.:
الفصل 93
أدارت رنايا رأسها بسرعة بشكلٍ لا إرادي.
لحسن الحظ، لَمْ تتلاقَ الأعين بينهما، وبسبب المسافة التي تفصل بينهما، بدا أنَّ هيرديان لا يعلم بوجودها هنا.
هو بدا مُرهَقًا للغاية حين رأته بعد وقتٍ طويل.
لا تدري أين كان، ولا ماذا كان يفعل خلال تلك الفترة، لكن يبدو أنَّه لَمْ يكن بخير كما كانت ترغب.
‘……لَا تُفكّري فيه. هو شخص لَا علاقة له بي بعد الآن.’
لكن مهما حاولت تجاهل الأمر، كانت تسمعُ من حولها أحاديثًا تدور حول هيرديان.
بعض السيّدات الأرستقراطيات القريبات منها أخذن يتهامسن.
“ألا تظنّين أنَّ دوق روتشستر يُصبح أكثر وسامة يومًا بعد يوم؟”
“سمعتُ أنَّ جلالة الإمبراطور منحَه مكافأةً أُخرى هذه المرّة. زوجي قال إنَّ عدد مَن يحاولون التقرب منه في ازدياد مستمر.”
“أعتقد أنَّ دوق روتشستر أفضل من ….”
“يا امرأة! لا تكوني هكذا!”
كنّ يتظاهرن باللامبالاة، لكن كان واضحًا أنَّ كل انتباههن منصبٌّ على هيرديان.
فهو أكثر مَن يجذب الأنظار بعد العروسين في هذا المكان.
ومجرّد كون سمعته قد تحسّنت هكذا يدلُّ على أنَّ أموره تسير على ما يُرام.
“أفكّر أن أطلبَ من والدي أن يتقدّم بخطبةٍ لي إلى دوق روتشستر.”
“ألم تسمعي؟ الدوق لديه خطيبة بالفعل.”
“آه، تلك المرأة العامية ومعها طفلة؟ هه! أتظنّين فعلًا أنه سيتزوّج امرأة كهذه؟ بالتأكيد مجرد لعبٍ مؤقّت.”
رنايا لَمْ تكن ضعيفة لدرجة أن تتأثر بكلام غرباء أغبياء.
أو على الأقل هكذا كانت تظنّ.
لكن فجأة شعرت بوخزٍ في قلبها.
كلماتٌ كانت ستبدو تافهة عادةً أصبحت مؤلمة بشكل مزعج.
‘كلُّ كلامهنّ صحيح. أنا امرأة عاميّة معها طفلة. وهيرديان خدعني ولعب بمشاعري….’
وبينما تفكّر، أصبح المكان مكتظًّا بالفتيات غير المتزوّجات حول هيرديان.
كان يُقال سابقًا إنَّ كثرة النساء حوله شائعة أطلقها هو شخصيًا، لكن يبدو أنَّها لم تكن شائعة فقط.
شعرت بالغضب يخنق صدرها.
وهيرديان على ما يبدو شعر بانزعاجها، فخرج من بين الجموع واتجه لمكانٍ ما.
في ذلك الوقت، كانت ليليا تأكل الحلوى بتركيزٍ شديد، ثم أسقطت الشوكة فجأة وأمسكت بطنها.
“ماما… ليليا بطنها توجعها….”
“تبكين؟ كيف يؤلمكِ؟ هل أحضر لكِ دواءً؟ أم نذهب إلى الحمّام؟”
وانقشعت كل الأفكار التي كانت تُربك رأس رنايا عندما سمعت أن طفلتها تتألّم.
“أمم، ليليا ستذهب وحدها إلى الحمّام.”
“……تذهبين وحدكِ؟ لا، سأذهب معكِ.”
“ليليا أصبحت كبيرة! تستطيع الذهاب وحدها. إذا لَمْ أبدأ من الآن فكيف سأذهب وحدي عندما أدخل المدرسة؟”
ألم تكن قبل لحظات تشتكي من ألمٍ شديد؟
الآن تُجادل بمنطق شديد لتذهب وحدها!
