“قلتُ لك إنّه لا بأس! مَن الذي قد يعيش فعلًا في بيتٍ متهالك كهذا؟ الجميع يكذبون، بالتأكيد.”
“لكنّ بيتنا متهالك أيضًا.”
كان صوت الأطفال يُسمَع من الخارج. فحرّك هيرديان حاجبيه قليلًا وهو جالسٌ على الكرسي يقرأ كتابًا.
ظنَّ أنّهم سيصمتون قريبًا، غير أنّ الأصوات أخذتْ ترتفع أكثر فأكثر.
“لكن… أخي، انظر! هناك آثار أقدام!”
“ما بالك تخاف من كلّ شيء؟”
ولمّا لم يستطع هيرديان تحمّل الأمر أكثر، أغلق الكتاب بعصبيّة وتوجّه إلى النافذة، ففتحها على مصراعيها. فلفحَتْهُ نَسمةٌ باردة من هواء فيرماوين.
ثمّ التقت عيناه بعيني صبيّين كانا يوشكان على دخول القصر عبر البوابة المهدّمة.
“ماذا؟”
توسّعت أعين الطفلين دهشةً، وأشارا إلى هيرديان بأصابعهما.
“أوه؟ إنّه إنسان! يعيش شخصٌ هنا!”
“اخرجا من بيتي.”
“منذ متى تعيش هنا؟ ما اسمك؟ هل تعيش وحدك؟”
لم يُصغِ الصبيّ الفضولي إلى كلمةٍ واحدة من كلمات صاحب البيت، بل انهال عليه بالأسئلة.
تنفّس هيرديان بعمق ثمّ أغلق النافذة بقوّة.
كان يمقت الأشخاص الثرثارين أشدّ المقت.
وبينما كان يزفر ضجرًا، دخل سيرف الغرفة بعد أن سمع الضوضاء.
“من هؤلاء يا تُرى؟ أيوجد مَن يعيش في فيرماوين أيضًا؟”
“يبدو أنّهم أطفالٌ من قريةٍ صغيرةٍ قريبة.”
“اطردهم. والأفضل أن تُصلَح البوابة في أقرب وقت.”
كان مزاج هيرديان سيئًا بعد أن قوطع أثناء القراءة، فألقى أوامره ببرودٍ وجلس مجددًا ليواصل الكتاب.
فقال سيرف متردّدًا:
“أتودّ الذهاب إلى القرية مرّة؟”
“ولِمَ أفعل؟”
“بقاؤك في الغرفة طوال الوقت ليس جيّدًا لصحّتك، سيّدي.”
عقد هيرديان حاجبيه وقال بحدّة:
“لا أريد.”
وبعد فترةٍ قصيرة، أُجبر على ارتداء ثيابٍ جديدة وخرج إلى القرية برفقة سيرف وميغيل، وقد بدا الغضب واضحًا على وجهه.
“أتُسمّون هذا قرية؟”
“إنّها لطيفةٌ وصغيرة، ألا ترى؟” أجاب ميغيل مبتسمًا.
كان المكان يتكوّن من عدّة بيوتٍ خشبيّةٍ قديمةٍ متلاصقة، وكأنّها ستنهار من أيّ دفعة. أقرب إلى قريةٍ نائية منها إلى بلدة.
تنفّس هيرديان بمرارة.
بالطبع، لا يمكن أن تكون هناك قريةٌ حقيقية في أرضٍ منسيّة كهذه.
وبينما كان يستعدّ للعودة، التقت عيناه بعيني الصبيّ نفسه الذي حاول اقتحام القصر صباحًا.
“آه؟ أنتَ ذاك الفتى من قبل!”
أوه، هذا الثرثار ثانيةً…
اتّخذ هيرديان تعبيرًا متضايقًا في الحال.
“أتعرفه؟ لا أظنّني رأيته من قبل.”
سأل رجلٌ ضخم كان يقف بجانب الفتى، يمتدّ من جبينه إلى وجنته اليمنى جرحٌ طويل عموديّ، أعطاه مظهرًا مخيفًا جعل سيرف وميغيل يقفان أمام سيّدِهما بحذرٍ لحمايته.
“إنّه هو يا عمّ بارتان! ذاك الذي يعيش في البيت الكبير هناك!”
“آه، الشاب الذي جاء قبل أيّام، أليس كذلك؟”
قطّب هيرديان حاجبيه وسأل:
“أتَعرفني؟”
“أيّها الصغير، لِمَ تتحدّث دون احترام؟”
“سألتُ إنْ كنتَ تعرفني.”
“لا أعرفك. وما شأني بأبناء النبلاء؟ سمعتُ فقط أنّ شابًّا مدلّلًا طُرِد من مكانه وجاء يعيش هنا.”
تجمّد وجه هيرديان ببرود.
“هل يظنّ النبلاء أنّ هذا المكان مكبّ نفايات؟”
كان بارتان قد فهم الموقف سريعًا. فذلك الصبيّ الأرستقراطي لم يأتِ للعيش هنا طوعًا، بل نُفي إلى فيرماوين.
‘لماذا يُتركونهُ هنا تحديدًا؟’
فكّر بارتان بانزعاجٍ وهو يحكّ أذنه، قلقًا من أن يجلب هذا الضيف المتكبّر المتاعب إلى قريتهم الهادئة.
تجمّد هيرديان صامتًا. لم يكن يظنّ أنّ أمره سيصل إلى سكان فيرماوين بهذه السرعة.
كان يتمنّى لو أنّ الجميع تجاهلوه تمامًا، بل ونسوا وجوده كليًّا، كأنّه لم يُولَد أصلًا.
“لا شأنَ لي بحياتكم هنا. أتمنّى ألاّ أراكم تقتربون من منزلي مجدّدًا.”
