.:
الفصل 97
“الآن بعد أن فكّرتُ في الأمر، أليسَ الرجلُ الواقفُ بجانبِها هو السّير هيرديان روتشستر؟!”
“إذًا، مَن تكونُ تلكَ الطّفلة؟”
حتى بعد مغادرة كاين، لم تهدأ الهمهمات في القاعة.
فقد كان هيرديان أيضًا شخصًا مشهورًا، لذا تعرّف عليه الكثيرون.
“سمعتُ أنّه خُطِبَ لامرأةٍ معها طفلة، لكنْ لا يُعقل أنّها…”
تركّزت أنظار الجميع على رنايا وليليا.
وما إنْ أدركت الطّفلة نظراتِ الناس حتّى انكمشت في مكانها واختبأت خلفَ والدتها.
“فلنغادر من هنا أوّلًا.”
أومأت رنايا برأسها موافقةً على اقتراحِ هيرديان، وغادر الثّلاثة القاعةَ الصّاخبة كأنّهم يفرّون.
وبينما كانت الفوضى تعمّ المكان، لم تُلاحظ ليليا حتّى اللّحظة الأخيرة أنّ أحدهم كان يُحدّق بها بحدّةٍ مخيفة.
وهكذا انتهى حفلُ دخول الأكاديميّة الذي كان يفترض أن يكون مليئًا بالفرح والحماسة، تاركًا في أذهانِ الناس عبارةً واحدة فقط: “بيتُ روتشستر.”
* * *
“اليوم، يجب أن ننامَ معًا! ليليا تُريد أن ننام نحن الثّلاثة معًا!”
كلّما رأت ليليا كاين، كانت تشعرُ بالاضطراب في قلبها. واليوم لم يكن استثناءً.
فعلى غير عادتها، لم تُحاول كبحَ نفسها، بل أصرت بإلحاحٍ على النّوم معًا.
وفي النّهاية، استسلم كل رنايا وهيرديان، وتمدّدوا جميعًا في السّرير الضّيق، متجاورين بودّ.
وبين ذراعي أحبّائها، ابتسمت ليليا راضيةً واستسلمت لنومٍ عميق.
‘الحمدُ لله أنّها ليست مريضة…’
كانت رنايا ما تزال تتذكّر كيف أنّ ليليا قد مرضت بعدما التقت كاين ذات مرّة، فلم تستطع التخلّص من قلقها بسهولة.
وبينما كانت تُربّتُ على الطّفلة بحنان، التفتت نحو هيرديان، الذي بدا أنّه غفا من شدّة التّعب.
فتسلّلت رنايا بهدوءٍ خارج الغرفة كي لا تُوقظهما.
أشعلت شمعةً وجلست على الأريكة متكوّرةً على نفسها.
‘لقد فات الأوان على الهرب… فماذا عليَّ أن أفعل الآن؟’
حين رأت كاين اليوم في حفل الافتتاح، أدركت حقيقةً لم تستطع إنكارها:
إنّه لن يتخلّى عن ليليا أبدًا.
ذلك الرّجل الذي ظلّ أكثر من ثماني سنوات يبحث بجنونٍ عن سيلين، لن يترك ابنةَ سيلين، دمه ولحمه.
إنّه فقط ينتظر الوقتَ المناسب، إذْ لا يستطيع الآن أخذها قسرًا، لكنّه يبقى قريبًا يراقب.
وإذا ساءت الأمور، فقد يُقدم على خطفها.
‘لو أنّ سيلين تظهر فجأة…’
وما إنْ خطر ببالها ذلك حتّى انتبهت لنفسها.
لا، لا ينبغي أن تفكّر بتلك الطّريقة.
صحيحٌ أنّ سيلين قد تخلّت عن ابنتها، وهو ذنبٌ لا يُغتفر، لكنّها الآن تعيش حياةً سعيدةً مع رجلٍ آخر.
ولم تكن رنايا تتمنّى لها الشقاء، مهما حدث.
‘يا لي من شخصٍ مريع… كيف يمكنني أن أتمنّى أمرًا كهذا؟’
تنفّست بعمقٍ وأطلقت زفرةً طويلة.