“حقًا تقدرين الذهاب وحدك؟”
“أجل!”
“……حسنٌا. إذا تأخّرتِ سأأتي لأبحث عنكِ.”
“سأعود سريعًا!”
وما إن وافقت أمّها حتى ركضت ليليا مبتعدة بسرعة.
رنايا بدأت تشك هل كانت الطفلة متألّمة حقًا أم تتظاهر.
لكن ربما كان من الصحيح أن تعتاد ليليا على الذهاب وحدها من الآن لأجل المدرسة لاحقًا.
‘قد يكون هذا أمرًا يمرّ به كل من يربّي طفلاً.’
كانت ترغب لو تبوح بهذه الأحاسيس لشخصٍ ما.
لكن لَمْ يكن هناك أي شخص بجانبها ليسمع أو يفهم، فكان عليها أن تتحمّل وحدها.
وفي لحظةٍ كانت فيها تشرب ماءً باردًا لتُهدّئ قلبها، اقترب منها رجلٌ غريب لأول مرة.
* * *
وفي الجهة الأخرى، ليليا التي لم تتجه نحو الحمّام أصلًا كانت تُلاحق شخصًا ما…
وعلى وجهها علامات انزعاجٍ شديد.
وعيناها البنفسجيتان تومضان غضبًا.
ليليا كانت تسمع كل الهمسات المحيطة.
خصوصًا تلك التي تُسيء إلى أمّها.
كانت على وشك أن تنفجر وتُلقّنهن درسًا كما فعلت في حفلة عيد ميلاد كونت روتشستر سابقًا، لكنها تذكّرت كلام المعلّمة بيليندا.
”سمعتُ ما حدث في الحفلة الماضية. صحيح أنَّ الفتيات الأرستقراطيات أخطأن بحقّكِ وبحقّ أمّكِ، لكن ما فعلتهِ كان خطرًا أيضًا.”
”لكن هنّ من بدأن أولًا!”
”أعلم ذلك. لكن عليكِ أن تتعلّمي الصبر لأنكِ ما زلتِ صغيرة وضعيفة.”
”إذًا عندما أكبر، هل لن أحتاج إلى الصبر؟ لأنَّ الكبار أقوياء، أليس كذلك؟”
وبعد صمتٍ طويل، هزّت بيليندا رأسها بإحراج.
لكن ليليا قرّرت أن تفسّر الأمر بطريقتها الخاصّة.
‘حين تكبر ليليا… سنرى. لقد حفظتُ وجوههم جميعًا.’
وأثناء تفكيرها اصطدمت بجسدٍ قويّ عند المنعطف.
“آي!”
“سبق أن حصل هذا بيننا، أليس كذلك؟”
“……عمّي؟”
هيرديان انحنى ليفحص وجهها.
أنفها فقط احمرّ قليلًا، لكنها بخير.
“المرّة الماضية عندما لاحقتِني تكتمتُ عن الأمر، لكن هذه المرّة سأخبر أمّكِ.”
“هه! حتى لو أخفتني فلن أخاف! أنت حتى لا تجرؤ أن تتكلّم مع أمّي.”
“…….”
“قبل قليل عندما التقت أعيننا لَمْ تُكلّمني لأنَّ أمّي كانت بجانبي.”
كلامها أصابه في مقتلهِ.
اكتفى بابتسامةٍ مرّة وهو يجثو قليلًا ليُحاذي مستواها.
منذ وصوله إلى قاعة الحفل كان يبحث عن رنايا فورًا.
من بين الجميع، كان شعرها البنيّ المجعّد وثيابها البسيطة أول ما لفت نظره.
اضطر لأن يُجاهد كي لا يقترب.
لأنّه يعرف أنّه لَمْ يَعُد يملك الحقّ بذلك… ليس بعد إذنها على الأقل.
“إذًا يا صغيرتي، لماذا تلاحقينني هكذا؟”
“ليليا… صبرتُ اليوم مرة واحدة.”
