.:
الفصل 82
كان القمر قد ارتفع عاليًا في السماء، والليل يكتسيه سكونٌ عميقٌ.
وفي الممرّ الهادئ، كانت رنايا تمشي بخُطًى خفيفة دون أن تُحدث صوتًا.
لكنّ ظلًّا أسود اقترب منها من الخلف بهدوء.
منشغلةٌ في ألّا تُصدر أيَّ صوت، لم تلحظ ما كان يقترب منها، وفجأةً شعرت بلمسةٍ على كتفها فارتجف جسدها من الذعر.
“……!”
لم تستطع حتى الصراخ من شدّة المفاجأة، فتجمّدت رنايا في مكانها مثل الحجر.
ظهر هيرديان من ظلام الممرّ، وعلى شفتيه ارتسمت ابتسامة باردة.
“يبدو أنّ أدوارنا انقلبت عمّا كانت عليه البارحة.”
“…….”
“إلى أين كنتِ ذاهبة؟”
في مواجهة هذا الموقف المعكوس عن الليلة الماضية، التزمت رنايا الصمت.
“قرّرتِ البقاء يومًا آخر لهذا السبب، أليس كذلك؟ لأنّ لديكِ أمرًا ما لتفعليه سرًّا عن ليليا.”
“……ألا يُمكنك التظاهر بأنّك لم ترَ شيئًا؟”
“إنْ أخبرتِني إلى أين أنتِ ذاهبة.”
في حين كان هيرديان قد خرج الليلة الماضية دون وجهة، لكن رنايا كانت تعرف وجهتها تمامًا.
تذكّرت الرسالة الموضوعة في جيبها وتردّدت قليلًا في الجواب.
أن تقول إنّها ذاهبة إلى حانة؟ بدا الأمر محرجًا قليلًا.
وأن تقول إنّها تتعقّب شخصًا؟ بدا ذلك أغرب.
وبما أنّ الأمر يتعلّق بـ سيلين، لم تستطع أن تشرح له التفاصيل.
حين وجدت نفسها عالقة بلا إجابة مناسبة، اقترحت خيارًا آخر.
“إذًا، هل يمكنك أن تتبعني دون أن تسأل شيئًا؟”
ولحسن الحظ، وافق هيرديان بسهولة على اقتراحها بدل أن يطالب بتفسير.
وهكذا خرج الاثنان معًا في جولة ليلية ثانية على التوالي.
بعد مسافةٍ ليست قصيرة، ظهرت لافتة كُتب عليها اسم حانة “بيل”، مرسومٌ عليها كوب بيرة.
تأكّدت رنايا أنّها وصلت إلى المكان الصحيح.
أما هيرديان الذي كان يتبعها بصمت، فقد تجعّد وجهه الجميل ما إن أدرك أنّ وجهتها كانت حانة.
“كنتِ تنوين الذهاب إلى حانة وحدكِ؟”
“نعم..”
“ألا تعرفين كم هذا خطر؟ حتى لو كنتِ تعيشين في الريف، لستِ بتلك السذاجة يا رنايا.”
كانت تعرف أنّ ذهاب امرأة بمفردها إلى حانةٍ في هذا العصر تصرّفٌ متهوّر.
ومع ذلك أرادت أن تعرف بنفسها من الذي كان يبحث عن سيلين.
لقد أدركت أنّها لم تكن تعرف سيلين كما ظنّت، وأرادت أن تفهمها أخيرًا.
بهذا فقط يمكنها في المرّة القادمة أن تتحدّث معها بدل أن تغضب بلا وعي.
“رنايا.”
حين لم تُجب على سؤاله، غامت نظرات هيرديان وازداد صوته برودًا.
“هل كنتِ تودّين لقاء رجلٍ آخر غيري؟”
“…….”
“أجيبي. أهذا ما كنتِ تنوينه حقًّا؟”
“اتّفقنا أنّك ستتبعني دون أن تسأل شيئًا.”
امتلأ وجهه بالامتعاض، وبات صوتُه كطنينٍ مزعجٍ بجانب أذنها.
تنهّدت رنايا وهي تعقد حاجبيها في ضجر.
“دعني أوضّح شيئًا، يا هير، لستُ هنا لأجل أيٍّ من الأسباب الغريبة التي تتخيّلها.
لو كان الأمر كذلك، لما أحضرتكَ معي أصلًا.”
“ربما أحضرتِني فقط لأنّني كشفتُ أمركِ.”
في عينيه الزرقاوين لمع الشكّ.
أدركت أنّه لن يُصدّقها مهما قالت، فهزّت رأسها يأسًا وتنفّست بعمق.
“صدق أو لا تصدّق، لا يهمّني.”
ثم دخلت الحانة بخطًى واثقة.
رنّ صوت الجرس عند الباب، وجاء النادل ليرحّب بهما.
“اثنان؟ تفضّلا من هذا الطريق.”
جلسا على مقعدين قديمين صريرُهما واضح، فالحانة بأكملها كانت تبدو قديمة مُتهالكة من الداخل.
طلب هيرديان طبق مقبّلاتٍ بسيطًا وكأسين من الجعة، ثمّ تمتم متذمّرًا كعادته.
وفي تلك اللحظة، دخل رجل إلى الحانة.
رحّب به بعض الزبائن قائلين:
“هاي، ريكس! تعال نشرب سويًّا، مرّ وقت طويل!”