كانت تشعر بالعجز أمام عناد كاين واستحالة تراجعه.
في تلك اللحظة، أحسّت بوجود أحدٍ خلفها، فإذا بهيرديان يُلقي على كتفيها بطّانيةً دافئة.
“ما زلتِ تُفكّرين وحدكِ؟”
“ألستَ نائمًا؟”
“شعرتُ بنظراتكِ عليّ، فاستيقظت.”
“لم أنظرْ إليك بذلك القدر…”
جلس بجانبها بهدوء، ورفع كتفيه بابتسامةٍ خفيفة.
كانت تلك أوّل مرّةٍ يجلسان فيها وحدهما منذ حفل زفاف بيليندا.
كان في ذهنها الكثير لتقوله، لكنّها لم تعرف من أين تبدأ، فاكتفت بالتحديق في لهب الشّمعة المتراقص.
“هير، إلى أيّ حدٍّ تعرف؟”
“…”
“يُمكنك أن تصدقني، لن ألومك. فقط أشعر أنّك تعرف أكثر ممّا تُظهر، خاصّةً إن كنتَ تعلم حقيقةَ ليليا منذ البداية.”
كان بينهما الكثير من الأسرار.
وقد حان الوقت ليُفصحا عنها شيئًا فشيئًا.
بعد لحظةِ تردّدٍ، قال هيرديان بهدوء:
“أعرف أنّك التقيتِ بأمّ ليليا الحقيقيّة.”
“آه، إذًا كنتَ تعلم.”
“هل تُريدين لقاءها مرّةً أخرى؟”
هزّت رأسها بإيماءةٍ صغيرة.
سيلين ستغادر الإمبراطوريّة قريبًا، ولن تعود بعدها أبدًا.
كانت هذه الفرصة الأخيرة لليليا كي تراها.
لكنّها لم تجرؤ بعدُ على إخبارِ الطّفلة بالحقيقة.
ومع ذلك، كانت تعلم أنّ عليها أن تفي بوعدها القديم: أنْ تُعيدها إلى والدتها يومًا ما.
“ألا تكرهينها؟ لقد تركتِها ورحلت.”
“الأمرُ معقّد. لا أستطيعُ أن أضع مشاعري نحو سيلين في خانةٍ واحدة مع مصلحة إبنتي.”
كانت سيلين بطلةَ روايتها المفضّلة، وجارتها القديمة، والمرأةَ التي تخلّت عن طفلتها.
كم كان الأمر أسهل لو استطاعت أن تكرهها فقط.
لو تمنّت لها الشقاء، لما شعرت بهذا الاضطراب كلّما تذكّرتها.
“سأُرتّب لقاءً بينكما.”
“أحقًّا؟ أتدري أين هي الآن؟”
“في ميناء كالْديس. سمعت أنّها لم تُبحر بعد.”
“كالعادة، لا يخفى عليك شيء يا هير. وأنا لم أعرف هذا إلّا منذ أيام قليلة.”
“…”
“لا تقلق، لستُ أُعاتبكَ.”
لكنّ قلقًا آخر راودها:
حتى إنْ رغبت ليليا بلقائها، فهل ترغب سيلين حقًّا في رؤية ابنتها؟
وبينما كانت غارقةً في أفكارها، جذبها هيرديان فجأة إليه، فسقطت فوقه على الأريكة الضيّقة.
“ماذا تفعل؟”
“أستعدّ للنوم. الوقتُ متأخّر.”
“وهكذا سننام؟”
“ولِمَ لا؟”
حاولت أن تتحرّك قليلًا، ثمّ استسلمت للأمر الواقع.
“ألا ترى أنّنا اقتربنا كثيرًا؟”
“إذًا فلنُسمّه تقرّبًا بين شخصين لا يعرفان بعضهما جيّدًا.”
“وما الذي تعرفه عنّي إذن؟”
“أعرف أنّ رنايا تُحبّ أشياء كثيرة: قريةَ لوكلير، أهلها، ليليا… وأنا أيضًا.”
“…”
“أعرف أنّك بارعةٌ في الطّبخ والعلاج، ذاتُ لياقةٍ عالية، لكنّ قلبكِ رقيق، تتألمين أكثر ممّن تُحاولين حمايتهم.”
