.:
الفصل 96
كانت ليليا تُحدِّق في السقف بوجهٍ متجهّم.
كان الجوّ في طريق العودة إلى المنزل بعد حفل زفاف الآنسة بيليندا لطيفًا للغاية.
ركبت الطفلة عربة هيرديان بعد زمنٍ طويل، وبدأت تُفرغ ما تراكم لديها من أحاديثٍ ومواقف.
“يا عمّي، يا عمّي! لقد التحقتُ بأكاديميّة كليرفور!”
“تهانينا. أرسلتُ لكِ هديّة النجاح، هل أعجبتكِ؟”
“هديّة؟”
بدت ليليا متحيّرة ثمّ تذكّرت المشبكَ الأخضر الذي تلقّته مؤخرًا.
لقد أحبّته بشدّة حتّى أنّها كانت تُمعن النظر فيه تحت الضوء في كلّ فرصةٍ تسنح لها.
“ذلك المشبك كان منك؟! لقد أعجبني كثيرًا!”
“يسرّني أنّه راقَ لكِ.”
“يا عمّي، ستأتي إلى حفل دخولي الأكاديميّة، أليس كذلك؟”
“سآتي حتمًا.”
“حقًّا؟ هذا وعدٌ إذًا، لا تَخلفه!”
إلى تلك اللحظة، كانت ليليا تغمرها السعادة.
لكنّ حماسها تبدّد حين سمعت أنّ هيرديان لن يبيت معها تلك الليلة.
وحين رأت هيرديان يوشك على المغادرة بعد أن أوصلها، أسرعت تُمسك بكمّه.
“يا عمّي، ألن تنام مع ليليا اليوم؟”
نظر هيرديان في تلك اللحظة القصيرة إلى رنايا.
ولم تكن ليليا تجهل أنّ حديثًا دار بين الكبار في تلك النظرة العابرة، وإن لم تفهم مضمونه بالضبط.
“لديَّ عملٌ قليل متبقٍّ، لِذا لن أستطيع هذه الليلة.”
“ومتى نستطيع النوم سويًّا إذًا؟”
“حسنًا… لا أدري…”
تلعثم هيرديان ولم يُعطِ جوابًا صريحًا، فارتسمت على وجه ليليا ملامح الحزن.
“لكنّي سأحضر الحفل بالتأكيد. نلتقي في ذلك اليوم.”
ثمّ غادر قبل أن تتمكّن من منعه.
“يا عمّي هذا مزعج. لقد ساعدتُك لتتصالح مع أمّي…”
لم تستطع ليليا أن تفهم ذلك حتّى وهي تستعدّ للنوم.
‘إذا كان مشغولًا، لِمَ لا ننام أنا وأمّي في منزله فحسب؟’
أرادت أن تسأله، لكنّها شعرت بأنّ الكبار لا يريدون النوم معها، فاكتفت بالصمت.
‘سأصبر هذه المرّة. قالوا إنّ النضج يعني أن يعرف المرء كيف يتحمّل.’
لكنّها لم تَخلُ من التذمّر.
شفَتاها بارزتان من الغضب وهي تحدّق في السقف، ثمّ التفتت نحو أمّها التي كانت تغطّ في نومٍ عميق.
كانت ليليا تعلم أنّ أمّها لم تكن تنام جيّدًا في الأيّام الماضية، وكانت ملامح التعب تزداد عليها يومًا بعد يوم، فشعرت بالارتياح لرؤيتها نائمة أخيرًا.
“…”
وخزت ليليا خدّ أمّها بإصبعها برفق، لكنّ الأخيرة لم تتحرّك قط.
ابتسمت الطفلة بخفوتٍ وانكمشت في حضنها الدافئ.
‘الآن، كلُّ شيءٍ سيكون بخير.’
أمّي معي، وعمّي هيرديان أيضًا.
سيحميانني معًا، ولن ينتظرني بعد اليوم سوى السلام والسعادة.
أغمضت ليليا عينيها حالمةً بمستقبلٍ مفروشٍ بالزهور.
* * *
بعد أيّامٍ قليلة.
يوم حفل دخول أكاديميّة كليرفور.
كان القاعة الكبرى مكتظّةً بالحضور.
جلس التلاميذ الجدد في مقاعدهم بزيّهم المدرسيّ، فيما اصطفّ أولياؤهم في الخارج.
تألّق المشبك الأخضر في صدر عباءتها.
كانت ليليا تعبث به بتوتّر، ثمّ التفتت خلفها فرأت أمّها وهيرديان يبتسمان لها.
حين التقت عيناها بعينيهما، هدأ توتّرها وارتسمت على وجهها بسمةٌ صغيرة قبل أن تعود لتنظر إلى المنصّة.
“سنبدأ الآن حفل دخول أكاديميّة كليرفور.
ليتفضّل مدير الأكاديميّة بالدخول، فلنرحّب به بتصفيقٍ حارّ.”
صعد شيخٌ ذو شعرٍ أبيض إلى المنصّة وسط التصفيق، وألقى نظرةً حانية على التلاميذ قبل أن يتحدّث.
“أهلًا بكم يا براعم الأحلام. نرحّب بكم بصدقٍ في أكاديميّة كليرفور.”
لم تكن ليليا قد استوعبت بعد أنّها أصبحت طالبةً حقيقيّة حتّى تلك اللحظة.
لكنّ كلمات المدير جعلت قلبها يخفق إدراكًا للواقع.
‘هنا درستْ أمّي الأولى…’
كانت تعرف أنّها لن تراها لمجرّد دخولها المكان ذاته، لكنّها فرحت لأنّ بينهما رابطًا صغيرًا مشتركًا.
