.:
الفصل 92
بيليندا أخرجت من جيبها بطاقة دعوة لحفل الزفاف كما لو أنّها كانت تنتظر الفرصة لتتكلّم.
كانت البطاقة على ورقٍ أبيض ناصعٍ ومتين، ومزيّنةٍ بنقوشٍ مذهّبةٍ جميلة.
العروس: بيليندا.
لم تُدرِك رنايا إلّا بعد أن استلمت بطاقة الدعوة أنّ بيليندا لم تدعُها فقط من أجل تهنئة ليليا بنجاحها، بل أيضًا لتسليمها بطاقة الزواج.
“أفكّر بإقامة حفلٍ بسيطٍ بدعوة الأقرباء فقط. فالأمر ليس زواجًا بين عائلتَين نبيلتَين…”.
تعمدت بيليندا ترك نهاية الجملة غامضة.
فحتى دون توضيحٍ منها، استطاعت رنايا استنتاج الأمر تقريبًا.
إذا لم يكن الزواج بين عائلتَين، فهذا يعني أنّ العريس شخصٌ من العامّة.
في عالمٍ نادرٌ فيه زواج النبلاء من عامّة الشعب، تساءلت رنايا بإعجابٍ عن مدى الجرأة التي اتخذت بها صديقتها هذا القرار.
‘كنتُ أتوهم طوال هذا الوقت إذن.’
راودها شعورٌ بالحرج حين تذكّرت أنّها ظنّت يومًا أنّ بيليندا قد تكون الأنسب لمساندة هيرديان، دون أن تعلم أنّ قلبها كان قد اختار شخصًا آخر بالفعل.
“…أستاذة، يعني ستعيشين مع رجلٍ غريبٍ من الآن فصاعدًا؟”
تسأل ليليا دون أن تُفكّر حتى بمسح عصير التفاح الذي كان يسيل من فمها.
“سيكون الأمر كذلك على ما يبدو.”
“إذًا… لن أستطيع رؤية الأستاذة كثيرًا بعد الآن؟”
شعرت ليليا وكأنّ رجلًا غريبًا سيأخذ منها معلّمتها.
وحين بدأ الاكتئاب يظهر على ملامحها، ابتسمت بيليندا مطمئنة.
“مستحيل أن يحدث هذا. حتى بعد الزواج سأظل أراكِ دائمًا يا ليليا.”
“…حقًا؟”
“حقًا.”
عندها فقط أشرق وجه ليليا فرحًا،
وأخذت تمسح عصير التفاح الذي ساعدتها رنايا في تنظيفه، ثم تابعت تناول طعامها.
“إذا سنحت لكِ الفرصة فاحضري بالتأكيد.”
كوّن مظهر بيليندا وهي تقول ذلك صورةً كاملة لامرأةٍ عاشقةٍ بصدق.
* * *
منذ منتصف النهار وغرفة نوم كاين تفوح منها رائحة الخمر بشدّة.
فهو منذ أن عاد من قرية لوكلير، لم يمرّ يومٌ واحد إلّا وهو سكران.
اصطدمت زجاجة خمرٍ فارغة على الأرض بحذاء سكرتيره، ثم توقفت عن التدحرج.
عندها فقط رمى كاين نظرةً باردة على السكرتير الذي كان يقف في زاوية الغرفة منذ مدّة.
كانت نظرةٌ كفيلة بإخافة أيّ شخصٍ حتى ترتعش ركبته.
“لا يمكنك إحضار الطفلة؟”
“…نعم يا سيّدي نائب الكونت.”
تحطّم الكأس في يد كاين بقبضةٍ هائجة.
تناثرت الشظايا في يده وغرزت في جلده حتى سال الدم.
قطرات الدم والزجاج سقطت على السجادة.
“سيّدي… يدك—!”
“أترى أنّه معقول أن يُمنع الوالد من أخذ طفلٍ من دمه؟”
كان صوته مفعمًا بتهديدٍ صريحٍ بالقتل إن أساء السكرتير الإجابة.
ابتلع السكرتير ريقه وأخبره بما يعرفه.
