.:
الفصل 90
كان الكونت ليبيد روتشستر، حتى وقتٍ قريب، يعتقد شيئًا واحدًا دائمًا.
أنّ هيرديان رجلٌ محظوظٌ للغاية.
في كلّ مرّة يُلقى به إلى حافة الموت، كان يعود حيًّا، وكأنّه يسخر من القدر ذاته.
بلْ إنّه قبل عامين فقط، أثناء حملة القضاء على اللصوص، حقّق إنجازًا كبيرًا.
لكن ليبيد، ذلك الأحمق المتغطرس، لم يكن يرى في ذلك سوى “حُسن حظٍّ متكرّر”.
كان يستخفّ به إلى هذا الحدّ.
غيرَ أنّ الحظّ إنْ استمرّ طويلًا، فلن يعود مجرّد حظٍّ بعد الآن.
وقد أدرك ليبيد تلك الحقيقة، فقط بعد أن وُضع نصلٌ باردٌ على عنقه.
“أرغبُ في أن يُمنَح لي لقبُ حاكمِ منطقةِ فيرماوين باسمي الشخصيّ.”
قال هيرديان ذلك بكلّ هدوءٍ وثقة، بعد أن أثبتَ فضله الأكبر في حادثة منجمِ التعدينِ الأخيرة.
وعند سماع طلبه، عمّت الهمهمة أوساطَ النبلاء في القاعة.
“……أليسَ هذا إعلانًا واضحًا بمعاداةِ الكونت؟”
فما يطلبه هيرديان لم يكن مجرّدَ إدارةٍ مؤقّتةٍ لإحدى أراضي آل روتشستر، بلْ رغبةً صريحةً في امتلاكِ أرضٍ مستقلّةٍ تخصّه وحده.
لم يسبق في التاريخ أنْ حصلَ أحد أفرادِ أسرةٍ نبيلةٍ على لقبِ حاكمٍ مستقلٍّ بينما ربُّ الأسرة ما يزال حيًّا.
جلسَ الإمبراطور سيدريك آرغِير على عرشه، وحدّق في هيرديان بنظرةٍ يملؤها الفضولُ والاهتمام.
“ليسَ بالأمر الصعب، لكن لماذا تُصرّ على تلك الأرض بالذات؟ هناك أراضٍ أفضلُ منها بكثير.”
“لأنّ أشجارَ التفّاحِ بدأت تنمو في فيرماوين.”
“……ماذا قلت؟”
فيرماوين كانت أرضًا ميّتة، لا تنبتُ فيها حياة.
عشرات العلماء حاولوا إحياءها دون جدوى، حتى نُسيت تقريبًا، ولم يعد أحدٌ يذكر أنّها تتبعُ للإمبراطورية أصلًا.
لذلك، لم يتمكّن الإمبراطور من إخفاء دهشته.
“ما زالت في المرحلة التجريبية، ولكنّ سكّانَ فيرماوين اتّحدوا لزراعة أشجار التفّاح. وبحسب الوضع الحاليّ، يبدو أنّها ستُثمر قريبًا.”
“هاهاها! أحقًّا تقول؟”
“لذا، أرغبُ في إدارةِ فيرماوين بنفسي، والمساهمةِ في ازدهار الإمبراطورية.”
انفجر الإمبراطور ضاحكًا، ضحكةً صافيةً لم تُسمع منه منذ زمنٍ طويل.
لقد أعجبتهُ فكرةُ إحياءِ أرضٍ ميّتةٍ إلى هذا الحدّ.
فما أعظم أن تُعاد الحياةُ إلى أرضٍ نسيها الجميع!
“جيّد، أمنحك فيرماوين.”
“شكرًا لكم، يا صاحبَ الجلالة.”
“يا لها من أخبارٍ سارّة!”
كان الإمبراطور على علمٍ بتاريخِ عائلة روتشستر.
وكان يدركُ تمامًا ما يعنيه أنْ يطلبَ أحدُ الورثة المرفوضين من عائلته لقبًا باسمه الشخصيّ.
إنّه تمرّدٌ مبطّنٌ ضدّ سيادةِ العائلة.
لكنّ الإمبراطور لم يكن يرغب في إهمالِ تابعٍ ذي كفاءة.
هيرديان روتشستر شابٌّ موهوب.
بلْ لعلّه الأكثرُ نفعًا لشؤون الدولة من بين جميع الحاضرين.
‘لنرَ كيف سيتصرّف بعد الآن.’
ارتسمت ابتسامةٌ خفيفة على شفتي الإمبراطور، وهو يوجّه نظره نحو الكونت ليبيد.