“صبرتِ على ماذا؟”
“لا أستطيع إخبارك بالتفصيل، لكن هذا يعني أنَّ ليليا أصبحت أكبر قليلًا. الآن دورك أنت لتكون كبيرًا أيضًا.”
وأشارت بجدّية إلى المكان الذي جاءت منه.
“أسرِع واذهب إلى أمّي.”
“…….”
“واعتذر لها. أمّي طيبة وستسامحك. وإذا لم تُسامحك فسأدافع أنا عنك!”
عينا هيرديان الزرقاوان ارتجفتا.
لو أمرته ألّا يقترب من أمّها ثانية، لقبِل بذلك.
ولو اضطر أن يعيش بعيدًا عنها دون أن يراها لقبِل بذلك أيضًا.
لكن لماذا تقول له هذه الكلمات الآن؟
لم يفهم.
“لكن… ألم تكوني تكرهينني؟”
“هذا كان سابقًا.”
“……حتى مع أنَّني حاولتُ استغلالكِ من قبل؟”
“ليليا لا تفهم هذه الأشياء المعقّدة.”
الأمور التي يعتبرها الكبار خيانة…
يراها الأطفال ببراءة مختلفة تمامًا.
“أعرف أنَّك أحببتني فعلًا. لعبتَ معي. وبنيتَ رجل الثلج. وأطعمتَني. وغنّيتَ لي قبل النوم. كل هذا لأنَّك تحبّني، صحيح؟”
“…….”
“لهذا… أنا أسامحك. والآن عليك أن تنال مسامحة أمّي.”
“……ولن تغضبي؟”
“بل أنا غاضبة الآن.”
رفعت حاجبيها.
ومع أنها لم تبدُ غاضبة حقًا، إلّا أنَّ عينيها البنفسجيتين كانتا تقولان كل شيء.
“يا عمّي.”
ثمّ اقتربت منه فجأة واحتضنته بكل قوّتها الصغيرة.
وشعرت بأنَّه تجمّد كالحجر… فضحكت بخفوت.
حضنه صلب، لكنّه دافئ.
ليس ببرودة والدها الحقيقي الذي كان ينظر إليها بلا مشاعر.
لهذا هي تحبّه.
وتريد أن تعود الأمور كما كانت سابقًا.
“أمّي لا تبتسم كما كانت تفعل.”
“…….”
“ليليا حاولتُ أن تضحكها كثيرًا… لكن هذا لا يجدي. لذا عليك أنت أن تحاول.”
“……سأحاول. لستُ واثقًا أنني سأنجح.”
“إذا فشلت فسأساندك أنا. هذه فرصة لا تتكرر، تفهم؟”
كان يفهم هذا جيدًا جدًا.
فهي كانت دائمًا تُحدّق في أي رجل يقترب من أمّها بعيونٍ حادّة.
ضمّها إليه بقوّة أكبر وهمس بكلمةٍ ظلّ محبوسة داخل قلبه طويلًا.
“آسف.”
“إذا كنتَ آسفًا… اشتَرِ لي حلوى لذيذة لاحقًا.”
“……حسنًا.”
ربّت على رأسها ثم سلّمها إلى سيرف الذي كان ينتظر بقربهما.
راحت الطفلة تُراقب ظهره وهو يبتعد مسرعًا، ثم تنفّست الصعداء.
“جدي سيرف، هل تعتقد أنّ أمّي وعمّي سيتصالحان اليوم؟”
“لقد فعلتِ ما عليكِ، لذا ربّما يفعلان.”
“إذًا… سننام نحن الثلاثة معًا، صحيح؟”
“ماذا؟”
وتجاهلت دهشة سيرف، وابتسمت بمكر لطيف.
لأنَّ هدف ليليا اليوم لم يكن مجرّد الصلح…
بل أن يناموا جميعًا معًا كعائلة واحدة.
‘هيرديان عمّي… وليليا… وأمّي… نحن الثلاثة.’
التعليقات لهذا الفصل " 93"