“أولًا… تلك الطفلة… أقصد… الآنسة الصغيرة… لا يوجد دليلٌ كافٍ على أنّها من دمكَ.”
“إنّها ابنتي، وأنا متأكّد.”
“قد يكون سيّدي مقتنعًا، لكنَّ الناس سيظلون يشكّون ما لم تظهر والدة الطفلة وتُثبت ذلك.”
“ولِمَ عليّ الاكتراث لما يظنّه الناس؟”
“حتى السيّد الكونت نفسه لن يقبل بالأمر بسهولة.”
ازدادت نظرة كاين ظلامًا.
فحتى لو كان يريد استعادة طفلته، لا شيء سيحدث دون إذن الكونت.
وبينما يجثو التوتر على صدره، تابع السكرتير حديثه بجرأةٍ أخيرة.
“وبعد أن أصبح السيّد هيرديان سيّدًا على مقاطعة فيرماوين… لن يكون من السهل إحضار الآنسة الصغيرة.”
“….”
“فالآنسة الصغيرة مُسجّلة حاليًا كسكّان مقاطعة فيرماوين، ولا يمكن إخراجها دون موافقة السيّد هيرديان.”
قبض كاين على يده المصابة بقوةٍ أشدّ،
وغاصت الشظايا في لحمه أكثر دون أن يُظهر أدنى ألم.
كانت السجادة تبتلّ شيئًا فشيئًا بدمه.
‘…اللعنة.’
يقول الناس إنّ هيرديان حصل على إقطاعيته بذكاءٍ وتخطيطٍ طويلٍ بهدف تولّي منصب الكونت يومًا.
لكنّ كاين كان يرى الأمر بصورةٍ أخرى.
أوّل ما فعله هيرديان بعد أن أصبح لوردًا لفيرماوين هو إعداد سجلٍّ كاملٍ لسكان المقاطعة.
قد يبدو ذلك من أجل الضرائب والإدارة،
لكنّ كاين لم يرَ سوى دافعٍ واحد:
إحكام قبضته على الطفلة قبل أن يحاول هو أخذها.
“إذن تريدني أن أترك ابنتي في يد رجلٍ آخر وأنا أعرف أنّها من دمي؟”
“…هناك طريقةٌ أخرى يا سيّدي.”
“وما هي؟”
انحنى السكرتير أكثر وهو يهمس.
“الآنسة الصغيرة ما تزال طفلة، لا تعرف ما هو الأفضل لها.
علينا فقط أن نجعلها تختارُكَ بمحض إرادتها.”
“تغيير مشاعر الطفلة؟”
“تمامًا.
لو استمرّ سيّدي في الاهتمام بها… سيبدأ قلبها بالميل نحوك.”
غرق كاين في التفكير.
نقر بذراعه على مقبض الكرسي بنمطٍ منتظم.
صورة الطفلة وهي ترفض الذهاب معه بأيّ شكلٍ ظلّت عالقة في ذهنه.
عنيدة مثل أمّها تمامًا…
ولم يكن واثقًا من قدرته على كسر عنادها.
لكنّ الأطفال… يسقطون أمام دميةٍ أو قطعة حلوى.
ربما لن يكون الأمر صعبًا كما ظنّ.
“وهذا… هو كشف المقبولين هذا العام في أكاديمية كليرفور.”
ناولَ السكرتير الأوراق لكاين.
تعجّب كاين في البداية من ذكر الأكاديمية في هذا التوقيت…
لكنّ دهشته تحوّلت بسرعة حين رأى الاسم الأوّل في القائمة:
ليليا فيليت.
اسم طفلته كان الأوّل.
أي أنّها اجتازت القبول بأعلى الدرجات.
* * *
في يوم زفاف بيليندا دارِن،
اختيرت حديقةٌ جميلةٌ مليئةٌ بالأزهار مكانًا للحفل.
وصلت رنايا وابنتها مبكرًا، وفوجئتا بحشود الناس.
‘…ألم تقل إنّه سيكون حفلًا بسيطًا؟’
على ما يبدو… كلمة “بسيط” عند النبلاء تحمل معنى مختلفًا تمامًا.
فقد امتلأ المكان بأشخاصٍ بملابس فاخرةٍ وتصرفاتٍ راقية.
