.:
الفصل 84
كيف يُفترض بي أن أنظر إلى هيرديان؟
على الأرجح، سيكون من الأفضل أن أتصنّع عدم تذكّر ما حدث البارحة.
فالمرء أحيانًا يحتاجُ إلى قليلٍ من الوقاحة كي ينجو.
دخلتْ رنايا مع لِيليّا إلى غرفة الطعام، وقد بدت متعجّبةً من المقاعد الفارغة.
في مثل هذا الوقت عادةً، كان هيرديان يجلسُ أولًا، لكن اليوم كان مكانه خاليًا.
قدّم الطاهي شراب العسل وبعض الأطعمة الخفيفة المريحة للمعدة.
وقبل أن تشرع في الأكل، سألتْ رنايا الطاهي:
“ألن يتناول هير الطعام معنا اليوم؟”
“قال السيّد إنّ أُعِدَّ الطعام فقط للآنسة فيليت والآنسة لِيليّا.”
“أها، فهمتُ.”
يبدو أنّ أمرًا ما قد حصل.
فحين يشغله أمرٌ ما، كان هيرديان يميل إلى نسيان الوجبات.
وبما أنّهما عاشا معًا في الشمال من قبل، فقد أصبحتْ تعرف أنماطه إلى حدٍّ ما.
‘لعلّه ليس أمرًا خطيرًا.’
فكّرتْ رنايا بذلك، وتابعت إفطارها بهدوء مع لِيليّا.
وحين حلّ وقت الغداء وكانت قد انتهت من تجهيز أغراضها للعودة إلى المنزل، ظهر هيرديان أخيرًا.
كان وجهه متجمّد الملامح، وكأنّ شيئًا أزعجه صباحًا.
“هير، هل حصل شيء؟”
“……لا، لا شيء. هل كنتِ تنوين العودة الآن؟”
“نعم، لا يُستحب أن أترك المنزل خاليًا لمدّة طويلة.”
“ما رأيك أن تمكثي هنا لبضعة أيام أخرى؟ حين تدخل لِيليّا المدرسة، يمكنكِ تركها لي والراحة أكثر.”
كان كلامه يبدو كعادته مليئًا بالاهتمام، لكنّ صرامة وجهه جعلت نبرته أقرب إلى تحذيرٍ مبطّن.
‘هل أبالغ في التفكير؟’
هزّتْ رأسها بخفة.
“إنْ مكثتُ هنا أكثر، فما فائدة استئجار منزلٍ خاصّ؟ كما أنني أرى أنّ الاعتماد الدائم عليك ليس جيّدًا لتربية لِيليّا.”
كانت كلماتها تبدو منطقية، لكن الحقيقة أنّها أرادتْ فقط الفرار سريعًا إلى منزلها، إذ لم تستطع طرد مشهد قبلة البارحة من رأسها.
نظر إليها هيرديان طويلًا، وبدت عليه الرغبة في قول شيء، لكنّه اكتفى بإطباق شفتيه من دون أن ينطق.
كانت لِيليّا عادةً لا تكفّ عن الكلام حين تركب العربة، غير أنّها اليوم جلستْ بصمت بعد أن لاحظت مزاج هيرديان العكر.
نظرتْ رنايا إليه من حينٍ لآخر، فحتى إنْ كان غاضبًا، كان يحاول دائمًا إخفاء الأمر.
لكن هذه المرّة كان واضحًا أنّه يبعثُ جوًّا يقول: “لا تقتربوا منّي.”
تمامًا كما كان أوّل يومٍ التقته فيه في قرية رُكلير.
“رنايا.”
ناداها حين كانت العربة تقترب من المنزل.
“نعم؟”
“……في الفترة القادمة، لا تتجوّلي في الليل. وإنْ لم تكوني تنتظرين أحدًا، لا تفتحي الباب لأيّ طارق.”
كادت تضحك لوهلة، فبدا وكأنّه يُلقي عليها نصائح الجدّات.
“اغلقي الأبواب جيّدًا قبل النوم، لا تتركي النار مشتعلة…” تلك الأشياء نفسها.