‘ريكس؟ هذا هو؟’
اتّسعت عينا رنايا وهي تُحدّق في الرجل ذي الشعر الأشقر الفاتح.
لم يبدُ عليه أبدًا أنّ له علاقة بـ سيلين.
“رنايا، منذ قليل وأنتِـ…”
“شش. اصمتْ.”
وضعت يدها على فمه، ووجّهت سمعها لما يدور حولها.
كان الرجال يتبادلون نكاتٍ وضيعة ويضحكون بخفّةٍ سخيفة، وكلّما استمعت إليهم أكثر شعرت بأنّ عقلها يتناقص.
جلس ريكس عند البار وطلب شرابه، شربه بصمتٍ دون أن يُلقي بالًا لأحد.
‘ما الذي يجمع هذا الرجل بـ سيلين؟ ولماذا يبحث عنها الآن؟’
من نظرةٍ واحدة، أدركت أنّه ليس من الطيّبين.
فـ سيلين رغم ما أصاب أسرتها من سقوطٍ، لم تزل تلتزم بأدب النبلاء، ولم ترتبط يومًا بأشخاصٍ منحطّين كهذا.
وبينما كانت رنايا تُحدّق في ريكس، مدَّ هيرديان كفَّه ليحجب رؤيتها.
“……ماذا تفعل؟”
“السؤال هذا من حقي أنا.”
خفض صوته بنبرةٍ حادّة.
“لن أسألك عن سبب مجيئك، لكنّك تُحدّقين في رجلٍ آخر أمامي. ألا تجدين هذا وقاحة؟”
“…….”
“قد نكون أصدقاء، لكن لا تنسي أنّني اعترفتُ لكِ. تجاهلُك لذلك ليس بالأمر اللطيف.”
لم تكن تعلم من أين أتى بكلّ هذا الافتراض السخيف.
ورغم أنّها كانت تودّ الردّ عليه، لم تجد ما تقول.
نظر إليها طويلًا ثم قال:
“هل بدأتِ تُدركين تصرّفكِ؟”
“……لم أنظر إليه بتلك الطريقة أصلًا.”
لكن قبل أن تُكمل، ظهرت امرأة ذات شعرٍ داكنٍ جدًّا، اقتربت من ريكس وهمست له بكلماتٍ لم يسمعاها.
بعد قليل، احتسيا كأسهما وغادرا معًا الحانة.
“لِنَلحقْ بهما.”
قالت رنايا بخفوت، وبدأت تتبع ريكس من مسافةٍ آمنة حتى انعطف عند زاويةٍ ضيّقة.
وفجأة، مدّ هيرديان يده ليُمسك بها ويضع يده على فمها.
“شش!”
فقط بعد لحظةٍ سمعت صوتًا غريبًا يأتي من وراء الجدار.
تجمّدت رنايا في مكانها، وقد أدركت أخيرًا سبب تصرّف هيرديان.
تذكّرت حينها أنّ رواية “سيلين غريوِيل” التي كانت مبنيةً على هذه القصة كانت تحتوي على مشاهد جريئة كهذه.
ازدادت الأصوات وقاحة، وارتجف وجه رنايا من الإحراج.
لم تفهم لِمَ عليها أن تسمع هذه الفضيحة وهي بجانب هيرديان بالذات.
لكن فجأة دوّى صوت ارتطامٍ قويٍّ، إذ ضرب هيرديان الجدار بقبضته.
“هاه؟ ما هذا الصوت؟”
سمعت المرأة هناك وتحدثتَ بإرتباك وغادرت مسرعةً وأحمرُ الشفاهِ لطخ شفتَيها.
“أيّ جرذٍ تافه يجرؤ على مقاطعة متعتي؟”
‘ليس جرذًا، بل إنسانٌ من لحمٍ ودم.’
خرجت رنايا من الظلّ، وقد قرّرت المواجهة.
“اسمك ريكس إد، أليس كذلك؟”
“ومَن أنتِ لتسألي؟ أفسدتِ عليّ هوايتي!”
هواية؟ هل يُسمّى هذا النوع من الأفعال هواية؟
تجاهلت كلامه وسألته ببرود:
“سمعتُ أنّك تبحث عن شخصٍ ما.”
“عن مَن؟ آه… لا تقولي إنّك تعنين سيلـ…”
“نعم. هي بالذات.”
قاطعت حديثه عمداً.
ضحك ريكس ضحكةً مقزّزة جعلت رنايا تعبس اشمئزازًا.
لقد فهمت من تلك الضحكة أنّه يعرف عمّن تتحدّث، وأنّ الأمر سيكون قصيرًا.
“هل تعرفها جيّدًا؟”
“بل أكثر من جيّد. أعرفها… بعمق.”
“……وما علاقتك بها؟”
“لنقل إنّنا… تبادلنا دفء الأجساد. أهذا شرحٌ مهذّب بما فيه الكفاية لكِ؟”
أغمضت رنايا عينيها وشهقت تنهيدةً ثقيلة.
لقد كانت تتوقّع ذلك في أعماقها.
ربّما كانت سيلين تعرف هذا الرجل لأسبابٍ لا تستطيع حتى أن تتفوّه بها الآن.
وهكذا، بدأت الخيوط تتّضح أمام رنايا، ولو كانت أكثر قذارة ممّا تخيّلت.
التعليقات لهذا الفصل " 82"