“كونت روتشستر.”
“……نعم، يا صاحبَ الجلالة.”
تقدّم ليبيد وانحنى بجوارِ هيرديان.
“يبدو أنّك ربيتَ ابنَ أخيك جيّدًا. فمنذ حملة القضاء على اللصوص، وهو يخفّف عني الكثير من المتاعب.”
“يشرفني أنْ يكونَ ابنُ أخي عونًا لجلالتكَ.”
“سمعتُ أيضًا أنّ ابنَك ساعد في حادثة المنجم الأخيرة. فلا بدّ أنّك فخورٌ، ما دامَ ابنُك وابنُ أخيك يرفعان اسمَ أسرتك.”
انحنى ليبيد أكثرَ، يخفي خلف ذلك وجهًا يقطرُ حنقًا.
‘اللعنة…’
كان يظهرُ الاحترام، فقط ليخفي الغضب الذي يغلي داخله.
“سأعقدُ آمالي عليكم مستقبلًا.”
“……سنبذلُ أقصى جهدنا، يا صاحبَ الجلالة.”
وانتهى الاجتماع الدوريّ بذلك.
خرج النبلاء من القاعة، يتهامسون بحماسٍ حول ما جرى.
رفع ليبيد رأسه للحظة، فتقابلت عيناه بعيني هيرديان.
كانت النظرة الزرقاء الهادئة تُثير جنونه.
غادر القاعة وهو يعضّ على شفته من شدّة الغيظ، ثمّ توجه إلى مكانٍ خالٍ وضربَ العمود بقبضته بعنف.
لكنّ ذلك لم يُخفّف شيئًا من غضبه.
“كيف تجرؤ على الطمع في مكاني؟!”
منذ متى كان يخطّط لتلك الوقاحة؟
تذكّرَ هيرديان وهو يُخفي مخالبه كوحشٍ متربّصٍ في الظلال، فاشتعل صدره كالجمر.
‘اعرفْ قدرك يا ليبيد. فمهما حاولتَ، لن تصلَ أبدًا إلى مستوى أخيك.’
تردّد صدى صوتِ أبيه في أذنيه.
ذلك الأب الذي لم يوجه له نظرةَ دفءٍ واحدة، مهما حاول إرضاءه.
أما أخوه الأكبر، فكان دائمًا المميّز في كلّ شيء.
ذكيٌّ، قويٌّ، يحمل دماءً أنقى.
لذا، نال كلَّ الحبّ الذي حُرم هو منه.
في صغره، كان يشعر بالغيرة.
ثمّ كبرَت تلك الغيرةُ إلى حقدٍ، وأخيرًا إلى رغبةٍ جامحةٍ في التفوّق.
‘لا يا أبي، لقد فعلتُها. أنا الآن كونت روتشستر، لا هو.’
تنفّس ليبيد بعمقٍ، يحاول تهدئة نفسه.
حتى لو حاول ابنُ أخيه انتزاعَ مكانه، فذلك لا يعني شيئًا.
فكما تخلّص من أخيه سابقًا، يمكنه التخلّصُ من ابنِه أيضًا.
“لن أسمح بذلك… أبدًا… ليس بعد كلّ ما فعلتُ لأصل إلى هنا.”
ومع تلك الهمهمة، تلألأت عيناه الزرقاوان بخطورةٍ قاتمة.
* * *
قضت رنايا الليل ساهرةً لا تنام.
وحين بزغ الفجر، فتحت الستائر بهدوءٍ، تنظر إلى الخارج.
ولحسن الحظّ، لم يكن هناك أحد.
تطلّعت إلى المكان الذي كان يقف فيه هيرديان بالأمس، ثمّ زفرتُ بارتياح.
‘جيّدٌ أنّه ليس هنا.’
فلو بقي طوال الليل، لربّما لانَ قلبها من جديد.
نظرت إلى ليليا النائمة، ثمّ اتّجهت بهدوءٍ إلى الحمّام.
غسلت وجهها بالماء البارد، وتأمّلت وجهها المنعكس في المرآة، المتعبَ والفاقدَ للحيوية.
‘هل أستطيعُ حقًّا حمايةَ ليليا وحدي؟’
كانت ليليا قد توسّلت إليها أنْ يبقيا هنا.
ورغم أنّ رنايا كانت تعرفُ الخطر، إلّا أنّها لم تستطع الرحيل.
فمن يدري؟ ربّما يهاجمُ كاين اليوم نفسه.
هل هذا القرارُ صائب؟ هل تسيرُ في الطريق الصحيح؟
تمنّت لوْ وجدتَ أحدًا يمنحها قليلًا من اليقين.
