.:
الفصل 91
غادر الفرسان المكان بصعوبة، ولم يستطيعوا الابتعاد سريعًا، وقد تردّدوا للحظات.
“قلتُمْ إنَّه من باب الحماية، لكن لَعلَّكم لا تذكرون ما حدث البارحة. لقد كان الجميع مُلقًى فاقدَ الوعي هناك في المقدّمة.”
“كَح…….”
طعنت رنايا الفرسان في موضع ألمهم.
لم يُدركوا شدّة الخطأ إلّا حين انغرز الخنجر في قلوبهم، فاستداروا بعدها بوجوه منكسرة.
راقبتهم وهي تراهم يخطّون خطواتٍ ثقيلة بعيدًا عنها.
ثمّ خطرت ببالها فكرة فجأة، فنادتهم بحذر.
“عذرًا… هل… هل أهل قرية لوكلير جميعُهم بخير؟”
قضَت الليل تُفكِّر بتمعّن.
لماذا عاد هيرديان في الوقت المناسب تمامًا بعد أن ذهب مسرعًا وكأنّ لديه أمرًا طارئًا؟
ولماذا ظلّ متوتّرًا بالأمس وهو يقلق عليّ دون سببٍ واضح؟
هل حدث أمرٌ ما في قرية لوكلير؟
لقد وَكَّل نائبًا للحاكم هناك، ولعلّه تلقّى منه تقريرًا…
تقريرًا يُخبره بأنّ كايِن جاء وعرف بشأن زوجته وطفلته.
أجاب الفارس من دون تردّد:
“قرية لوكلير وجميع سكّانها سالمون.”
تنفّست رنايا الصعداء بوضوح.
لقد كانت قلقة من أن يكون كايِن ـ بتلك النظرات المشتعلة التي رأتها البارحة في عينيه ـ قد أشعل النيران في القرية.
أومأ الفرسان رؤوسهم، ثمّ عادوا إلى متابعة الطريق.
عندئذٍ استدار آخر فارسٍ منهم قائلًا بنبرة خافتة:
“إذا سمحتِ لي أن أكون جريئًا… الدوق روتشستر حقًّا يقلق على السيدة فيليت من أعماق قلبه.”
“…….”
“إذًا… نستأذن.”
سرعان ما توارى عن الأنظار.
‘ما جدوى قول ذلك الآن…؟’
الشخص الذي حطّم الثقة بينهما أوّلًا كان هيرديان.
سواء قلق عليَّ أم لا، فما النفع الآن؟
شعرت رنايا بصداع.
منذ الصباح والمصائب تتوالى عليها، فلم يبقَ لها عقل يُركِّز.
ومع ذلك، كونُ ليليا لم تُخْتَطَف ولم تُصَبْ بسوء كان نعمةً عظيمة.
“ماما… هل أنتِ غاضبة؟”
شدّت ليليا طرف كمّ رنايا وهي تنظر إليها بعينين مضطربتين تعترفان بالذنب.
كانت ليليا منذ صغرها تعرف فورًا حين تنوي أمّها توبيخها.
وكانت تتهيّأ للعقاب بكتفين مُنخفضين فيذوب الغضب من صدر رنايا.
اليوم لم يكن استثناءً، فلم تستطع رنايا الغضب حقًّا.
فتظاهرت بالغضب رافعةً حاجبها.
“نعم. لأنّك خرجتِ دون أن تخبريني.”
“……أعتذر.”
“لن تفعليها ثانيةً؟”
هزّت ليليا رأسها بحماس.
“حسنًا، هيا لنتناول الفطور. إغسلي يديكِ أوّلًا.”
“حاضر!”
وانطلقت تركض داخل البيت بحيويّة.
في اللحظة نفسها غيّرت رنايا ملامحها إلى الحزن.
حدّقت بالأرض ببالٍ مثقَل.
‘هل تُحبّ ليليا هيرديان إلى هذا الحد…؟’
ربما لصِغر سنّها لم تُدرِك أنّه حاول استغلال أمّها.
لم يكن شعور ليليا تجاهه مجهولًا على رنايا.
لقد كان يهتمّ بها كثيرًا، ومن الصعب قطع الصلة فجأة.
لكنّهما سيفعلان… ببطء… ومع الوقت…
كادت تدخل خلف ليليا إلى الداخل، لكنّها شعرت بحركةٍ ما خلف السور.
ظنّت أنّ الفرسان لم يغادروا بعد، فحدّقت بحدّة.
لتتلاقى عيناها مع رجلٍ لم ترهُ من قبل.
“بريدٌ مُسلَّم!”
ارتبك ساعي البريد من نظراتها الحادّة وقدّم صندوقًا أزرق.
“آسف! ظننته أحدًا أعرفه.”
انحنت رنايا قليلًا وأخذت الصندوق.
على سطحه نقشٌ مألوف…
زنابق فضّية تعانقها ندى الفجر.
فتحت الصندوق، فوجدت زيّ المدرسة وشهادة قبول من أكاديميّة كليرفور.
[نهنّئ الطالبة ليليا فيليت على قبولها في الأكاديميّة.]
* * *
قبول ليليا في أكاديميّةٍ لا يدخلها العامّة إلّا بأعلى الدرجات كان صدمةً سارّة لرنايا.