“ما الذي يجعلك تقول هذا فجأة؟”
لكنها سرعان ما أدركت أنّه جادّ ولم تقل ذلكَ، فهزّت رأسها بالإيجاب.
لم تعلم ما الذي جرى، لكنها أحسّت بخوفٍ غامضٍ يشبه ما شعرتْ به أيّام الهجوم على الشمال.
“لِيليّا، احفظي ما قلتُ.”
“حسنًا، عمّي.”
ولم يغادر هيرديان إلا بعد أن تأكّد أنّ رنايا وابنتها قد دخلتا المنزل.
كان يبدو مستعجلًا جدًا، إذ غادر دون أن يشرب كوبًا من الماء حتى.
نظرتْ رنايا من النافذة إلى العربة التي تبتعد، وعلى وجهها قلقٌ واضح.
‘هل حدث شيء لعائلة روتشستر؟’
فما من شيءٍ آخر كان ليُثير انزعاج هيرديان بهذه الصورة.
خافت أن يكون الأمر بدايةَ صراعٍ جديد.
اقتربت لِيليّا فجأة وشدّت كمّ أمّها.
“أمي، كان عمّي يبدو حزينًا، أليس كذلك؟”
“ربّما حلم بكابوسٍ في الليلة الماضية.”
“كابوس؟ أهذا ما أزعجه؟”
“أعتقد ذلك. لا تقلقي، بعد يومٍ سيزول كلّ شيء.”
ابتسمتْ رنايا وربّتت على خدّي الصغيرة المنتفخين برقة، فارتسمت ابتسامة على وجه الطفلة.
“ما الذي تريدين تناوله على العشاء يا لِيليّا؟”
“همم… أريد اللحم، وأريد فطيرة التفاح، وأريد التوست أيضًا!”
“كلّ هذا؟”
“إذن… فطيرة التفاح!”
“اتّفقنا.”
كانت الطفلة تضحك بسعادةٍ وهي تتخيّل فطيرة التفاح، حين سُمع طَرقٌ خفيفٌ على الباب.
ولأنّهما لم تكونا تنتظران أحدًا، افترضت لِيليّا ببساطة أنّ هيرديان عاد، فركضت نحو الباب.
“انتظري، لِيليّا!”
“عمّي!”
لكنّ ابتسامتها انطفأت تدريجيًا، وارتجفت عيناها باضطراب.
“أه…”
تراجعت خطوتين إلى الوراء.
اقتربت رنايا بسرعة لترى من القادم، وما إنْ رأت الزائر حتى تصلّبت في مكانها.
كان يمكنها أن تسمع صوت تحطّم سكون حياتها الهادئة.
تقدّمت فورًا لتخبئ ابنتها خلف ظهرها، وقالت بنبرة حذرة:
“ما الذي أتى بك إلى هنا، يا لورد روتشستر؟”
كان كاين يتأمل المنزل بعينيه الغريبتين الباردتين.
منزل بسيط، لا شيء فيه يوحي بالفخامة.
“هل هيرديان غير موجود؟”
“سألتك، ما سبب مجيئك؟”
لماذا يبحث عنه في بيتها؟
تراجعت خطوة إلى الوراء، وسمعت صوت ابنتها المرتجف يقول خلفها: “أمّي…”
“جئتُ لآخذ شيئًا من هنا.”
كانت عيناه تتثبّت على لِيليّا المختبئة خلفها، بنظرةٍ تجعل من الواضح تمامًا أنّ “الشيء” الذي يريد أخذه… هو هي.
* * *
قبل ثلاثة أيامٍ من الآن.
كانت قرية لوكلير تمرّ بفترةٍ هادئة، إذ انتهى موسم الحصاد، وكان الأهالي مشغولين بالعناية بأشجار التفاح استعدادًا للإثمار القادم.
وبعد أن ينهوا أعمالهم في الصباح، يجتمعون في الظهيرة لتناول الطعام والحديث والضحك.
