كانَت تشعُرُ بالضَّجر من نفسِها، إذْ خرجتْ في هذا الوقتِ المتأخّر من الليل لمجرّد سماعِ أخبارٍ عن من كانت في يومٍ ما صديقتها فحسب.
لو كانت تعرف أنّ الأمر سيتعلّق بمثلِ هذه المعلومات، لكانت غسلتْ قدميها ونامت بدلًا من ذلك.
قال الرجل المقابل وهو يبتسم بسخرية:
“لكن لماذا تسألين عن شيءٍ كهذا؟ لا تبدين كمن يهتمّ بما يفعله الناس فوق أسِرّتهم.”
فأجابته بهدوء:
“……ذلك لأنّ هذه الإمرأة مدينٌ لي. سمعتُ أيضًا أنّ هناك مَن يبحثُ عنه غيري، فشعرتُ بالفضول فحسب.”
“لن أكون الوحيد الذي يبحث عن تلك المرأة.”
امتلئَ رأسُ هذا الرجلِ بأفكارٍ مقززةٍ ظهرتَ على وجهه.
كانَ هيرديان يُفكّر في كبحِ ذلك اللسان الوقح بقبضته، لكنه بدلًا من ذلك مدّ يدَه وأدار وجه رنايا بعيدًا.
“……هاه.”
برزتِ العروق على ظهرِ يدِ هيرديان، مما دلّ على أنّ غضبَه بلغَ ذروته.
لاحظتْ رنايا ذلك، فأمسكتْ بيده برفق، في محاولةٍ لتهدئته.
قال ريكس وهو يضحك بخُبث:
“في هذه المنطقة بالذات، هناك رجالٌ لا يستطيعون نسيان تلك المرأة حتى بعد مرورِ سنواتٍ على مَسِّها. إنْ لم تصدّقي، فابحثي بنفسك.”
“……لا. لستُ مهتمّة إلى هذا الحدّ. آسفة على الإزعاج.”
حدّقَ فيها ريكس بنظرةٍ وقحة من رأسها حتى قدميها، لكنه سرعان ما ارتعد حين التقت عيناه بنظراتِ هيرديان الحادّة، ثم فرّ مسرعًا من المكان.
وحين تلاشتْ أصواتُ خُطاه، زفرتْ رنايا طويلًا.
عادتْ إلى ذهنها الشائعاتُ التي سمعتها في حفلةِ كونت روتشستر السابقة، عن سيلين، التي كانت تُتَّهم بأنّها كانت تلتقي رجالًا آخرين سرًّا أثناء زواجها من الصغير كونت.
في ذلك الحين، اعتقدتْ أنّها مجرّدُ أكاذيبٍ ناتجةٍ عن غيرةِ النساء اللاتي حسدنها على مكانتها الجديدة.
لكنّ الحقيقة كانت مختلفة. لم تكن تلك الشائعاتُ أكاذيب. كانت حقيقة.
‘……لم أكُن أعرف سيلين حقًّا.’
كانت تعلم أنّ سيلين تعاني من فقرٍ عاطفيٍّ حاد، بسبب تربيتها القاسية في بيتٍ يخلو من الحنان.
ولهذا، كانت تتوسّلُ المودّةَ من زوجٍ باردٍ، حتّى على حسابِ كرامتها.
ربّما كانت تحاولُ ملءَ ذلك الفراغ من أيِّ شخصٍ آخر، بعد أنْ يئست من الحصول عليه من زوجها.
لكنّ رنايا لم تكن تعلم إنْ كان هناك رجلٌ من بين كلِّ أولئك منحَها حبًّا صادقًا يومًا ما.
‘لكنّ لِيليا على الأقلّ لا بدّ أنّها تنتمي إلى دماءِ آل روتشستر.’
فملامحُها تشبهُ كاين أكثر من أيّ شخصٍ آخر، حتى وإنْ كانت هالةُ وجهها تشبهُ سيلين أكثر.
حين كانت صغيرة، لم يكن هذا الشبهُ واضحًا، لكنه أصبحَ يزدادُ مع مرورِ الوقت.
غاصت رنايا في أفكارها طويلًا، حتى بدتْ وكأنها على وشكِ البكاء، ثمّ قطّبت حاجبيها بضيقٍ مفاجئ.
تبعها هيرديان وهو يقول:
“رنايا.”
كانَ يعني: “لنعدْ إلى البيت.”
لكنّها بدلًا من العودة، قالت فجأة بخفّةٍ يائسة:
“هيرَ، ما رأيك أنْ نذهبَ لنشرب؟ هذه المرة حقًّا.”
* * *
لم تكن رنايا تُحبّ الخمر كثيرًا. ولو كان عليها أن تختار بين حُبّه كـُرههِ، لاختارت الثانية.
لكنها كانت تشربُ أحيانًا إنْ قدّم لها أحدٌ كأسًا.
ومنذ أنْ أخذتْ لِيليا لتربيتها، منعتْ نفسها قسرًا من الشرب، لأنها لم ترغب أن تراها ابنتُها سكرى.
‘……اليوم فقط سأشرب. وإلا سأموتُ غيظًا.’
دخلا معًا حانةً في منطقةٍ مزدحمة. كانت أكثر إشراقًا من تلك التي زاراها قبل قليل.
جلستْ رنايا وسطَ الضجيج ورفعتْ يدها عاليًا.