‘هل يعني أنّ ليليا عبقرية من حيث لا ندري؟’
كانت تؤمن بأنّ العلم يفتح الأبواب، لكنّها لم تُرد أن تُجبر طفلتها أبدًا.
فإنْ رُفضت في الامتحان لبحثت لها عن طريقٍ آخر…
لكن على ما يبدو… ليليا وُلدت لتدرس.
“ماما! تادا!”
خرجت ليليا مرتديةً الزيّ الجديد، ثمّ دارت بدلال.
قميصٌ أبيض وتنّورة داكنة تصل الركبة، ووشاحٌ قصير يضفي عليها لطافةً غامرة.
“كيف؟ هل يُناسب ليليا؟”
شعورٌ غريب غمر رنايا.
متى كبرت هذه الصغيرة إلى أن ترتدي زيًّا مدرسيًّا؟
تذكَّرت يوم حملتها أوّل مرّة.
مولودةٌ صغيرة لا تفعل شيئًا سوى البكاء، لكن ما إن ضمّتها أُمُّها حتى هدأت.
لعلّ ذاك اليوم كان بداية الحبّ العظيم.
“يليق بكِ كثيرًا.”
“ماما، ستأتين معي إلى حفل الدخول، صحيح؟”
“طبعًا.”
“و… هل تظنّين… أنّ عمّ هيرديان سيأتي…؟”
“……هل تودّين حضوره؟”
“نعم!”
كانت رنايا على وشك الإجابة حين:
طَرق.
“مَن هناك؟”
لم يكن موعدَ زائرٍ، ولا عادت ساعي البريد.
ومع ذلك، ساد الصمت طويلًا بلا جواب.
تجمّدت ملامح رنايا.
صارت ترتاب من أيّ طارق.
دفعت ليليا خلفها، وأمسكت بالمقشة بحذر، وفتحت الباب قليلًا.
لم يكن هناك أحد.
فقط صندوقٌ صغير على العتبة.
“ما هذا؟”
“ماما! سأفتحه!”
فتحت ليليا الصندوق قبل أن توقفها أمّها.
في الداخل بروشٌ أخضر صغير وجميل.
مناسبٌ تمامًا لوشاح المدرسة.
“جميل جدًّا…”
أعجب ليليا كثيرًا، فهي تُحبّ لون عيني أمّها الأخضر.
“من قدّمَه؟ لا يوجد اسم.”
توجّه نظر رنايا نحو السور.
رأت ظلًّا يختفي خلفه.
المرسل واضح…
قَبضت على ثوبها بقلق.
‘…هيرديان.’
* * *
ورغم توقّعها أن يأتي كايِن فورًا لأخذ الطفلة، إلّا أنّه لم يظهر أبدًا بعد ذلك اليوم.
لأيّامٍ عدّة كانت رنايا تفزع من مجرّد اهتزاز النافذة بفعل الريح.
وفي أحد تلك الأيّام المشحونة بالتوتّر…
وصلت الأم وابنتها إلى قصرٍ تحيطه حدائق غنّاء.
قصر اللورد حيث تُقيم بِيليندا.
فقد أرسلت لهما دعوةً بعد أن سمعت بخبر قبول ليليا لتُهنّئهما شخصيًّا.
“كنّا بانتظاركما، السيدة رنايا فيليت. الطفلة ليليا فيليت. تفضّلا.”
قادهم كبير الخدم إلى الداخل حيث كانت بِيلنْدا بانتظارهما بترحابٍ كبير.
“أهلًا بكِ، يا أمّ ليليا. وأهلًا ليليا العزيزة!”
“مرحبًا معلّمتي!”
“شكرًا على دعوتكِ يا معلمتي.”
كانت بيلنْدا تبدو بصحّةٍ أفضل من ذي قبل.
قادت ضيفتيها إلى غرفة الطعام.
كانت المائدة تزخر بأطباقٍ تكفي عشرة أشخاص.
تألّقت عينا ليليا بالطمع، وجلست تتأرجح متحمّسة.
“كيف أعددتِ كلّ هذا؟! المفترض أنا من يكرمكِ! لقد ساعدتِ ليليا كثيرًا!”
“لا تُفكّري كثيرًا بهذا. أردتُ فقط تهنئة طالبةٍ أعتزّ بها.”
لم تجد رنايا ما تقوله، ممّا زاد امتنانها.
جلسَت قرب ليليا، وسكنت روحها قليلًا وسط هذا الجوّ الدافئ.
وبعدما امتلأت بطونهنّ وتلذّذن بشاي الأعشاب…
سألت رنايا بخفوت:
“لكن… هل حصل أمرٌ جيّد معكِ يا معلمتي؟ وجهُكِ مشرق أكثر من ذي قبل.”
“حقًّا؟”
إحمرّت وجنتا بيليندا بخجلٍ لطيف.
تبدّت كفتاةٍ صغيرة للحظة.
قبل أن تستوعب رنايا الأمر… إذا بها تسمع كلامًا لم تتوقّع سماعه أبدًا.
“في الحقيقة… لقد قرّرتُ الزواج.”
“……ماذا؟!”
سكبت ليليا عصير التفاح من صدمة الخبر.
التعليقات لهذا الفصل " 91"