بدلًا من الإجابة، تنفّس بارتان تنهيدةً خفيفة، ثمّ ضرب هيرديان على رأسه بمقبض السيف الخشبي.
لم يكن الألم شديدًا لأنّ الضربة كانت خفيفة، لكنّ الفتى، الذي لم يُضرب بهذه الطريقة من قبل، تجمّد في مكانه من الصدمة.
“يَجِبُ أن تُصلِحَ أسلوبَ كلامِكَ قليلًا. ما معنى أن تقولَ (أنتَ) لشخصٍ راشد؟”
“هل تجرؤ على التحدّث إليّ بهذه الطريقة وأنتَ لا تعرف مَن أكون؟!”
“أنتَ نجلُ كونتِ روتشستر، أليس كذلك؟ حسنًا، وما في ذلك؟ هل يمنحُكَ هذا اللقبُ طعامًا تأكله؟ أم أنّه سيحميكَ إن هاجمكَ دبّ؟”
عضَّ هيرديان شفتَيه بصمت، ولم يجد ما يردّ به.
كانت كلمات بارتان صحيحة، فمكانته لم تَعُد ذاتَ نفعٍ في فيرماوين.
بل في الحقيقة، لم تَعُد مكانتهُ تُجديه نفعًا في أيِّ مكانٍ آخر أيضًا. فحتى لو عرّف عن نفسه باسم “هيرديان روتشستر”، لَما كان أحدٌ سيهتمّ.
‘وماذا في ذلك؟’
فهو الوريثُ المطرودُ والمنبوذُ من عائلته، ولا أحدَ يُعامله باحترامٍ سوى أتباعِه القلائل.
قال بارتان بنبرةٍ هادئة:
“سألتُكَ عمّا تعيشُ من أجله، أليس كذلك؟”
“……”
“رغم أنّ هذا العالم بائسٌ إلى حدٍّ لا يُطاق، إلّا أنّ هناك دومًا بصيصَ أملٍ صغيرًا يجعلنا نستمرّ في العيش.”
“أملٌ؟”
كانت إجابةً عاطفيّةً من رجلٍ تبدو عليه القسوةُ والوحشيّة.
لكن، هل وُجِدَ الأملُ أصلًا في هذا العالم؟
منذ اللحظةِ التي فقدَ فيها والديه، بدا لهيرديان أنّ العالمَ بأسرهِ أصبح بلا ألوان، وصار يرى كلَّ شيءٍ بالأبيض والأسود، ونسِيَ معنى كلمة “أمل” منذ زمنٍ بعيد.
“لكلِّ إنسانٍ سببٌ مختلفٌ يعيشُ لأجله، فإنْ لم تستطعْ فَهمَ الآخرين، فلا تُجهِد نفسَك بالمحاولة. على أيّ حال، مثلكَ، يا صغيري، ما زال أمامكَ وقتٌ طويلٌ لتفهمَ مثل هذه الأمور.”
كلمة “صغيري” أثارت غضبَ هيرديان للحظة، فاشتعلت عيناه الزرقاوان بالانزعاج، لكنّ بارتان ضحك بصوتٍ عالٍ. بالنسبة إليه، كان غضبُ الصبيِّ مثلَ دلالِ حيوانٍ صغيرٍ لا أكثر.
مدَّ بارتان يدَه كما لو أنّه يقول له أن ينهض.
“إنْ لم تَعرِف بعدُ سببَ بقائِكَ حيًّا، فعِشْ لتبحثَ عن ذلك السبب.”
كانت تلك جملةً تبدو كأنّها مجرّد مغالطة، لكنّ هيرديان لم يستطعْ تجاهلها. لقد شعر في كلماتِه بشيءٍ صادقٍ يدعوه إلى ألّا يموت، أيًّا كان السبب.
أمسكَ بيدِه الخشنةِ المليئةِ بالندوب، ونهضَ وهو يقول بنبرةٍ حادّةٍ كعادته:
“لا تُتقنُ سوى الكلام المنمّق.”
“هذا الفتى…”
بعثرَ بارتان شعرَه بعنفٍ حتى صار فوضويًّا، لكنّ هيرديان لم يغضب، بل شعرَ لوهلةٍ بالدفء في صدرِه.
‘أعيشُ لأجلِ البحثِ عن سببٍ للعيش، هاه…؟’
تساءل في نفسه إن كان سيجدُ ذلك السببَ يومًا في فيرماوين، ومع ذلك، خفقَ قلبُه بخيطٍ صغيرٍ من الأمل.