من الواضح أنّهم من علية القوم.
رغم أنّه ليس زواجًا بين عائلتَين،
فإنّ كثرة الحضور النبلاء دلّت على علوّ مكانة بيليندا واحترام الناس لها.
تحدّثت سيداتٌ نبيلات بالقرب من رنايا بصوتٍ منخفض:
“ألا تُصدّقين أنّ الأستاذة بيليندا ستتزوّج؟…
أتمنّى أن تستمر في التدريس بعد زواجها!”
“بالطبع يجب أن تفعل!
ابنتي الثانية تحتاج لدروسها أيضًا.
لو لم تكن الأستاذة، لما نجحت الأولى في دخول الأكاديمية أصلًا!”
تذكّرت رنايا أوّل لقاءٍ لها مع بيليندا.
يومها كانت أمام عقدٍ مليءٍ بالشروط المجحفة… ومع ذلك حافظت على ثقتها.
كم هو مدهش أن ترى كلّ هؤلاء السيدات من الطبقة العليا يمدحنها بلا توقّف.
فكّرت رنايا بإعجابٍ: كم هي محظوظة إذ جمعتها الأقدار بها.
‘…إذن هيرديان هو من جلب هذه المعلّمة المدهشة إلى الشمال.’
اندفعت أفكارها نحو هيرديان بلا إرادتها.
فسرعان ما هزّت رأسها محاولةً قطع هذا الخيط.
“ماما؟”
“…لا شيء يا صغيرتي.
لنأخذ مقاعدنا؟”
ابتسمت بخجلٍ أمام نظرة ليليا المستغربة، وجلستا في مقعدٍ شاغر.
بدأ الحفل بسرعة.
على عكس حفلات النبلاء الجامدة التي تُقرأ عنها في الكتب…
كان الجو دافئًا ومليئًا بالمشاعر.
دخل شابٌّ يبدو صغير السنّ مع بيليندا.
رغم التوتر الظاهر عليهما، وُجدت السعادة بوضوحٍ على وجهيهما.
“واو…”
لم تستطع ليليا إبعاد عينيها عنهما.
وأدركت رنايا أنّ ليليا لم تشاهد أيّ حفل زفافٍ من قبل.
عندما وُلدت ليليا، كان معظم شباب قرية لوكلير قد غادروا بالفعل.
حفلات الزفاف في القرية كانت بسيطةً جدًّا…
لا فخامة ولا حضور كثيف…
لكن الابتسامة التي يرتديها العروسان؟
هي نفسها تمامًا الآن.
‘…زواج، هاه.’
لطالما كان الزواج كلمةً بعيدةً كلّ البعد عن حياة رنايا.
ومع ذلك… كلّما سمعت الكلمة يثقل قلبها دون سبب.
ضحكت بجهدٍ وشاركت الحاضرين تصفيقهم.
اختُتم الحفل وسط الكثير من التهاني.
ثم بدأ حفل الطعام بعدها.
أسرعت ليليا إلى طاولة الحلويات بمجرد السماح بالحركة،
وملأت فمها بالكيك، فنفخت خدّيها كقِطّةٍ سعيدة.
“ليليا، ألم أقل إنّ عليكِ ألّا تُكثري من الكعك مرّة واحدة؟”
“…نعم!”
ردّت وهي تبتلع اللقمة دفعةً واحدة.
ظنّت رنايا أنّها ستشعر بالغربة بين النبلاء…
لكنّ الأمور مرّت بسلام.
فالكلّ كان مشغولًا بالعروسين، ولم يلتفت أحدٌ لامرأةٍ من العامّة وابنتها.
خططت رنايا للعودة بعد قليل…
لكن عينَيها وقعتا مصادفةً على تجمهرٍ لافتٍ في زاويةٍ ما.
ولم يكن السبب العريس ولا العروس…
فقد كانت الوجوه متجمّعة حول شخصٍ آخر.
اقتربت بنظرة فضولٍ بريئة…
ثم تجمّد وجهها تمامًا.
‘لماذا… هو هنا؟’
في مركز ذلك الحشد…
كان يقف هيرديان.
التعليقات لهذا الفصل " 92"