.:
الفصل 85
منذُ اليوم الذي تهشّم فيه رأسه، كان كاين يتحيَّنُ الفرصةَ للانتقامِ من سيلين ورنايا.
لم يُعجبه أنّهما تجرّأتا على رفضه، بل وصرْنَ بعد ذلك صديقتين مقرّبتين.
لكنّ الموقف تغيّر الآن.
فبسببِ امرأةٍ واحدةٍ مثلها، أصبحتِ القريةُ بأكملها مُهدَّدةً بالزوال، ولذلك خرج بنفسه ليُجيبَ بدلًا عن الشيوخ.
بدأ يسردُ ما حدثَ في الماضي.
منذُ اليوم الذي انتقلتْ فيه سيلين إلى قريةِ لوكلير وهي حامل، وحتى اليوم الذي تركتْ فيه الطفلَة وهربت.
“……طفلة؟”
تفاجأ كاين من تلك الكلمة، فلم يبدِ أيّ ردّة فعلٍ لوهلةٍ، وكأنّه صُدم تمامًا.
هو أكثرُ مَن يعرفُ أنّ سيلين كانتْ غير قادرةٍ على إنجاب الأطفال.
“……هل أنجبتْ فعلًا؟”
“نعم يا سيدي. لقد كانتْ تأتي أحيانًا إلى مزرعةِ التفاح مع ابنتها.”
“……هاه.”
كم رغِبَ بتلك اللحظةِ طويلًا.
لكنّ سماعه أنّها أنجبتْ وعاشتْ حياةً سعيدةً من دونِه، جعله يشعرُ بشيءٍ غريب.
مزيجٌ من الفرحِ والغضبِ في آنٍ واحد.
الفرحُ لأنّها عاشت براحةٍ، والغضبُ لأنّها لم تَعُد إليه رغم حملها بطفله.
“أين الطفلة الآن؟”
“هذا…”
“قبل أن أُجيب، أودّ أن أطرح سؤالًا واحدًا.”
تقدّمتْ هيلدي وقطعتْ الحديثَ فجأة.
حاولَ الأهالي منعها، لكنها لم تتراجع قيدَ أنملة.
“……لا أذكرُ أنني سمحتُ لكِ بالكلام. هل سئمتِ من الحياة؟”
“على أيةِ حال، أيّامي في الدنيا لم تَعُدْ كثيرة، فلن أندمَ إنْ متُّ الآن.”
“……”
“ما علاقتُك الآنسةِ سيلين غريويل؟ هل كنتَما قد وعدتما بعضكما بالمستقبل؟”
لم يُجبْ كاين.
لكنّ صمته كانَ أبلغَ من أيّ اعتراف.
عندها تنفّستْ هيلدي بعمقٍ وهي تُخفي تنهيدةً ثقيلة.
لقد كانتْ تشعرُ بذلك منذُ كانتْ سيلين تسكنُ بجوارها.
كانتْ تدركُ أنّها امرأةٌ حزينةٌ تحملُ جراحًا من ماضيها مع زوجها.
ولذلك كانتْ تُرسلُ رنايا إلى بيتِها من حينٍ إلى آخر، تحملُ معها سلالَ الخبزِ الدافئِ والفواكه.
‘……لهذا السببِ عانتْ الآنسةُ غريويل كثيرًا.’
يا لها من حياةٍ قاسية، حياتُها وحياةُ هذا الرجلِ المقيّدِ بها أيضًا.
“كما قلتُ آنفًا، سيلين لم تَعُدْ هنا. لقد غادرتْ بهدوءٍ يومًا ما.
والطفلةُ أيضًا لم تَعُدْ هنا، فقد غادرتْ منذُ زمنٍ لتُكملَ تعليمها وتستكشفَ العالمَ الواسع.”
“……”
“كلّ ما فعلناه في قريتنا هو أنّنا قدّمنا المأوى لتلك المرأةِ الوحيدة الحامل التي جاءتْ إلينا.
لذا أرجو منكَ أن تُظهروا قليلًا من الرحمة.”
قريةٌ كانتْ تهمّ هيرديان إلى حدّ أنه زرع فيها عيونًا خفيّة.
وفتاةٌ من العامة أحضرها إليه فجأة مدّعيًا أنّها خطيبتُه، ولها طفلةٌ صغيرة.
كلُّ التفاصيل كانتْ تتّضح أمام كاين واحدةً تلو الأخرى.
‘……ها، إذًا هذا ما حدث حقًّا.’
بمجردِ تلك الشذرات من المعلومات، أدركَ ما أرادَ معرفته.
