.:
الفصل 95
“……هل يظنُّ هيرديان أنَّني حمقاء؟ أيظنُّ أنَّني سأقبل مساعدته؟ ولِمَ؟”
خرجت نبرةٌ حادّة من بين شفتي رنايا.
لو كان ذلك في زمنٍ لم أكن أعرف فيه شيئًا، لكنتُ قد بادرت بصدقٍ إلى تهنئته حين وصلني خبرُ أنّه صار سيّدَ فيرماوين.
لكن الآن… كلُّ ما أشعر به هو الغضبُ منه لأنّه تصرّف من تلقاءِ نفسه دون أن يسأل رأيي.
“أعرفُ أنّني بلا قوّة، ولا أملكُ سوى العناد. لكن لديَّ كرامة. ولا أريد أن أمدَّ يدي لرجلٍ خدعني طويلًا.”
“أفهم ما تشعرين به. ولكن―”
“لا. أنت لا تفهمُ شيئًا يا هيرديان.”
مع كلِّ كلمةٍ يتبادلانها، كان هناك ألمٌ ينبض في صدرها.
لم تفهم لِمَ كانت عينا هيرديان مغمورتين بالحزن، بينما الجرح والألم كانا يسكنان قلبها هي.
قبضت رنايا على طرفِ ثوبها، وأطلقت زفرةً عميقةً هدّأت شيئًا من الألم.
تذكّرت لحظةَ اعترافهِ لها.
ألوان الألعاب الناريّة التي طرّزت السّماء… وذاك الأزرقُ الذي احتواها وحدها.
وحين أدركت أنّ كلَّ ذلك ربّما كان تمثيلًا… ضحكت.
كانت السخريّة موجّهةً لنفسها التي انطلت عليها الخدعة.
“لننهِ الأمر. لا أصدقاء… ولا خطوبة. دعنا نعودُ غريبَيْن كأنّ لقاءنا لم يكن. وأرى أنّ هذا أفضلُ لنا.”
اهتزّت عيناه الزرقاوان بعنف.
كما لو أنّه لم يتوقّع أبدًا سماع تلك الكلمات.
فتح فمه… وفي اللحظة نفسها دوّى وقعُ أقدامٍ عدّة قريبًا منهم.
“هل أنتِ متأكّدة أنّك رأيتِ الدوق روتشستر هنا؟”
“قلتُ لكِ! رأيتُه يمرُّ وحده!”
“سأسأله اليوم حتمًا… هل سيتزوّج تلك الفتاة العامّية فعلًا؟”
كنّ فتياتٍ من بيوتٍ أرستقراطيّة ظللن ملاصقاتٍ له طوال اليوم.
ومن حديثهنّ وحده يمكن فهم مقدار اهتمامهنّ به.
فالدوق هيرديان روتشستر صار الرجل الذي تهتمُّ به كثيرٌ من السيّدات.
فهو يمتلك أرضًا باسمه، وقد نال ثقة الإمبراطور.
ومستقبله كلّه نجاحٌ يجري نحوه.
ذاك الذئب الذي نُفيَ إلى أرضٍ منسيّة، وتقطّع جسده وأكلته الوحدة… لم يَعُد موجودًا.
“من الأفضل أن تخالطَ من يناسبون مكانك.”
أرادت رنايا أن تغادر كي لا تواجه أولئك النبيلات.
لكن يدًا دافئة أمسكت يدها ومنعتها من الرحيل.
كان الفاصل بين وجهيهما هو الهواء فحسب.
ورائحته تحمل بردَ رياح فيرماوين.
“ماذا…؟”
وقبل أن تكمل الكلمة…
تلامست شفاههما.
خفيفًا… دافئًا… حتى أنّ عيني رنايا اتّسعتا بدهشة.
ولم تستطع أن تتحرّك، فالأزرقُ الذي أمامها قيّدها كلّها.