لكنّ ذلك الأملَ تلاشى سريعًا. فحين بلغَ التاسعةَ عشرة، وجدَ نفسَه في ساحاتِ الحربِ دون أن يجدَ سببًا واحدًا للبقاء حيًّا.
* * *
السنةُ 799 وفقَ تقويم الإمبراطوريّة.
رياحُ الصحراءِ القاسيةُ كانت تعصفُ في مناطقِ الحدود، والمشهدُ هناك لم يكن إلّا جحيمًا. حيثما امتدَّ البصر، لم يكن يُرى سوى بركِ دماءٍ لا يُعرَفُ أصحابُها، وأجسادٍ تتساقطُ واحدةً تِلوَ الأخرى.
“لا تتراجعوا أبدًا!”
صرخَ قائدُ الفرسان، فردَّ عليه الجنودُ بهتافاتٍ مدوّية.
في وسطِهم، كان هناك شابٌّ ذو ملامحَ باردةٍ يلوّحُ بسيفِه بلا رحمة. إنّه هيرديان، الذي لم يُكمِلْ حتى طقوسَ بلوغِه، وقد زُجَّ بهِ في الخطوطِ الأماميّة.
لم يكن ذهابُه إلى هناك طوعًا، بل نتيجةَ مؤامرةٍ من عمِّه ليبيد، الذي ادّعى التضحيةَ من أجلِ الإمبراطوريّة بينما أرادَ فقط إنقاذَ نفسِه وابنه، ودفعَ بابنِ أخيهِ إلى الجحيم.
‘لابدّ أنّ عمّي ينتظرُ خبرَ موتي بفارغِ الصبر.’
كان يدرك أنّه لا ينتظرُ خبرًا سارًّا بالتأكيد.
ما زال لم يجدْ سببًا للعيش، لذا راحَ يُقاتلُ فقط من أجلِ العثورِ على ذلك السبب، ولعلّ جزءًا منه كان مجرّدَ رفضٍ للرضوخِ للموت.
حين بدأت رائحةُ الدمِ تُخدّرُ أنفَه، وبدأت يدُه التي تُمسكُ السيفَ ترتجفُ من الإرهاق، تراجعَ الأعداء أخيرًا. زفرَ هيرديان تنهيدةً عميقة، مُدرِكًا أنّه نجا من الموتِ مجدّدًا.
“نجوتُ… اليومَ أيضًا.”
“انقلوا الجرحى أوّلًا!”
لم يكن هناك أحدٌ سالم. الجميعُ مصابون، يتساندون ببعضِهم البعض عائدين إلى المعسكر.
وخلالَ طريقهم، لم تتوقّفْ نظراتُ الجنودِ عن التوجّهِ نحوه. كان نجلُ الكونتِ الذي يُقاتلُ وحدَه في الخطوطِ الأماميّة حديثَ الجميع، وكانوا مذهولين بمهارته.
دخلَ خيمتَه المنفردةَ، وحين غابَتْ عنه الأعين، انكمشَ وجهُه من الألم. أطلقَ أنينًا خافتًا وخلعَ سترتَه. كان ذراعُه الأيسرُ مشقوقً بعمق، والدمُ يتسرّبُ منه، أمّا جسدُه فكان مليئًا بالجروحِ الصغيرة.
فقدَ إحساسَه بالزمن. كان يستيقظُ ليقتلَ العدوَّ ثم ينامُ حين ينهكُه التعب، فلا غرابةَ أن يفقدَ اتّزانه العقليّ.
أنهى علاجهُ على عجلٍ، وارتدى ملابسَه، ثم خرج. فاقتربَ منه فارسٌ في منتصفِ العمر، له شعرٌ بُنيٌّ وعينان خضراوان داكنتان.
“ما الأمر؟”
“شكرًا لك، يا سيّدَ روتشستر.”
“……؟”
“لقد أنقذتَ حياتي قبلَ قليل. أشكركَ من أعماقِ قلبي.”
انحنى الفارسُ بامتنانٍ أمام شابٍّ يصغره سنًّا، أمّا هيرديان فلم يتذكّر الحادثة أصلًا. ربّما أنقذَه مصادفةً أثناءَ المعركة.
“تفضّل، هذا شرابٌ وصلنا تَوًّا من الإمدادات.”
ناوله قنينةً صغيرةً، فأخذها هيرديان وأومأ شكرًا. لكنّ ما إنْ شربَ منها حتى غصَّ فجأة.
“كُخ، كُخ!”
تذوّقَ طعمًا مرًّا على لسانه، فبصقَه على الأرضِ فورًا.