ثمّ امتطى جوادَه مبتعدًا تاركًا خلفه السكانَ المذعورين.
“سأُؤجّلُ أمرَ تدميرِ القرية.”
قالها ببرودٍ، وانطلقَ بسرعةٍ نحو المكان الذي كانتْ فيه سيلين وطفلتُه.
ما إنْ اختفى حتى انهارتْ هيلدي على الأرضِ من شدّةِ التوتّر، وسارعَ السكانُ لمساعدتها.
وبينما كان بعضُهم يُواسونها، قام آخرون بضربِ الرجلِ الذي باحَ بالأمر.
“آخ! لِمَ تضربونني؟!”
“كيف تجرؤ على قولِ هذا أمام الغرباءِ أيّها الأحمق!”
“لكنْ لو لم أقلْ شيئًا، لأُحرِقتْ قريتنا!”
“حتى لو كان كذلك! الإنسانُ أهمُّ من القرية دائمًا!”
كانتْ بعضُ الوجوه تتنفّسُ الصعداءَ لأنّ القرية لم تُحرق، بينما رفعتْ هيلدي رأسَها نحو السماءِ الصافية وقالتْ في سرّها:
‘……رنايا.’
* * *
سادَ توتّرٌ خانقٌ داخلَ المنزلِ الصغير.
كانتْ رنايا تُمسكُ بيدِ ليليا بقوّة، كأنّها لو سقطتِ السماءُ فوقهما فلن تُفلتَ يدَ الطفلة.
“……ماذا تعني بأنّك ستأخذها؟”
قالتْها وهي تُخفي ليليا خلف ظهرها أكثر.
“كنتِ ماهرةً في التمثيلِ والإخفاء طوالَ هذا الوقت.”
“ماذا تقول…؟”
“يبدو أنّك كنتِ على معرفةٍ بزوجتي السابقة.”
ارتجفَ قلبُ رنايا حين سمعتْ تلك الجملة الباردة.
إنْ كان يعرفُ علاقتها بسيلين، فهذا يعني أنّه يعرفُ كلَّ شيءٍ تقريبًا.
“سأمنحكِ مكافأةً مجزية.”
“……”
“فقط أعيديها إليّ.”
كان يقصدُ أنّه سيدفعُ لها ثمنَ السنواتِ التي ربّتْ فيها الطفلة.
لكنّ رنايا ضحكتْ بسخريةٍ مُرة.
لم تأخذْ ليليا طمعًا في المال.
ولو كانتْ تُريدُه، لكانتْ أرسلتْ إليه رسالةً منذُ البداية، تُخبره أنّ دمَه يسري في مكانٍ ما.
“لا حاجةَ لي بالمال، سيدي الصغير.
وليس لديّ أيُّ نيةٍ لأعطيكَ ما تُريدُه مقابلَ شيءٍ منك.”
كانتْ تعرفُ كم عانتْ ليليا حين كانتْ تعيشُ تحتَ سلطةِ كاين.
تذكّرتْ بوضوحٍ سطورَ الروايةِ التي وصفتْ آلامَها، وهي تُصارعُ وحدتَها بشراسة.
لذلك، لن تُسلِّمَها له أبدًا.
‘……لابدّ أنه زار قريةَ لوكلير، وإلا لما عرفَ كلَّ هذا.’
هلْ نجا الأهالي؟
هلْ جدّتها بخير؟
حتى في هذه اللحظةِ الحرجة، كانتْ رنايا تفكّرُ بأحبّائها.
ثمّ عادتْ إلى تذكّرِ مشهدٍ من الرواية:
في العامِ الذي بلغتْ فيه ليليا الثامنةَ من عمرها، جاء كاين إلى القرية.
وبحسابِ المواسم، كان الوقتُ الآن هو نفسَ الوقتِ تمامًا.
‘……لقد تراخيتُ، كان عليَّ أن أكونَ أكثرَ حذرًا.’
عضّتْ رنايا على شفتها بقوّة.
“ارجعْ من حيثُ أتيتَ، يا سيدي الصغير.”
“هلْ أنتِ من النوعِ الذي يجعلني أكرّر كلامي مرتين؟”
“ليليا ليستْ شيئًا تملكه لتأخذَه.”
“وليستْ طفلةً عليكِ تربيتُها أيضًا.”
“إنّها ابنتي التي احتضنتُها، لذا يحقُّ لي أن أُربّيها.
في هذه الأيام، العائلةُ لا تُبنى بالدمِ فقط.”
تجمّدتْ ملامحُ كاين، فبرودةُ وجهه دلّتْ على أنّه لم يَعُدْ يرغبُ في مجرّدِ الكلام.