بصراحة، لم تكن واثقةً من قدرتها على حمايةِ ليليا وحدها.
لكنّها كانت تعلم شيئًا واحدًا: أنّها لن تسمح بأن تُؤخذَ منها بسهولة.
إنْ حاول كاين أخذَ الطفلة، فستتشبّث به بكلّ قوّتها، حتى لو اضطرت للبكاء عند قدميه.
نظرت إلى انعكاس عينيها الخضراوين في المرآة، وقد امتلأتا بالعزم.
‘الأمّ والعم، سيتصالحان ويعيشان سويًّا.’
تذكّرت كلماتِ ليليا تلك، فانطفأتْ لمعةُ عينيها من جديد.
لم تستطع أنْ تُحقّق لطفلتها هذا الحلم.
اختلطت مشاعرها في دوّامةٍ موجعةٍ من الحزن والحنين والغضب.
كانت محبّتها لهيرديان تتصارع مع خذلانها منه.
تنفّست بعمقٍ وخرجت من الحمّام.
حان وقتُ إيقاظ ليليا.
“ليليا، حبيبتي، استيقظي…”
لكنّها توقّفتْ فجأة.
كان الباب مفتوحًا، والسريرُ خاليًا.
اختفت ليليا!
شحب وجهُها تمامًا، وانطلقت تجري خارج المنزل.
‘هل أخذها أحد؟! متى؟ لم أسمع شيئًا…!’
وقبل أن تصل إلى قصر روتشستر، التقطت أذنُها صوتًا صغيرًا مألوفًا في حديقة الزهور.
“عمِّي، متى سيأتي العمّ هيرديان؟”
“لا نعلم، يا صغيرة.”
“إذا لم تعرفوا أنتم، فمن سيعرف إذًا؟!”
تبادلَ الحراسُ نظراتٍ مضطربة، وقد بدوا محرجين أمام نظراتها الغاضبة.
فهم نفسهم الذين سقطوا بالأمس أمام كاين ولم يستطيعوا حمايتها.
“……نعتذرُ يا آنسة ليليا.”
“قولوا له إنّ ليليا بانتظاره، وعليه أنْ يأتي بسرعة!”
“حسنًا… سنبلّغه فورًا، يا آنسة…… أهه!”
تجمّد الحارس وهو يلتفتُ خلف الطفلة، ليقع بصرُه على رنايا التي كانت تحدّق بهم ببرودٍ قاتل.
اختبأ الرجالُ فورًا وكأنّهم رُضّعٌ خائفون.
“……أمِّي؟”
قالت ليليا بخوفٍ وهي تبتسمُ ابتسامةً مذنبة.
“اخرجوا حالًا. قبل أن أُقدّم بلاغًا بتهمةِ التسلّلِ ومحاولةِ اختطافِ طفلةٍ!”
“…….”
“أتريدونني أنْ أقدّمه حقًّا؟”
كان تهديدُها فعّالًا جدًا.
فقد خرج الرجالُ الخمسةُ واحدًا تلوَ الآخر بخجلٍ.
نعم، كانوا نفسَ أولئك الذين طرحهم كاين أرضًا بالأمس.
“أنتم من رجالِ هيرديان، أليس كذلك؟”
“…….”
“ومنذ متى تراقبوننا؟”
“ليست مراقبةً، بل حمايةٌ بأمرِ السيّد.”
“طالما لم أكن أعلم، ولم أطلب ذلك، فهي مراقبة.”
أدركتْ أنّهم كانوا يراقبونها طوال الوقت.
لكنّها لم تشعر بالغضب… بلْ بالإرهاق.
لقد سئمت اكتشاف الأسرار المخفيّة واحدًا تلو الآخر.
‘حتى ليليا بدتْ وكأنها تعرفهم من قبل…’
وهذا يعني أنّهم كانوا حولها منذ زمن.
“نقسم أنّ نيتنا كانت الحماية فقط. قال السيّد إنّ احتمالَ تعرّضكم لهجومٍ وارد، لذلك أمرنا بأنْ نبقى قريبين منكما.”
لكنّ كلماتهم لم تغيّر شيئًا في نظر رنايا.
فبعد أن فقدت ثقتها في هيرديان، لم يعد بين “الحماية” و”المراقبة” فرقٌ في نظرها.
“لقد أخفيتم عنّي الأمر، وهذا كافٍ.”
ثمّ تابعت ببرودٍ:
“غادروا فورًا. وإنْ بقيتم هنا أكثر، سأبلّغ السلطات.”
التعليقات لهذا الفصل " 90"