‘هل تعلم أمّي أنّ ليليا التحقت بالأكاديميّة؟’
ومع مرور الوقت، لم تعد ليليا تحمل في قلبها كرهًا لأمّها الأولى، بل رغبةً في الفهم.
ربّما كان هناك سببٌ قاهر جعلها ترحل عنها.
‘حين أدرس بجدّ وأُصبح راشدةً حقيقيّة، سألتقي بها من جديد.’
جلست مستقيمةً تنظر إلى الأمام بعينين متألّقتين.
بعد كلمة المدير، جرى استدعاء الطالبة المتفوّقة الأولى.
صحيح أنّ ليليا كانت من الأوائل، لكنّ المركز الأوّل كان لطالبٍ آخر.
صعد فتى بشعرٍ فضّيّ لامع إلى المنصّة، فأثارت ملامحه المميّزة فضولها.
‘لون شعره غريب…’
لكنّ تفكيرها انقطع حين فُتح باب القاعة ودخل أحدهم.
سرت همهمةٌ بين الحضور من أولياء الأمور، حتى لم يعد صوت الفتى على المنصّة مسموعًا.
“ما الأمر؟”
استدارت ليليا بفضول، وفجأة التقت عيناها بعيني كاين.
اتّسعت عيناها دهشةً.
كان كاين، وسط كلّ هذا الحشد، يحدّق بها مباشرةً.
‘ما الذي يفعله هذا العمّ هنا؟’
وفي أذنها تعالت همسات الناس:
“ذلك هو اللورد روتشستر الصغير!”
“ظننتُ أنّه بلا وريثٍ بعد.”
“إذا لم يكن لديه وريث، فلمَ أتى؟ أيمكن أنّ لديه ابنًا غير شرعي؟”
بدأت الشائعات تتطاير بسرعة، وشعرت ليليا بالتوتّر، فقد أدركت أنّ كاين جاء لأجلها.
‘هل جاء ليأخذني معه؟’
ظلّت القاعة مضطربةً حتّى نهاية الحفل.
وما إن انتهى، حتّى هرعت ليليا إلى أمّها.
“أمّاه!”
تكرّر المشهد ذاته كما في المرة السابقة.
اختبأت الطفلة خلف أمّها، ووقف هيرديان أمامهما كدرعٍ واقٍ.
كان واضحًا أنّه يُبدي الحذر، لكنّ كاين بدا غير مُكترث.
“ما الذي أتى بكَ إلى هنا يا أخي؟”
“لا تقلق، لم آتِ لأخذها اليوم.”
“…”
“ألستُ حرًّا في المجيء؟ جئتُ لأُهنّئ ابنتي فقط بدخولها الأكاديميّة.”
“إنّها ليست ابنتك.”
“كفى. لن نُكرّر الحوار ذاته مرارًا، لن يُجدي.”
ساد التوتّر بينهما كحدّ السيف.
لم يجرؤ أحدهما على سحب سيفه أمام الحضور، لكنّ النظرات الحادّة التي تبادلاها كانت أبلغ من أيّ سلاح.
وخلال لحظةٍ ظنّت فيها رنايا أنّ شجارًا سيندلع، فوجئت بكاين يزفر بهدوءٍ ثمّ يجثو على ركبةٍ واحدة.
“آه…”
شهق بعض الحاضرين ظانّين أنّه ينحني لهيرديان.
لكنّ كاين لم يُبالِ بهم، بل نظر مباشرةً إلى ليليا المختبئة خلف أمّها.
“اقتربي.”
“هل… جئتَ لتأخذ ليليا؟”
“لا. جئتُ لأُعطيكِ شيئًا.”
رغم حذرها، أثارت كلمة “هدية” فضولها.
رفعت ليليا رأسها نحو أمّها تستأذن بعينيها، فتردّدت رنايا ثمّ أومأت قليلًا.
اقتربت ليليا ببطء وسألته مرّةً أخرى:
“يا عمّي، أنتَ متأكّد أنّك لن تأخذني؟ لأنّني لن أذهب معك.”
“ليس اليوم.”
“إذًا… في المرّة القادمة ستأخذني؟”
كان سؤالها حادًّا وصريحًا.
لم يُجبها، بل أخرج من خلف ظهره دبًّا بنّيًا صغيرًا رأته من قبل في أحد المتاجر.
“مَباركٌ دخولك الأكاديميّة.”
“شكرًا لك…”
تسلّمت ليليا الدبّ بتردّد، فلم تتوقّع يومًا أن تتلقّى منه هديّة.
كان الدبّ لطيفًا تمامًا كما تذكّرته.
“ألَم يُعجبكِ؟ إن لم تُحبّيه سأُبدله.”
“لا، يعجبني كثيرًا. سيفرح ديفيد لأنّه وجد صديقًا جديدًا.”
“أفهم…”
مدّ كاين يده نحوها، فارتجفت الطفلة لا إراديًّا متذكّرةً قبضته المؤلمة السابقة.
عندها سحب يده ببطءٍ وابتسم بأسى.
“سنلتقي مجددًا.”
كانت تلك آخر كلماته قبل أن يستدير ويغادر القاعة.
تابعت ليليا ظهره البعيد بنظراتٍ متأمّلة ثمّ نظرت إلى الدبّ بين يديها.
‘هل هذا العمّ طيّبٌ أم شرير؟’
إن كان قد آذى أمّها الأولى، فلا شكّ أنّه شرّير.
لكنّه الآن بدا… مختلفًا.
‘أليس الناس إمّا طيّبين أو أشرارًا؟ كيف يكون كلاهما؟’
لم تفكّر في الذهاب معه، لكنّها لم تستطع كبح فضولها.
تفتّحت في قلبها رغبةٌ خفيّة في معرفة المزيد عن أبيها الحقيقي.
التعليقات لهذا الفصل " 96"