“أظنُّ أنّ المكان ليس هنا…”
وفي أسوأ توقيت ممكن… ظهرت الفتيات من خلف الزاوية.
شهقنَ وغطّينَ أفواههنَّ بمزيجٍ من الصدمة والغيرة.
ضمَّ هيرديان رنايا إلى صدره أكثر كي لا يُرِينَ وجهها.
داعب خصلات شعرها برفقٍ شديد… ثم التفت نحوهنّ.
العذوبة التي كانت في ملامحه تَبَخّرت، وبردٌ قاسٍ احتلّ مكانها.
“أللكنَّ قصدٌ في التطفّل؟”
لم يحتجنَ لرؤية وجهها ليدركنَ هويّتها.
الشعرُ البنيّ… والثيابُ المتواضعة…
فتاةٌ عامّية ومعها طفلة… نعم، الإشاعة كانت صحيحة.
“عـ- عذرًا!”
ركضنَ مسرعات، وتلاشت أصواتهنّ.
حينها فقط… أبعد هيرديان رنايا قليلًا.
لكنها بقيت متصلّبة كالصخر.
وأفكارٌ لا تُعدّ ولا تُحصى اصطدمت داخل رأسها.
‘لِمَ؟’
لم تستوعب تصرّفه.
السرّ قد انكشف أصلًا، فلماذا يمثل الحبَّ أمام الناس؟
القبلة المفاجئة… اللمسة الحذرة…
وصوتُ قلبه الذي كان يضرب أسرع من قلبها… وُلد في صدرها وهمٌ جميل… أنّ اعترافه كان صادقًا.
“كنتُ حيًّا فقط لأنّ الموت لم يقبلني بعد، قبل لقائي برنايا.”
“…….”
“لو لم تُنقذيني حينها… لكنتُ سلّمتُ روحي بهدوء.”
كان يفتح قلبه كلّه أمامها.
“في ذاك المخزن الضيّق… وللمرّة الأولى رغبتُ في الحياة. وكان السبب… مزارعةٌ بسيطة… تبتسم لي… وتحادثني دائمًا.”
ارتجفت عينا رنايا قليلًا… دون أيّ ردّ آخر.
لقد كان اعترافًا.
اعترافًا بعمقِ من ثانيا روحهِ.
الحديثُ سهل… أمّا أن تُوصل القلب… فذلك أمرٌ صعب.
وأصواتُ أنفاسه القصيرة كانت ترتعش.
“ربّما منذ ذلك الوقت… أحببتكِ أكثر من صديقة.”
“…….”
“لكنّني لم أدرك ذلك… إلا حين قضينا الوقت في الشمال معًا. فهي أوّل مرّةٍ أحبُّ فيها أحدًا.”
وهكذا كانت هي أيضًا.
ولولا حديثُ ليليا… لبقيت هاربة من حقيقة قلبها.
“وحين علمتُ بحقيقة ليليا… نعم… اضطرب قلبي. وفكّرتُ أن استغلالها قد يُنهي الصراع.”
“……حتى اصطحبتني لحفل الكونت لذات السبب، صحيح؟”
أومأ برأسه.
واعترف بكلّ ذنوبه دون هروب.
يداه المرتعشتان كانتا تخشيان حُكمَ قلبها.
وتابع…
“لكن بعد ذلك… لم أفكّر يومًا في استغلالها ثانية. وربّما يصعب عليكِ التصديق… لكنّه صدقٌ خالص.”
تذكّرت رنايا كيف ازدادت العلاقة دفئًا بينهما بعد ذاك الحفل.
ليليا كانت حادّة الملاحظة… حتّى أنّها فهمت صدقه وفتحت له قلبها شيئًا فشيئًا.
“قلتِ لنعد غرباء… لكنّني لا أستطيع.”
اشتدّ قبضه على يدها.
كأنّه يُقسم ألّا يتركها.
