كان كاين أكثرَ يقينًا وهو يراقب ملامحَ هيرديان المتشنّجة وهي تتلوّى قليلًا.
هاه… أطلق ضحكةً ساخرة، ثمّ وجّه نظرتَه الباردة نحو رنايا.
“كنتَ تنوي استخدام تلك الطفلة، أليس كذلك؟”
“…….”
“لهذا السبب جلبتَها إلى قاعة الحفل في ذلك اليوم بكلِّ فخر، أليس كذلك؟”
كانت نواياه واضحة وضوحَ الشمس. فلو كان كاين في موقفه، لكان تصرّف بالطريقة نفسها.
أن تكون ابنةُ عدوِّك بين يديك… ما السبب الذي قد يمنعك من استغلالها؟
ومهما كان هيرديان يمقُت حقيقة أنّ بينهما دمًا واحدًا، إلّا أنّه بلا شكّ رجلٌ من آلّ روتشيستر.
‘من تعبيره يبدو أنّ المرأة لم تكن تعلم بالأمر.’
في هذه الأثناء، كانت رنايا لا تزال عاجزةً عن استيعاب الصدمة.
منذ لحظةِ دخول كاين إلى منزلها وحتى الآن، شعرت كأنّ عاصفةً هوجاء تضرب حياتها.
“……لقد أصبحتَ صاحبَ خيالٍ واسعٍ يا أخي.”
“تحاولُ بشدّة. أكانت هذه القصة مما رغبتَ ألّا تعرفه تلك المرأة؟”
“أخي.”
انخفض صوتُ هيرديان، ونظراتُه كانت حادّةً إلى حدٍّ مخيف، كأنّه سيفٌ على وشكِ أن يُسلّ.
ضحكَ كاين بسخريةٍ خفيفة.
“أعطني الطفلة.”
“قالتْ بنفسها إنها لا تريدُ الذهاب معك.”
“إنّها تحملُ دمي. أليسَ من حقِّ والدها أن يأخذها؟”
“حتى لو كانتْ من دمِكَ، لا يمكنكَ أخذَها بالقوّة. أنتَ لستَ وليَّ أمرها القانوني.”
كانت رنايا تحدّقُ بظهرِ هيرديان العريض، تتذكّرُ ما حدث قبل عامين.
قبل عامين، أدرجتِ اسمَ ليليا في سجلِّ أسرةِ البارون إيفرادين.
لم تكنِ الإجراءاتُ صعبة، لأنّ ليليا لم تكن مسجَّلة في أيّ سجلٍّ من قبل.
قبل ذلك، كانت سيلين تتجنّب تسجيلها بحججٍ مختلفة، وكانت رنايا تفهمُ ذلك.
فهي مطلوبة، ومن الطبيعي أن تتجنّبَ أن يظهر اسمُها في الوثائق الرسميّة.
‘…تذكّرتُ أن الشيوخَ حذّروني وقتها. قالوا إنّني سأتحمّل المسؤولية إن أبلغتُ عنها للسيّد الإقطاعي.’
كانت رغبتُها حينها أن تُعطي الطفلةَ الثقة، أن تقولَ لها من خلال ذلك التسجيل: لن أتخلّى عنكِ أبدًا.
“لو كانتْ من عائلةٍ نبيلةٍ لكان الأمرُ صعبًا، لكنّك تتحدثُ عن مجرّد طفلةٍ من العامّة، ولم أتوقّع أن تستشهدَ بالقانون الإمبراطوري من أجلها.”
بمعنى آخر، أنّ القانون يحمي النبلاء فقط، لا العامّة.
استشعرتْ رنايا مجددًا كمْ أنّ هذا العالم الذي عاشتْ فيه ثمانيةً وعشرين عامًا قائمٌ على طبقيّةٍ صارخة.
لكنّ كاين لم يُبدِ أيّ نيّةٍ للتراجع.
عندها رفعتْ ليليا صوتها بغضبٍ لأولِ مرة.
“ليليا لن تذهب! قالت إنها ستعيشُ مع أمّها إلى الأبد!”
“من عنادِها يبدو أنّها تشبهُ أمَّها في الطبع.”
فتحت ليليا فمَها بدهشةٍ غاضبة.
هذا الرجل لا يُفهم!
في المرة السابقة حين التقتْه في الشارع، كان كلامُه قاسيًا لكن أفعالَه لطيفةً بعض الشيء.
أمّا الآن، فكلّ شيءٍ فيه يبدو شريرًا.
لم تكنْ ترغبُ أبدًا بالبقاء مع شخصٍ كهذا، ولو للحظةٍ واحدة.
تشبّثتْ أكثرَ بذراعِ أمّها.
“أرجوكَ عدْ من حيث أتيت. ما لم تكن ترغبُ برؤية الدماء تُراق هنا.”