كانت تلك هي الصّورة التي رسمها لها في قلبه.
نظرت إليه قليلًا ثمّ أراحت رأسها على صدره وأغمضت عينيها.
كان صوتُ دقّاتِ قلبه واضحًا وسريعًا.
“إنّه صاخب.”
“اعتادي عليه، فهو دائمًا هكذا كلّما رأيتُكِ.”
ابتسمت رنايا بخفوتٍ.
كانت الكلمات التي تبدو مبتذلةً من غيره، صادقةً منه على نحوٍ غريب.
‘يبدو أنّني وقعتُ في حبّه تمامًا.’
“لن أقول لكَ أنْ تترك كلّ شيءٍ من أجلي.”
“…”
“كلّ ما تملكه الآن حصلتَ عليه بعد معاناةٍ طويلة.”
لقد كان هيرديان روتشستر رجلاً سُلب منه كلّ شيءٍ في الماضي، ما عدا اسمه.
فكيف لها أن تطلب منه التخلّي عمّا كافح لأجله؟
‘سيكون العيش في قريةٍ صغيرةٍ معًا أجمل، لكن لا أريده أن يخسرَ ذاته لأجلي.’
“فقط لا تُصبْ بأذًى، هذا يكفيني.”
أجابها صمتُه، لكنّ خفقاتِ قلبه كانت أسرع من قبل، حتى خشيت أنْ ينفجر.
“هاه…”
زفر بهدوءٍ، ودفن وجهه في خُصلات شعرها البُنّية.
كانت رائحتها تشبه عبير الحقول تحت سماءٍ صافيةٍ بعد المطر، رائحةٌ تشبهها تمامًا.
“سأفعلُ ذلك، أعدكِ.”
وبين دفءِ الأجساد وطمأنينةِ القرب، غفيا معًا، في ليلٍ عميقٍ صار فيه صوتُ قلبيهما لحنًا واحدًا.
* * *
وجهٌ لطيف، مثالي.
الزّيّ المدرسي، مثالي.
جديلتان مربوطتان بيدَي عمّها هيرديان، مثاليّتان.
وقفت ليليا أمام المرآة تتفقّد مظهرها بعناية، ثمّ حملت حقيبتها الجديدة وأغلقتها بإحكام.
كانت مفعمةً بالحماس ليومها الأوّل في المدرسة.
“ليليا، ما الذي ملأتِ به حقيبتكِ لتبدو منتفخة هكذا؟”
سألتها رنايا بابتسامة.
“المقلمة والدفتر وديفيد!”
“ستأخذين ديفيد أيضًا؟”
“نعم! سيشعر بالوحدة وحده في البيت.”
“فقط إياكِ أنْ تُضيّعيه.”
“حاضر!”
خرجت ليليا بحيوية، لتجد عند الباب رجالًا يرتدون اللون الأسودَ ينحنون احترامًا.
“واو! إنّهُم أعمامي!” قالت بفرحٍ طفولي.
ثمّ خرج هيرديان بعد لحظاتٍ ليُوضّح الأمر.
“من الآن فصاعدًا، سيتولّى هؤلاء حماية ليليا. لن يقتربوا كثيرًا داخل المدرسة كي لا يُزعجوها أثناء الدّروس.”
“هُم فرسانُكَ، أليس كذلك؟”
“بلى. ورغم ما حدث سابقًا، طلبوا فرصةً أخرى لإثبات إخلاصهم.”
كانوا جميعًا في غاية الجديّة، وكأنّهم يحمون أميرة.
“سندافع عنها بأرواحنا! نرجو أن تطمئنّي إلينا!”
“آه… شكرًا لكم. أعتمد عليكم إذًا.”
أومأت رنايا بخجلٍ طفيف.
فقد طردتهم ذات يوم، وها هي الآن تستعين بهم مجدّدًا.
“إذًا، ليليا ذاهبة!”
وركضت الطّفلة نحو يومها الأوّل بابتسامةٍ واسعة، بينما نظراتُ الكبار تتابعها بحنانٍ وقلقٍ خفيّ.
التعليقات لهذا الفصل " 97"