“كلُّ من أنا عليه اليوم… أنهِ كذلك منذ أن أنقذتني يا رنايا … صرتِ أنتِ شريانُ حياتي، كيف يمكنني العيش بدونكِ؟.”
“……مع أنّني لا أملك شيئًا… فتاةٌ عامّية ولها طفلة…”
“إن شغلتكِ هذه الألقاب… فسأتخلّى عن كلّ شيء. إن لم تكوني بجانبي… فلا حاجة لأيِّ مجدٍ أو اسم.”
“…….”
“سنزرع الأرض معًا إن شئتِ. ستعلّمينني كلّ ما أجهله. وفي الأيّام الهادئة… نخرج مع ليليا للتنزّه.”
ذلك الذي لم يتخلَّ قط عن اسم روتشستر… يقول الآن إنّه مستعد للتخلي عنه لأجلها.
لو لم تكن حرارةُ يده حقيقةً… لظنّت كلّ كلماته وهمًا.
اعترفت رنايا أخيرًا… نعم… هو يحبّها. ونعم… هي تحبّه أيضًا.
“لهذا… امنحيني فرصةً أخرى. فرصةً لأحمي مكانك في حياتي.”
حين اعترف لها أوّل مرّة… كانت كلّ الطرق مغلقة.
الطبقات الاجتماعيّة… حقيقةُ ليليا… لكنّه اليوم يقول إنّ شيئًا لا يقف بينهما.
وبعينين لا تهتزّان.
أطلقت رنايا أنفاسها… وقبضت على ياقة ردائه… وجذبته لها… وقبّلته.
قبلةً خفيفة… عكست الأولى.
وهذه المرّة… هو من تفاجأ.
“……رنايا.”
كيف ترفض رجلاً مستعدًّا لترك العالم من أجلها؟
“لن تكون هناك فرصةٌ ثالثة.”
“…….”
“لم أغفر لكَ كلّ شيء بعد. فلتُثبت لي… شيئًا بعد شيء… حتّى أستطيع أن أثق بك من جديد.”
أشرقت ملامحه.
فالأمل كان كافيًا له ليبدأ.
“لكن… لنعد أصدقاء؟ هذا لا يناسب.”
“……؟”
ارتبكت قليلًا وهي تحرّك عينيها.
“الأصدقاء لا يُقبّلون بعضهم… فلنكن مخطوبَيْن… ونتعرّف أكثر…”
“هذا يروق لي كثيرًا.”
أجاب فورًا… خشية أن تغيّر رأيها.
أن تكون بينهما مسافةٌ عاطفيّة أبعد من الصداقة… ذلك يسعده.
لأنّها بدأت تراهُ كرجل.
ضحك وهو يرى احمرار خديها… ووضع جبينه على جبينها.
“شكرًا لكِ.”
* * *
كانت ليليا تجلس على المقعد مع سيرف، وتهزُّ ساقيها بقلق.
أكلت قطعتَيْ كعك، وما زال الاثنان لم يعودا.
“سيّدي سيرف… لماذا تأخّر أمي والعمّ؟”
“ربّما كان لديهما الكثير ليتحدّثا به.”
“لن يتشاجرا لأنّني لستُ موجودة… أليس كذلك؟”
لم تكن تخفي قلقها.
وقد وعدت هيرديان أنّها ستساعده إن فشل، بينما فكرتها جيّدة لم تخطر لها أصلًا.
“أتمنّى أن يتصالحا اليوم…”
وفجأة… أوراق العشب تحرّكت بخفّة… فرأت شخصين يسيران معًا.
قفزت ليليا من المقعد بفرح.
وركضت صوبهما بكلِّ قوّةٍ في قدميها الصغيرتين.
“أمّي! عمّي!”
لم تحتج أن تسمع شيئًا… فهي تعرف يقينًا… أنّ أحبّ شخصين لها في العالم… قد تصالحا أخيرًا.
التعليقات لهذا الفصل " 95"