وكما في كلّ يوم، كان الناس يمرحون، حتى صاحت السيدة روسن وهي تشير إلى البعيد:
“أنظروا هناك… أليس ذاك شخصًا؟”
“أين؟ عيوني لا ترى جيدًا.”
“أكيد أنه إنسان؟ ربما حيوان جائع نزل من الجبل!”
ضاق العجائز أعينهم محاولين التمييز، وحين اقتربت الملامح اتّضح أنه رجل مغطّى بالدماء.
“آه!”
صرخت النساء وابتعد الرجال فزعًا.
كان السّيد كاين يسير بخطى ثابتة رغم الدماء التي تغطّيه، إذ لم يكن ذلك دمه، بل دم غيره.
‘تسد، حشرات مزعجة.’
فقد تعرّض لهجومٍ صغير في الغابة، من رجالٍ زرعهم هيرديان لمراقبته، فقطع أعناقهم جميعًا بلا رحمة.
كان يبحث منذ زمن عن أثرِ سيلين، يجوب الجنوب كلّه عبثًا، لأنّ أحدهم كان يزوّر المعلومات عمدًا.
وأخيرًا، لم يجد سوى اسمٍ واحد: “قرية لوكلير.”
فازداد يقينًا بأنّ سيلين هنا، بعد أن اضطرّ لقتال رجالٍ أرسلهم هيرديان بنفسه.
“هنا قرية لوكلير؟”
“…….”
“سألتُكم، هل هذه قرية لوكلير؟”
خرج من بين الجمع رجلٌ مسنٌّ أصلع، قال بخوف:
“نعم، أنا هوفارد، شيخ القرية، وهذا مساعدتي هيلدي. لكن من تكون أنت يا سيّدي، وما الذي جاء بك إلينا؟”
“سيلين غريوِيل.”
نطق كاين الاسم ببطء.
فارتجف بعض الأهالي فور سماعه.
ففي القرية لم ينسَ أحد ذلك الاسم: الأمّ التي هربت منذ عامين وتركت ابنها وراءها.
لكنهم لم يستحسنوا أن يأتي غريبٌ يسأل عنها.
“لماذا تبحث عنها؟”
“هل هي هنا؟”
“أجبني أولًا، ما الذي تريده منها؟”
“لا أحبّ أن أكرّر السؤال مرّتين.”
خفض هوفارد رأسه وقال:
“كانت تعيش هنا في الماضي، لكنها غادرت منذ زمن.”
تحرّكت أصابع كاين بعصبية، وانطفأ الأمل الذي تشبّث به طيلة الطريق.
أمر رجاله بتفتيش كلّ البيوت، لكن لم يجدوا أثرًا لها.
‘إنْ لم تكن هنا… فلماذا زرع ذاك الوغد رجاله في قريةٍ عديمة القيمة كهذه؟’
لم يعرف السبب، لكنّ الأمر أزعجه بشدّة.
رفع يده وأصدر أمرًا باردًا:
“أحرقوا القرية.”
ساد الذعر.
“ماذا قلت؟!”
“أيّها الرجل، هل جننت؟!”
“لماذا تحرق قريتنا؟!”
ابتسم ابتسامةً خبيثة وقال:
“عجزتم عن الإمساك بسيلين، فعليكم دفع الثمن.”
سواء مكثت سيلين هنا يومًا أو عامًا، لم يكن يهمّه.
كلّ مكانٍ وطأته قدماها سيُمحى من الوجود.
عندها فقط، ستشعر بالذنب… وتعود إليه.
وفي تلك اللحظة، ركض رجلٌ من بين الجمع وجثا عند قدميه.
“أنا… أنا أعرف تلك المرأة!”
“أيها الأحمق!”
“كيف تجرؤ أن تقول هذا لغريبٍ؟!”
كان هذا الرجل نفسه الذي حاول التقرّب من سيلين قبل عامين… وانتهى به الأمر بجرحٍ في رأسه بعدما ضربته رنايا بصندوق تفاح.
التعليقات لهذا الفصل " 84"