.:
الفصل 81
سادَ صمتٌ طويل.
وبما أنّه لم يكن بينهما أيُّ حديث، ظنّت رنايا لِلحظةٍ أنّها هي وحدَها من يُمسكُ باللّجام وتقودُ الحصان.
وفي كلِّ مرّةٍ كانت تفقِدُ توازنَها قليلًا ويميلُ جسدُها إلى الخلف، كانت تشعُرُ آنذاك فقط بوجودِ شخصٍ خلفَها.
‘……يَجِبُ أنْ أقولَ شيئًا.’
لقد تبعتهُ في النهاية، لكنّها لم تَكُنْ تعرفُ كيف تبدأُ الحديث.
لم يكن من اللّائقِ أنْ ترفُضَ اعترافَهُ فجأةً، لكنْ إنْ حاولتْ الالتفافَ حولَ الموضوعِ بكلماتٍ مبهمة، فسيبدو ذلكَ أيضًا غيرَ مهذّب.
لم تتلقَّ رنايا من قبلُ اعترافًا من أحدٍ، ولا هي رفضَتْ أحدًا، لذا لم تستطعْ أنْ تُمسك بخيطِ الحديث.
ومع ذلك، كان عليها أنْ تتكلّم، وبينما كانت بالكادِ تفتحُ فمَها لتقولَ شيئًا، سقطتْ قطرةُ ماءٍ على رأسِها.
“……ماء؟”
في البداية كانتْ مجرّدَ قطرة، لكنْ بعدَ ثوانٍ بدأتِ القطراتُ تتزايدُ حتى انهمرَ المطرُ بغزارة.
“يا إلهي.”
تمتمَ هيرديان وهو ينقرُ بلسانه بضيق.
أحيانًا كانتْ الأمطارُ تهطلُ فجرًا في أوقاتٍ غيرِ متوقّعة، ويبدو أنّ اليومَ كان من تلكَ الأيام.
سرعان ما وضعَ معطفَه على رأسِها كي لا يبتلَّ شعرُها، ثم أسرعَ بقيادةِ الحصانِ نحوَ أقربِ حديقةٍ قريبة.
“سيتوقّفُ المطرُ قريبًا. دعينا ننتظرْ هنا قليلًا.”
في الحديقةِ كان هناكَ جناحٌ خشبيّ صغير، يصلحُ للاحتماءِ من المطر.
ربطَ الحصانَ في العمودِ، ووقفا جنبًا إلى جنبٍ تحتَ السقف.
مدّتْ رنايا يدَها خارجَ الجناح.
في البداية كان المطرُ خفيفًا، ثم بدأَ يزدادُ حتى صارَ يُحدثُ صوتًا قويًّا كأنّه يضربُ الأرضَ بعنف.
“هل يكونُ الطقسُ في العاصمةِ هكذا دائمًا؟ لم أتوقّعْ أنْ تمطرَ اليوم……”
“في هذا الوقتِ من العام، الأمطارُ المفاجئةُ كثيرة.”
“أفهم.”
بعدَ تلكَ الجملةِ القصيرة، عادَ الصمتُ مرّةً أخرى.
ولحسنِ الحظّ أنّ صوتَ المطرِ المرتفعِ جعلَ الموقفَ أقلَّ إحراجًا.
رفعتْ رنايا رأسَها نحوَ السماءِ المعتمة، ثمّ انكمشَتْ قليلًا من البرد.
“قلتُ لكِ ألّا تتبعيني.”
كانتْ شفتاها الورديّتان تميلان إلى الزرقة.
قطّبَ حاجبَيه وهو يتلفّتُ حولَه.
لو أمكنهُ إشعالُ نارٍ لكانَ الأمرُ أفضل، لكنْ لم يكُنْ هناكَ حطبٌ ولا مكانٌ مناسب.
“……أنا بخير. أستطيعُ الاحتمال.”
لكنّ صوتَها المرتجفَ كان يُكذّبُها.
ولو تُركتْ على هذه الحال، لأصابها البردُ حتمًا.