سألَه الفارسُ بحذر:
“ألستَ معتادًا على الشراب؟”
“هل هذا ما أعطَوْنا إيّاه لنشربَه؟!”
“نعم. فليس هناك ما يُسكّنُ الألمَ مثلَ الخمر.”
لكنّ هيرديان لم يكن ممّن يشربون الخمر. حتى في أسوأِ إصاباتِه، لم يسمحْ لهُ نفسهُ بقطرةٍ واحدة. فمدّ القنينةَ عائدًا للفارس وقال:
“لا حاجةَ لي به.”
منذُ ذلك اليوم، صار يصادفُ الفارسَ نفسهُ كثيرًا. أو بالأحرى، كان الفارسُ هو من لا يفارقُه، يقتربُ منهُ في كلّ مكانٍ تقريبًا.
“يا سيّدَ روتشستر، كيف تمضي وقتَكَ عادةً؟”
“……لا أفعلُ شيئًا خاصًّا.”
“هاه، كما توقّعتُ، حتى حين لا تفعلُ شيئًا تبدو رائعًا.”
رفعَ الفارسُ إبهامَيه إعجابًا، فظنّ هيرديان في البداية أنّه يسخرُ منه، لكنّه مع الوقتِ لم يعُد ينزعجُ. فمهما كان الشخصُ مزعجًا، حين تراهُ كلَّ يومٍ، تتكوّنُ بينكما ألفةٌ خفيّة.
لم يكونا يتحدّثان كثيرًا، لكنّ هيرديان صار يتساءلُ كلَّ يومٍ عمّا إنْ كان ذلك الفارسُ ما يزالُ حيًّا.
وذاتَ يوم، سمعَ أنّ الفارسَ أُصيبَ في المعركة، فتوجّهَ إلى مستشفى الميدان.
حين رآه الفارسُ من بعيدٍ، ابتسمَ ابتسامةً مشرقةً ولوّحَ بيده:
“آه، يا سيّدَ روتشستر! أنا هنا!”
لكنّ جسدَه كان محطّمًا تمامًا. فقدَ ساقَه اليمنى، وقيلَ إنّه لن يتمكّنَ من الركضِ ثانيةً ما عاش.
“أعتذرُ إليكَ يا سيّدَ روتشستر. كما ترى، لن أستطيعَ القتالَ بعد اليوم.”
ورغم ذلك، بدا راضيًا. فقدَ ساقَه، لكنّه احتفظَ بحياتِه.
“في الحقيقة، لديّ زوجةٌ لطيفةٌ كالأرنب. ولدينا أميرةٌ صغيرةٌ جميلةٌ إلى حدٍّ لا يُوصَف. طالما أنّ ذراعَيّ ما زالتا قادرتين على احتضانِهما، فذلك يكفيني.”
“……”
“آه، هل ترغبُ في رؤيةِ صورةِ زوجتي؟ جميلةٌ جدًّا، مثل الأرنبـ…”
“لا داعي.”
رفضَ هيرديان بصرامة. بدا الفارسُ بحالةٍ جيّدةٍ على أيّ حال.
“سأنتظرُ أخبارَ النصرِ من الخلف. لقد قدّمتَ للإمبراطوريّة الكثير، لذا أنا واثقٌ أنّ جلالتَه سيكافئُكَ حين تعود.”
استدارَ هيرديان مغادرًا، فيما راقبَه الفارسُ بعينين تملؤهما القلق.
الذين قاتلوا إلى جانبِه كانوا يعلمون جيّدًا كم هو وحيد. فكلٌّ منهم كان يقاتلُ من أجلِ شيءٍ: بعضُهم لأجلِ العائلة، وآخرون لأجلِ المجدِ أو الأحلام، أمّا هو… فكان يبدو خاليَ الداخل.
ظنَّ الفارسُ أنّها قد تكونُ آخرَ مرّةٍ يراه فيها، فصاحَ من سريرِه بكلماتٍ صادقةٍ أخفاها طويلًا:
“ستجدُ أنتَ أيضًا يومًا ما شخصًا ثمينًا تعيشُ من أجله. لذا… عِشْ، من فضلك.”
وانتهت الحربُ القاسيةُ تلك في العامِ التالي.
تخطّى هيرديان مؤامراتِ ليبيد، وتمسّكَ بالحياةِ حتى النهاية. لكنّه حين عادَ، سلّمَ كلَّ إنجازاتِه للأميرِ الثاني القائد، ثمّ عادَ بهدوءٍ إلى فيرماوين.
التعليقات لهذا الفصل " 89"