادها للخروج.
* * *
وقفت رنايا أمام مبنى “الوكالة العليا للتجارة” تتأمّل اللافتة الكبيرة.
كان رئيس الوكالة قد طلب منها أن تزوره متى وجدت وقتًا، ولم يتحقّق الأمر إلّا الآن.
“اسمي رنايا فيليت، سيعرفني الرئيس إن ذكرتُ اسمي.”
أومأ الحارس ودخل المبنى، ولم تمرّ دقيقة حتى خرج رجلٌ مسرعًا، لم يكن سوى إدريك، رئيس الوكالة نفسه.
“يا لَها من مفاجأة! سيّدتي المُنقِذة!”
قالها بعينين لامعتين كأنّه وجد واحةً في صحراء، وأمسك يديها بحرارةٍ أربكتها.
“سمعتُ أنّكِ حفيدةُ صاحب مزرعة تفّاح لوكلير!”
“لستُ المالكة الآن، فقط حفيدته. ولكن… كيف علمتَ؟”
“وكالتُنا لا يخفى عليها شيء. ألم أجد لكِ الشخص الذي كنتِ تبحثين عنه قبل أيام؟”
ثمّ دخل في صلب الحديث مباشرةً:
“رجاءً، لنتعامل معًا تجاريًّا!”
“عذرًا؟”
شرح إدريك أنّ الوكالة ذاقت شرابَ التفّاح الذي صنعوه في لوكلير، فانبهر الجميع به حتى قرّروا طلب احتكار توزيعه في الإمبراطوريّة.
وبكلامه الساحر وجدَت رنايا نفسها تكاد توقّع العقد دون أن تشعر.
“طعمُ شرابكم الفريد سيغزو الأسواق، إنّي أضمنُ نجاحه.”
“لكنّي… لستُ متأكدة من الكمية التي ننتجها. كما أنّ كبار القرية لا يحبّذون التعامل مع شركاتٍ كبرى.”
“سأشتري الزجاجة الواحدة بقطعةِ ذهبٍ.”
اتّسعت عيناها دهشةً. فالسعر المعتاد لم يكن يتجاوز خمس قطعٍ نحاسيّة.
“وإن قلّ الإنتاج بسبب ظرفٍ طارئ، سأدفع ضعف السعر.”
“هل أنت متأكّد أنّ هذا ليس احتيالًا؟”
وضع يده على صدره قائلًا بثقةٍ عارمة:
“أنا مؤمنٌ بأنّ شرابَ لوكلير سيتخطّى حدود الإمبراطوريّة.”
تأمّلت رنايا العقد مرارًا، ولم تجد فيه ضررًا واحدًا لقريتها.
‘إن وقّعتُ، فسنكسب خيرًا كثيرًا…’
الربح سيزيد، والإصلاحات ستسير، والأدوية ستتوفر للشيوخ.
ربّما لا يرضون بدايةً، لكنّها كانت تعلم في قرارة نفسها أنّ القرية تحتاج إلى التغيير.
وهكذا وقّعت، وهي تقول في نفسها:
‘إن عاتبوني لاحقًا، فسأتحمّل.’
“عليكَ التفاهم مع جدّتي بشأن التفاصيل. أنا لا أعرف أوضاع المزرعة الحالية.”
“لا تقلقي، سيّدتي.”
انتهت الإجراءات بسرعةٍ مذهلة.
أرسل إدريك بعض موظّفيه إلى القرية للتحقّق من الإنتاج، بينما خرجت رنايا تحمل نسختها من العقد.
كان النهار صافياً كأنّ السماء غُسلت بالماء.
رفعت العقد لتقي به عينيها من الشمس وتمتمت:
“ما أغرب الحياة… لم أتوقّع أن يأتي يومٌ كهذا.”
تخيّلت لحظةَ أن يصبح في القرية مالٌ كافٍ لجلب طبيبٍ ماهرٍ يفحص الشيوخ جميعًا، ويعيد لهم عافيتهم.
ضحكت بسعادةٍ صادقة.
‘سأطهو الليلة بيدي. علينا الاحتفال.’
أسرعت نحو السوق لتشتري حاجياتها، لكن في أحد الأزقّة امتدّت يدٌ ضعيفةٌ تمسك بثوبها.
“ها؟”
كانت القبضة واهيةً لدرجة أنّ جسدها لم يتحرّك، بل انسدل الثوب فقط.
“من هناك؟”
ارتجف الشخص المغطّى برداءٍ غامق، وبدا من تحت الرداء كفٌّ ناصع البياض.
ثمّ ارتفع الرأس قليلًا، فكُشف شعرٌ أسود كسواد الليل وعينان ذهبيّتان وبشرةٌ بيضاء شاحبة.
“سيلين؟!”
شهقت رنايا وهي تعيد الرداء بسرعةٍ على رأسها وتنظر حولها.
الحمد لله، لم يكن أحدٌ قد رأى.
‘ألَا تعلم أنّ كاين لا يزال يبحث عنها؟’
“سيلين… لِمَ أنتِ هنا؟ ظننتكِ غادرتِ العاصمة منذ زمن!”
“أريد… فقط… أن أتحدث…”
قالتها بصوتٍ مبحوحٍ متقطّعٍ، ثمّ سعلت بشدّةٍ وكأنّ صدرها يتهدّم.
كان وجهها أبيضَ كالأوراق، حالتها سيّئة على نحوٍ مريع.
لماذا هي هنا؟ ولماذا تبحث عني الآن؟
لكن المكان غير آمن، والوقتُ لا يسمح.
زفرت رنايا بقلقٍ وهي تُمسك بها من كتفها.
“سآخذكِ إلى طبيب.”
“لا… أريد مكانًا… هادئًا فقط…”
كانت سيلين دائمًا تكره الأطباء، ورغم رفض رنايا لذلك العناد، لم تجد بُدًّا من أخذها إلى منزلها.
* * *
وما إن وصلا، حتى فقدت سيلين وعيها.
مدّدتها رنايا على السرير وسقتها بعض الدواء الاحتياطي.
وبينما جلست قربها على الكرسي، تلاشت ملامح البهجة التي كانت تملأ وجهها قبل قليل، وحلّت محلّها غمامةُ قلق.
‘لو كانت قد غادرت وتركت ابنتها، لِمَ تعود بهذا الحال البائس؟’
التعليقات لهذا الفصل " 98"