بعدَ لحظةِ تردّد، اختارَ هيرديان الحلَّ الأخير، فأمسكَ بمعصمِها الباردِ وجذبَها إلى صدرِه.
شهقتْ رنايا من المفاجأة.
“حتى إنْ كنتِ لا تُحبّين ذلك، اصبري قليلًا. هذا أفضلُ من أنْ تتجمّدي.”
لم يكن في الأمرِ أيُّ نيّةٍ أخرى، سوى أنْ يُدفئَها.
ولأنّها فهمتْ ذلك، لم تقلْ شيئًا واكتفتْ بهزّ رأسِها.
لكنّها تساءلتْ في سرِّها: كيف يمكنُ أنْ يكونَ جسدُهُ دافئًا إلى هذا الحدّ رغمَ أنّهما تبلّلا معًا؟
‘يبدو أنّه من أولئك الذين يملكون قلبًا دافئًا كما هو جسدُهم.’
“…….”
تلاشى ارتجافُها شيئًا فشيئًا، وبينما كانتْ تستمعُ إلى دقّاتِ قلبِه السريعة، همستْ بالكلماتِ التي كان عليها قولُها في مهرجانِ رأسِ السنة.
“أنا آسفة.”
لم تكنْ تتخيّلُ أنّها ستتلقّى يومًا اعترافًا من أحد، ثم ترفضُه.
وكان شعورُها أثقلَ مما ظنّتْ.
“……أنا أعتبرُ هير صديقًا عزيزًا عليّ.”
قالتْها بصدقٍ وهدوء، من غيرِ جرحٍ ولا مبالغة.
لو كانَ أحدٌ آخرُ سمعَها، لظنّ أنّه بلا جاذبيّةٍ كرجل، لكنّ هيرديان لم يشعرْ بالأذى.
لقد فهمَ ما تقصده.
‘يبدو أنّه من المبكرِ أنْ نكونَ أكثرَ من أصدقاء.’
“إنْ كانتْ رنايا تُريدُ ذلك…… فهل يمكنُ أنْ نبقى أصدقاء؟”
هزّتْ رأسَها بالإيجاب داخلَ حضنه.
وهذا بالضبطِ ما كانتْ ترغبُ به.
“……هذا جيد. أصدقاء.”
أنْ يكونا صديقين أفضلُ من ألّا يكونَ بينهما شيء.
ولم يقلْ شيئًا حين تذكّرَ قبلةَ تلكَ الليلة، بل قالَ بهدوء:
“أنا آسف أيضًا، لتصرّفي في ذلك اليوم.”
تذكّرتْ ما حدث، فاحمرّ وجهُها كالتفّاحة، فضحكَ بخفوتٍ ومدّ يدَه إليها.
“فلنجلس قليلًا.”
جلسا على المقعدِ وتبادلا الأحاديثَ عن الأسبوعِ الماضي، معظمُها عن الوقتِ الذي قضاهُ هيرديان مع ليليا.
ضحكتْ رنايا بحرارةٍ أحيانًا، ونظرتْ إليه بشفقةٍ أحيانًا أخرى.
ثمّ لاحظا أنّ السماء بدأتْ تُضيء، والمطرُ قد توقّفَ منذُ مدّة.
“رنايا.”
لكنّها كانتْ قد غَفَتْ على كتفِه.
نظرَ إليها مبتسمًا، ثمّ أغمضَ عينَيه أيضًا.
‘……وهل يُمكن أنْ يكونَ هذا ما يُسمّى صداقة؟’
مع ذلك، لم يشعرْ بالحزن.
بل ابتسمَ راضيًا.
كانَ يعلمُ أنّها لم ترفُضْهُ لأنّها تكرهه.
وربّما لهذا بدا أكثرَ الناسِ سعادةً برفضِه.
كان اليومُ هو يومَ العودة إلى المنزل.
كانتْ ليليا تُرتّبُ أمتعتها ببطء، تحاولُ أنْ تُؤخّرَ لحظةَ الرحيلِ قدرَ الإمكان.
‘……لا أريدُ المغادرة.’
كانَتْ تتمنّى لو يستطيعونَ أنْ يعيشوا هكذا إلى الأبد، ثلاثتُهم معًا.