“كأسَي بيرة، من فضلكم. والمقبّلات اختاروها أنتم.”
وصلتْ الطلبات بسرعة.
وراحتْ رنايا تشرب البيرةَ الباردة كما لو كانت ماءً.
قال هيرديان بهدوء:
“رنايا، هذا ليس ماء.”
“أعرف. لكنّني اليوم مضطرّة للشرب كي أعيش.”
كانت البيرة تنسابُ بسلاسةٍ في حلقها، وربّما لأنّها لم تشرب منذ زمن، فقد بدا طعمها ألذّ من المعتاد.
أنهتْ كأسها بسرعة، وطلبتْ ثانيةً على الفور.
أما هيرديان، فاكتفى برشفةٍ صغيرة، إذ كان عليه أنْ يبقى يقظًا ليرعاها.
أنهتْ رنايا الكأس الثانية كذلك دفعةً واحدة، فأخذَ بعضُ الجالسين يصفّرون بإعجاب.
“يا إلهي، إنها قوية!”
“أظنّها تشرب أكثرَ منك!”
بدأتْ الأنظارُ تتركّز عليها، بينما لم تُبالِ هي بشيء.
أما هيرديان، فكانَ وجهه يتجهّم أكثرَ فأكثر، إذ كره أنْ يحدّقَ الآخرون فيها.
‘كان عليّ أنْ أسمح لها بالشرب في المنزل.’
قال بهدوء:
“……لم أكن أعلم أنّك تشربين بهذا القدر.”
“ولا أنا. ربّما لأنّني…… لم أشرب منذ زمن؟ أشعر أنّ قدرتي ازدادت…….”
ثمّ ارتطمَ رأسُها بالطاولة بصوتٍ مكتوم.
“رنايا؟”
نادى عليها، لكنّها لم تُجب.
بل راحتْ تشخّر بهدوءٍ على الطاولة.
“……هاه.”
تنهدَ وهو يضعُ يده على جبينه.
كانَ نسيمُ الليل المنعش يلامسُ وجهها حين فتحتْ عينيها ببطء.
كانت على ظهرِ هيرديان، في طريق العودة إلى المنزل.
رمشتْ بعينيها مرّاتٍ عدّة، ثمّ تمتمتْ بكلماتٍ غير مفهومة.
“استيقظتِ؟”
لكنّها تابعتْ تَمتمتها الغامضة دون أنْ يُميّز كلماتِها.
قال بهدوءٍ وهو يسير:
“لم نركب العربة لأنّك بحاجةٍ إلى السير قليلًا لتصفوَ من الخمر. أخبريني إنْ شعرتِ بالدوار.”
أومأتْ برأسها بضع مرّات، ثمّ تمتمتْ مجددًا.
وحين لم يفهمها، اقتربتْ من أذنه وهمستْ بخفّة:
“……أنتَ ، لماذا لا تسألني شيئًا؟”
توقّفَ في مكانه.
كانت هذه أول مرة تُخاطبه فيها بلفظة “أنت” دون أيّ تكلّف.
‘أهكذاَ تُصبحُ عندَ سَكرِها؟’
قال لها بنبرةٍ منخفضة:
“وماذا عليّ أنْ أسأل؟”
“عن سببِ مجيئنا إلى الحانة اليوم، مثلًا.”
“ألم تقولي لي ألّا أسأل؟”
“وهل تصدّقُ ذلك حقًّا؟”
“ولو سألتُ، هل كنتِ ستُجيبين؟”
صمتتْ للحظة، وكأنها لا تملكُ ردًّا.
كانت سُكرى، لكنّ كلماتها بدتْ صادقةً على نحوٍ غريب.
ثمّ تمتمتْ ثانيةً:
“لماذا أنت طيّبٌ هكذا؟”
“أنتِ الوحيدة التي تقولُ عنّي ذلك.”
“ليس صحيحًا. إنْ لم تكن طيّبًا، فمَن يكون؟ أنا؟ أنا لستُ طيّبة أبدًا، على عكسكَ.”
ابتسمَ هيرديان بخفةٍ وهو يقول:
“حسنًا، فهمتُ، الآن نامي.”
لكنّها بقيتْ تتمتمُ بكلماتٍ غير مفهومة حتى وصلا إلى المنزل.
وعندما أنزلها أمام الباب، قال بصرامةٍ متعبة:
“ادخلي ونامي. ولا تشتكي غدًا من الصداع.”
وفي اللحظة التي همَّ فيها بالانصراف، سمعَ صوتها:
“هيرديان.”
استدار، فإذا بها تمسكُ بقبضةِ قميصه عند الصدر، وتشدّه نحوها.
قبلَ أنْ يستوعبَ ما يحدث، التصقتْ شفتاها بشفتيه في قبلةٍ قصيرةٍ وسريعة، أقرب إلى اصطدامٍ مرتجل.
ثمّ احمرّ وجهها، وركضتْ إلى داخل الغرفة بسرعةٍ خاطفة.
وقفَ مكانه مذهولًا، يضعُ يده على شفتيه، بينما وجهُه يشتعلُ خجلًا.
“……ما هذا بحقّ الجحيم.”
كانت العاصفةُ قد مرّت في لحظةٍ واحدة، لكنها تركتْ أثرَها واضحًا.
التعليقات لهذا الفصل " 83"