.:
الفصل 87
يبدو أنّ ليليا كانت تظنّ دائمًا أنّ الأشخاص الذين يرتكبون الأخطاء هم فقط من يفرّون.
حرّكت رنايا شفتيها قليلًا، ثمّ جلست على ركبتيها لتُصبح في مستوى نظرِ لِيليّا. اقتربت الطفلة منها أكثر.
“أمّي، هل لِيليّا هي التي أخطأت؟”
“ولِمَ تظنّين ذلك؟ هل وبّخكِ أحدٌ وقال إنّكِ أخطأتِ؟”
“لكن…”
‘لماذا يهرب الناس إنْ لم يرتكبوا خطأ؟’
كانت عينا لِيليّا تقولان ذلك بصمت.
رأت رنايا ملامح القلق تظهر على وجه طفلتها، فابتسمت قليلًا وقالت بلطف:
“لِيليّا… الإنسان لا يهرب فقط عندما يرتكب خطأ، بل أحيانًا يهرب ليحتمي من الخطر أيضًا.”
“خطر؟”
“نعم، الخطر الذي يُهدّد لِيليّا.”
كانت لِيليّا فقط تجهل الخطر الذي يحيط بها.
فلو أنّ كاين أخذها إلى عائلة روتشستر، لربّما واجهت النهاية الرهيبة نفسها التي حدثت في الرواية.
فقط من طريقة معاملتهم للأطفال كما لو كانوا أشياء، يمكن توقّع ما سيحدث.
“لِيليّا، ألا تشعرين بالخوف؟ سيأتون مجددًا ليأخذوكِ.”
“لِيليّا لا تخاف أبدًا. فلن أذهب على أيّ حال. ثمّ إنّ أمي هنا، والعمّ هنا، لذا أنا بخير.”
ما زالت لِيليّا تثق بهيرديان، رغم أنّه حاول استغلالها.
“هل تحبّين العمّ يا لِيليّا؟”
“ليس بقدر ما أحبّ أمي وجدّتي، لكن نعم، أحبّه.”
“لأنّه لا يجبركِ على أكل الجزر؟”
“همم، هذا جزء من السبب…”
تردّدت قليلًا، ثمّ اقتربت من أمّها وهمست بصوتٍ خافتٍ كأنّها تخشى أن يسمعها أحد.
‘ما الذي تريد أن تقوله؟’
أصغت رنايا بانتباه، وما إن سمعت كلمات طفلتها حتى اتّسعت عيناها ببطء.
“لأنّه الشخص الذي تُحبّه أمي.”
“…”
“إنْ كانت أمي تُحبّه، إذًا لِيليّا أيضًا تُحبّه.”
تحبّين هيرديان أم تكرهينه؟
لو كان عليّ أن أختار بين الاثنين، لقلتُ في الماضي إنّي أحبّه. لكن الآن… لا.
لا يمكنني أن أنظر إلى شخصٍ حاول استغلال ابنتي بالطريقة نفسها بعد الآن. لا أستطيع أن أحبّه…
فجأة، شعرتْ رنايا بوخزٍ في صدرها. قطّبت حاجبيها وأمسكت بطرف ثوبها.
كلّما فكّرت في هيرديان أكثر، ازداد الألم في صدرها، كأنّه يذكّرها بأنْ تستفيق.
“أمي، يجب أن تُعبّري عمّا في قلبك. أنتِ من علّمتِ لِيليّا ذلك.”
قالت الطفلة ذلك ببراءةٍ كاملة.
“أمي تُحبّ العمّ…”
نعم… رنايا فيليت تُحبّ هيرديان روتشستر.
“أنا…”
توقّفت الكلمات في حلقها. شعرتْ وكأنّ المشاعر التي طالما حاولت إخفاءها في أعماقها قد خرجت إلى السطح فجأة.
‘آه… لقد كنتُ أحبّ هيرديان طوال هذا الوقت.’
لا تدري متى بدأ ذلك.