قالها ببرودٍ وغادر، يتبعه خادماه على عجل.
لكن قبل أن يصل إلى أسفل الجبل، دوّى زئيرٌ منخفض جعل الأرض تهتزّ.
“أيها الفتى! الأفضل ألاّ تصعد الجبل الآن!” صاح بارتان.
لكن هيرديان لم يُعره اهتمامًا، ومضى في طريقه بعناد.
وفجأة، انقضّ عليه وحشٌ ضخم مغطّى بالفراء الأبيض من وراء الأشجار.
مدّ سيرف وميغيل أيديهما نحوه في فزع، لكن الوحش كان أسرع منهما بكثير.
“ابتعد عن الطريق، سيّدي!”
“سيّدي!”
غمر البياض رؤيته. كان الدبّ الجبليّ العملاق ينقضّ عليه.
ورغم جوعه، لم يكن الحيوان بلا وعي، فهو يعرف مَن يستطيع صيده ومَن لا.
ومع ذلك اختاره هدفًا له، لأنّه الأضعف.
‘تمامًا كما فعل عمي.’
لم يقتله بيده، بل طرده إلى هذه الأرض الموحشة ليموت وحيدًا.
‘هل سأموتُ هكذا؟ دون معنى؟’
لم يشعر بالخوف. ترك جسده مستسلمًا. لكن في تلك اللحظة، دفعه بارتان بقوّة جانبًا وصدّ مخلب الدبّ بفأسه.
وبمساعدة خادميه، نهض هيرديان من الثلج ووجهه متجمّدٌ ثمّ أحمرّ من شدّة البرد.
فسألهُ سيرف بقلق.
“هل أنت بخير، سيّدي؟”
نظر هيرديان إلى جثّة الدبّ، ثمّ قال بصوتٍ منخفض:
“لماذا أنقذتَني؟”
“هاه؟”
“كان من الأفضل ألاّ تتورّط معي.”
عقد بارتان حاجبيه غاضبًا. لم يكن هذا كلام صبيٍّ في مثل عمره، فأراد أن يوبّخه، لكنّ هيرديان مضى مبتعدًا قبل أن يجيبه.
ومنذ ذلك اليوم، قرّر ألّا يتورّط مع أحدٍ من سكان فيرماوين.
غير أنّ قراره لم يدم طويلًا، إذ بدأ الزوّار يتوافدون إلى قصره يومًا بعد يوم.
* * *
كانت أصواتُ اصطدام السيوف الخشبيّة تتردّد في ساحة القصر. ورغم أنّ النوافذ كانت مغلقة، فقد كان الصوت عاليًا بما يكفي لإزعاج هيرديان، فغطّى رأسه بالبطّانية من الضجر.
لأيّامٍ عدّة، كان بارتان يُدرّب ميغيل على فنون القتال.
قال إنّ ميغيل هو مَن طلب ذلك بنفسه.
‘ولماذا يتدرّب هنا تحديدًا؟! هناك أماكن أخرى كثيرة!’
كان قد غضب من قبل، لكنّهما تجاهلا اعتراضه تمامًا.
حاول تجاهل الأصوات وإجبار نفسه على النوم مجددًا، لكنّ الباب فُتح فجأة، ودخل سيرف.
“سيّدي، حان وقت الاستيقاظ.”
“سأنام أكثر، اخرُج.”
“الأفضل أن تُحرّك جسدك قليلًا اليوم. بما أنّ السيّد بارتان هنا، فلتجرّب التدريب على السيف مع ميغيل.”
“لن أفعل. اخرج من هنا فورًا.”
رفضه كان قاطعًا.
لكن بعد نصف ساعة، وجد نفسه مرّة أخرى محمولًا كالحقيبة على يد سيرف وموضوعًا في ساحة القصر.
رمى بارتان إليه بسيفٍ خشبيّ قائلاً:
“أيها الشاب، هل جربتَ استخدام السيف من قبل؟”
“قليلًا، سابقًا.”
“إذن، دعنا نرى مهارتك قبل أن أبدأ التعليم.”
“ماذا؟ أنا لم أقل إنني…”
لكن قبل أن يُكمل، كان بارتان قد بدأ الهجوم فعلًا.
بالكاد صدّ الضربة الأولى، ووقف مذهولًا.
“قلتُ إنني لا أريد أن أتعلم!”
“من الأفضل أن تُمسك السيف بطريقةٍ صحيحة أولًا.”
لم يُصغِ إليه، وواصل تدريبه القاسي.
وما هي إلاّ لحظات حتى سقط هيرديان أرضًا يتنفّس بصعوبة.
ناوله بارتان قنينة ماء، فتناولها على مضضٍ.
‘ما الذي أفعله بحقّ السماء؟’
شرب قليلًا، فسمع بارتان يقول بجدّية:
“بمهارةٍ كهذه، عجيب أنّك ما زلتَ حيًّا. هل كان خدمك هم من يحميك دائمًا؟”
“ابتعد عن شؤوني.”
“ابتداءً من الغد، تعال في الموعد تمامًا. سأعلّمك بنفسي.”
“ولِمَ عليّ أن أُمسك السيف؟”
“لأنّ مَن يريد حماية نفسه، يحتاج إلى القوّة.”
‘القوّة…؟ لِمَ أحتاج إلى حماية نفسي أصلًا؟’
لم يعُد يرى في نفسه ما يستحقّ الحماي
ة. حتى لو واجه خطر الموت مجددًا، فلن يهرب.
كانت فيرماوين ملجأً لمن فقدوا رغبتهم في الحياة، ومع ذلك رأى في عيون بارتان والأطفال هناك بريقًا لا يزال متمسّكًا بها.
التعليقات لهذا الفصل " 88"