‘……هل يمكننا الهرب؟’
بعد أنْ كُشف أمرُها، لم يبقَ سوى الفرار.
كانتْ تتوقّعُ هذا يومًا ما، فالأمرُ كان مسألةَ وقتٍ ليس إلّا.
ستكونُ حياةُ الهروبِ صعبة، لكنها ستتحمّلها.
طالما ليليا معها، فكلُّ شيءٍ محتمل.
أمسكتْ بيدِ الطفلةِ وانطلقتْ جاريةً خارجَ الباب.
لكنها توقّفتْ فجأة.
أمامَ البيت، كان رجالٌ يرتدونَ السوادَ مطروحينَ أرضًا يتألّمون.
‘مَن هؤلاء؟’
“العمّان…”
تمتمتْ ليليا بصوتٍ مرتجفٍ وهي تنظرُ إليهم.
أدركتْ رنايا من نبرتها أنّ الطفلة تعرفُهم.
خرجَ كاين بعدها بخطواتٍ بطيئةٍ وصوتٍ مُنخفضٍ كأنّه يُكتمُ غضبَه.
“إنْ جاءتْ معي فسيكونُ حالُها أفضل.
ستعيشُ في منزلٍ أوسع، وتأكلُ وتشربُ ما تشاء، وتتعلّمُ مثلَ النبلاء.
وفي النهاية ستُصبحُ كونتيسةَ روتشستر.”
إلى أين أهرب؟
وكيفَ أُفلتُ منه؟
كانتْ أنفاسُ رنايا تتسارعُ في ذُعر، وقلبُها ينبضُ بقوّةٍ مؤلمة.
لكنّ ليليا خرجتْ من خلفها فجأة، وفتحتْ ذراعيها لتحمي أمّها الصغيرة.
ثمّ نظرتْ مباشرةً إلى كاين وقالتْ بصوتٍ جريء:
“ليليا لن تذهبَ معك.”
“……”
“ليليا تُحبُّ أمَّها، وستعيشُ معها إلى الأبد.”
“حتى لو عِشتِ في هذا البيتِ الحقيرِ طوالَ حياتك؟”
“ما دامَتْ أمّي معي، فهو أجملُ بيتٍ في العالم.”
حتى لو انتهى بهما الأمرُ في الشوارع، فوجودُ أمّها يكفيها.
بهذا الحبِّ البريء، عبّرتْ ليليا عن كلِّ شيء.
“أنتَ شخصٌ شرّير، أليس كذلك؟”
“……”
“تضربُ الرجالَ الذين يرتدونَ الأسود، وتتشاجرُ مع العمّ هيرديان،
وحتى أمّي الأولى… لقد آذيتها.”
“أمّكِ الأولى؟”
“……تلك التي تملكُ الشعرَ الأسود.
الصورةُ في القلادةِ التي تُخفيها أنتَ، هي لها.
عرفتُها فورًا عندما رأيتُها.”
أدركتْ رنايا في تلك اللحظةِ أنّ ليليا تعرفُ حقيقةَ والدها.
‘مستحيل… أهذا يعني أنَّ ذلك اليوم…’
تذكّرتْ يومَ التقيا صدفةً في الطريق، وكيفَ بكتْ ليليا بشدّةٍ بعده، وراودتها كوابيسُ لعدّةِ ليالٍ.
لم يكن هناك وقتٌ آخر يمكن أنْ تكتشفَ فيه الحقيقة سوى ذاك اللقاء.
“لن أذهبَ معك.
ليليا هي مَن تُقرّرُ مَن يكونُ والداها.”
“يبدو أنكِ لا تزالينَ صغيرةً ولا تُميّزينَ الصوابَ من الخطأ.”
مدّ كاين يده بقسوةٍ ليمسكَ بيدِ الطفلة.
لكنّ يدًا أخرى أوقفتْه بقوّةٍ شديدة.
كانَ هيرديان.
عاد مسرعًا حتى تطايرَ شعرُه من شدّةِ العجلة.
“أفلِتْها، يا أخي.”
“……”
“إنّها تتألّم.”
ما إنْ تحرّرتْ ليليا، حتى ارتمتْ باكيةً في حضنِ رنايا، مرتجفةً من الخوف.
وقفَ هيرديان أمامهما يحميهما بجسده، بينما نظرَ كاين إليه باستهزاءٍ وهو يُدلّكُ معصمه.
“هيرديان… كنتَ تعلمُ كلَّ شيءٍ منذُ البداية، أليس كذلك؟”
التعليقات لهذا الفصل " 85"