هل كان منذ مهرجان العام الجديد حين استمتعا سويًّا؟ أم منذ الأيام التي قضياها في فيرماوين؟ أم ربّما منذ لقائهما الأول في قرية لوكلير؟
الشيء الوحيد المؤكّد أنّها أحبّته كأكثر من صديق منذ زمن، لكنّها كانت تخدع نفسها بأعذارٍ شتّى.
كم قرأت في الروايات عن شخصيّاتٍ لا تعرف مشاعرها الحقيقيّة وتتصرف بغباء!
كنتُ أظنّها مثيرة للشفقة… ولم أتوقّع يومًا أن أكون مثلها.
ضحكت رنايا بخفوت. كانت ضحكة ساخرة من نفسها.
‘يا لي من حمقاء… وفي أسوأ وقتٍ ممكن أيضاً.’
هل يُجدي هذا الإدراك الآن نفعًا؟
كلّ ما قاله هيرديان لها من قبل… لا بدّ أنّه كان كذبًا.
حدّقت بالأرض بنظراتٍ تائهة، تشعر بالفراغ. تمنت لو بقيت جاهلة بما في قلبها.
أما لِيليّا، فلم تكن تدرك ما أثارته كلماتها في أمّها، فتابعت بثقةٍ طفولية:
“أمي، لِيليّا تريد أن تبقى هنا دائمًا. مع أمي والعمّ، نعيش معًا بسعادة.”
* * *
رغم أنّ القمر ارتفع عاليًا في السماء، ظلّ هيرديان واقفًا أمام الباب المغلق عاجزًا عن المغادرة. كان ينتظر أن تخرج، لكنّه لم يجرؤ على طرق الباب.
‘كنتَ تعلم أنّ هذا سيحدث إن كُشف أمرك.’
ظلّت عينا رنايا المليئتان بالخذلان تطارده في ذاكرته.
كانت تعتبر حياة ابنتها أثمن من حياتها ذاتها. فكيف لا تشعر بالخيانة بعدما علمتْ أنّه خدعها؟
لقد أُتيحت له فرصٌ كثيرة ليقول الحقيقة… أن يعترف بأنّه يعرف بشأن الطفلة. لكنّه لم يفعل. كانت النتيجة الحتمية لغروره وغبائه.
ظنّ أنّ بإمكانه إخفاء الأمر. يا له من أحمق.
‘ما الفرق بيني وبين أولئك الأوغاد؟’
كم كان مضحكًا. كان يظنّ نفسه مختلفًا عن قاتلي والديه، لكنّه الآن يرى أنّه ليس أفضل منهم. كلاهما يغدر بالناس ويطعنهم من الخلف.
”العمّ لا يحتاج أن يكون لطيفًا مع لِيليّا.”
تذكّر تلك الليلة حين جاءت الطفلة إلى القصر وحدها. بعد أن استعدّت للنوم وعانقت دميتها، قالت فجأة:
”لكن بدلًا من ذلك، كُن لطيفًا مع أمي.”
”…”
”لو سبّبتَ لأمي الحزن، سأغضب.”
”ستجعلينني أركع مثل المرة السابقة؟”
”لا.”
”…”
”لكنّي سأغضب حقًّا. ولِيليّا عندما تغضب… تكون مخيفة.”
رفعت حاجبيها الصغيرة محاولة تقليد ملامح الغضب، لكنّها بدت له فقط في غاية اللطافة.
مع ذلك، لم يعتبرها مزحة. كانت تلك كلمات طفلةٍ صادقة تُحذّر ببراءة.
‘نعم… ستغضب بلا شك.’
اقترب منه ظلّ شخصٍ آخر بعد وقتٍ طويل من الانتظار. انحنى سيرف وقال بخفوت:
“سيّدي،”
كان يقصد أنّ الوقت قد حان للعودة إلى القصر والاستعداد للرحيل إلى العاصمة، إذ كان اجتماع الدولة سيُعقد صباحًا.
لكنّ هيرديان لم يتحرّك. بقي واقفًا حتى طلع الفجر.
كان يخشى أنّ رنايا قد ترحل ليلًا، ولم يستطع الابتعاد رغم علمه أنّه لا يملك الحقّ في منعها.