“أتُهدّدينني؟”
“بل أنصحُكَ نصيحةً صادقة. أنتَ لا تريدُ إثارةَ ضجّةٍ في هذا الوقت العصيب، أليس كذلك؟”
كانت العائلةُ الإمبراطورية تُطهّر صفوفها من المتورّطين في فضيحة مناجمِ التعدين السرّية، وكانَتْ أسرةُ ليبيد تخشى أن يطالَها الشكّ، لذا لم تكن تريد أيَّ فضيحةٍ جديدة مع آلّ روتشيستر.
ظلّ التوتّرُ مشحونًا بينهما، ولم يجرؤ أحدٌ على الحركة.
كانت ليليا تُحدّقُ في كاين بنظرةٍ متحدّيةٍ غاضبة، تُعلنُ فيها رفضَها المطلقَ للذهاب معه.
وبعد لحظةٍ من المبارزةِ الصامتةِ بين نظراتِهما، قرّر كاين أن يتراجع خطوةً.
“سآتي لأخذها مجددًا لاحقًا.”
كان يعلم أنّ أيَّ كلامٍ آخر الآن لن يُغيّر رأيها، ولم يكن يرغبُ في خوضِ معركةٍ بالسيف داخل هذا المكان.
لذا اختارَ أنْ يكتفي اليومَ بهذا القدر، على أن يمنعَ فقط احتمالَ هروبهما.
ركبَ حصانَه، وقبل أن يغادر، نظر طويلًا إلى ليليا التي أعرضتْ عنه متعمّدةً.
“اعتنِ بها جيّدًا حتى ذلك الحين.”
وحين ابتعدَ صوتُ حوافرِ حصانه، التفتت ليليا إلى أمّها التي كانت لا تزال شاحبةً ومذهولة.
أمسكتْ طرفَ كمّها برفق.
“أمّاه… هل أنتِ بخير؟”
استجمعتْ رنايا أنفاسها بصعوبة، وارتسمتْ على وجهها ابتسامةٌ واهنة.
“أنا بخير. وأنتِ يا ليليا، هل تؤلمكِ يدُك؟”
كان المعصمُ الذي أمسكَه كاين قد أحمرَ قليلًا.
أومأتْ ليليا قائلةً إنها بخير.
وحين نهضتا، حاولَ هيرديان أن يقترب، لكنها ابتعدت خطوةً إلى الوراء وهي تراقبه بحذر.
“رنايا، هل أصبتِ بشيء؟”
“لا تقتربْ.”
كانت نظراتُها أشدَّ حذرًا من ذي قبل، أشبه بتلك التي نظرتْه بها عند لقائهما في قرية لوكلير.
“ما معنى قولِكَ إنّك كنتَ تعرفُ كلَّ شيء؟”
“رنايا.”
“أجبني فقط.”
لم تكن تنوي تصديقَ كلام كاين كلّيًا.
كانت على استعدادٍ لتصدّقَ لو أنّ هيرديان قال إنّه لم يكن يعلمْ حقًّا، لكنّ جوابه جاء مغايرًا لتوقّعاتها.
“لم أكنْ أعلمْ منذ البداية…”
“لكنّكَ علمتَ فيما بعد، أليس كذلك؟”
أدركتْ كمْ كانتْ ساذجة.
بينما كانتْ هي ترتجفُ خوفًا من أن يُكشفَ أمرُ ليليا، كان هو يعلمُ الحقيقة كلَّ هذا الوقت.
فهل كان يُعاملُ الطفلةَ بلطفٍ ليستخدمها فقط؟
شعرتْ بأنّ دمَها يبرد في عروقها.
“هل كنتَ حقًّا تنوي استخدامَ ليليا؟”
“…….”
“حتى مساعدتُكَ لقريتنا، وحتى اقتراحُكَ بالذهاب إلى الشمال، وكلّ ما فعلتَه من أجلها… كلّه كان لهذا الغرض؟”
في البداية ظنّتْ أنّه شخصٌ طيّب، وأنّ لطفه لا غايةَ له.
لكن يبدو أنّها كانتْ مخدوعة.
وربما كان اعترافُه بحبِّها أيضًا مجرّد وسيلةٍ لتسهيلِ استخدامِها.
“لا تحاول حتى أن تبرّر.”
تحرّكت شفتاه بصعوبةٍ قبل أن ينطقَ بصوتٍ خافتٍ متألم.
“لن أقولَ إنّ الفكرةَ لم تخطرْ لي يومًا… لكن إنْ قلتُ إنّ نيّتي الآن تغيّرت، هل ستُصدّقينني؟”
‘لا أستطيع.’
‘لا أستطيع أن أصدّق أحدًا الآن.’
بعد أن سمعتْ ذلك الجواب، كان من المستحيل أن تُصدّقه.
كانتْ ممتنّةً لأنّه حماها أمام كاين، لكنّ خيبةَ الأملِ والخذلانِ كانت أعمقَ من الشكر.
“ارحلْ. لا أريدُ أن أراكَ الآن.”
“البقاءُ في هذا البيت خطر. تعلمين أنّه سيعود ليبحثَ عنكما.”
“وهذا يعني أن أقبلَ مساعدتَكَ؟ من شخصٍ حاولَ استغلالَ ابنتي؟”
التعليقات لهذا الفصل " 86"