‘إنْ رحلت رنايا، سأعود وحيدًا… كما كنتُ في ذلك اليوم البعيد.’
* * *
عام 770 في الإمبراطورية.
رغم ارتدائه ملابس سميكة، كان البردُ قارسًا يخترق العظام. وقف فتى أشقر ذو ملامح صغيرة أمام قصرٍ متهالك في فيرماوين وقال بامتعاض:
“هل يُفترض أن يكون هذا… بيتًا؟”
كان الباب الحديدي صدئًا لم يُدهَن منذ زمنٍ طويل. ركله الفتى، فانفتح بصوتٍ مزعجٍ قبل أن يسقط على الثلج.
تنفّس الصعداء بسخرية، ثم دخل المنزل.
الداخل كان أسوأ من الخارج. أرضيةٌ تصدر صريرًا، جدرانٌ مغطاةٌ بشِباك العنكبوت، وغبارٌ يملأ المكان. رفع الفتى كُمّه ليغطي أنفه وفمه.
“بصراحة، ليس سيئًا كما توقّعت يا سيّدي. يحتاج إلى بعض الترميم، لكنه صالح للسكن.”
“قولُك هذا دليلٌ على أنّ رأسك مزروع بالزهور.”
رمق هيرديان خادمه ميغيل بنظرةٍ حادّة.
جلس وهو يرتجف أمام المدفأة القديمة، بينما كان سيرف يجمع بعض الخشب ليُشعل النار.
كان منظر الثلاثة متجمّعين حول نارٍ صغيرة مضحكًا ومؤلمًا في آنٍ واحد.
قال سيرف وهو يُخرج قطعة لحمٍ مجفّفة:
“تفضّل، سيّدي. ابتداءً من الغد، سأُحضّر طعامًا لائقًا.”
لكنّ هيرديان أشاح بوجهه وقال بصوتٍ واهن:
“هل هذا يعني أنّ عليّ أن أعيش هنا إلى الأبد؟”
“ليس إلى الأبد يا سيّدي.”
“…”
“عندما تكبر وتصبح قادرًا على الاعتماد على نفسك، ستعود إلى العاصمة.”
“يا لكم من حالمَين أنتَ وميغيل.”
كان هيرديان في العاشرة من عمره، لكنّه كان يعرف الحقيقة.
‘هذا المكان… سيكون قبري.’
لم يكن هناك طعامٌ كافٍ، وكان البرد لا يُحتمل، والغابات من حولهم مليئةٌ بالوحوش. النجاة لعامٍ واحدٍ ستكون معجزة.
“ماذا أستطيع أن أفعل؟ ليس لديّ شيءٌ أستند إليه.”
لم يتبقَّ له سوى اسم العائلة “روتشستر”. فقدَ كلَّ شيءٍ آخر: والديه، وإرادته في الحياة أيضًا، على يد عمّه الذي وثق به.
“ستكتسب القوة يومًا ما، يا سيّدي.”
“هل تطلب منّي الانتقام؟”
“القوة ضروريّة حتى لتحمي نفسك.”
لكنّ كلماته لم تجد صدىً في نفس الفتى الذي فقد رغبته في العيش. منذ لحظة علمه بأنّ قاتل والديه هو عمّه، صار يعيش فقط لأنّه لا يستطيع الموت.
البعض يعيش بدافع الانتقام، والبعض الآخر يسقط في العجز واليأس أمام قوّةٍ لا يستطيع مواجهتها. وهيرديان كان من النوع الثاني.
“من أجل سيّدنا الراحل وسيّدتنا…”
“كفى. لا تُكمل.”
قاطع كلامه ببرودٍ، ثمّ نهض مغادرًا وهو يقول:
“وجودكما معي لن يفيدكما بشيء. لقد أدّيتما واجبكما، فاذهبا.”
ومنذ تلك الليلة… أغلق هيرديان على نفسه الباب، ولم يخرج من غرفته مجددًا.
التعليقات لهذا الفصل " 87"