وفي تلكَ اللحظة، نقرَ طائرٌ أبيضُ نافذتَهم بمنقارِه.
فتحتْ رنايا النافذةَ، فدخلَ الطائرُ وجلسَ على الحافةِ وهو يُصلحُ ريشَه.
“……طائر؟”
كانتْ هناكَ رسالةٌ مربوطةٌ في ساقِه.
ما إنْ نزعتْها حتى طارَ بعيدًا.
فتحتْ الرسالة، وتجمّدَتْ حين قرأتْ السطرَ الأول:
“مرحبًا، يا من أنقذتِ حياتي. أنا إيدريك ويبر.”
تحدّثَ عن المكانِ الذي كانتْ تُقيمُ فيه، وعن أنّه وجدَ آثارَ الشخصِ الذي طلبتْ منهُ البحثَ عنه.
“السيدةُ سيلين غريوِل تعيشُ تحتَ اسمٍ مستعارٍ قربَ ميناءِ كالْديس، ويبدو أنّها كانتْ تُفكّرُ في السفر، لكنّها لم تُغادرْ بعد.”
كانَ ميناءُ كالْديس أكبرَ ميناءٍ في الإمبراطوريّة، ومنهُ يمكنُ السفرُ إلى أيِّ بلدٍ في العالمِ مقابلَ المال.
‘تُنوي مغادرةَ البلاد إذن.’
تابعتْ القراءةَ، فوجدتْ سطرًا آخرَ جعلَ وجهَها يجمُد:
“لكنْ كان هناكَ أمرٌ غريب. لم أكنْ الوحيدَ الذي يبحثُ عن السيدةِ سيلين. هناكَ أربعةُ أشخاصٍ آخرون على الأقل.”
من غيرِ كاين، مَن قد يبحثُ عنها؟
أسرتُها؟ لا، فقد ماتَ والدَاها بعدَ انهيارِ عائلةِ غريويل بزمنٍ طويل، ولم يكنْ لها إخوة.
“عرفتُ هويةَ أحدِهم: رجلٌ يُدعى ريكس إيد، يتردّدُ كلَّ يومٍ على حانةٍ تُدعى (بيل) في أحدِ أزقّةِ العاصمة.”
‘ريكس إيد؟’
اسمٌ غريب، لم تسمعْ به من قبل.
انكمشَ وجهُ رنايا بقلقٍ وهي تطوي الرسالةَ وتُخفيها في جيبِها.
اقتربتْ منها ليليا وقالتْ بخفوتٍ:
“ماما، هل أنتِ حزينة؟”
“……هاه؟ لا، فقط أشعُرُ بالتعب.”
ثمّ جلستْ على ركبتيها لتقابلَ عينيَ الطفلة.
“هل لم تستطعي النومَ لأنّكِ لم تكوني بجانبي؟”
“إنْ قلتُ ذلك، فهل ستنامُ ليليا اليومَ بجانبِ أمّها؟”
“طبعًا! آه، لكنْ ربما لو نمنا نحنُ الثلاثة معًا سيكونُ أفضل……”
تنهّدتْ رنايا بخفةٍ.
كانتْ ليليا لا تزالُ تتمنّى أنْ يعيشوا ثلاثتُهم معًا، لكنها كانتْ تعلمُ أنّ ذلكَ لن يحدثَ بعدَ الآن.
وفجأةً خطَرَ لها أمرٌ مهمّ.
‘يجبُ أنْ أتحقّقَ من مضمونِ الرسالةِ بنفسي.’
لكنّ ذلكَ يعني أنْ تذهبَ إلى الحانةِ ليلًا، ولا يمكنُها أخذُ ليليا معها، ولا تركُها وحيدةً في البيت.
فكّرتْ طويلًا، ثمّ قرّرتْ الحلَّ الوحيد الممكن: أنْ تبقى ليلةً أخرى في منزلِ هيرديان، وتتركَ ليليا هناك.
“……ليليا، ما رأيكِ أنْ ننامَ هنا ليلةً أخرى؟”
كانتْ تعرفُ أنّها ستفرح، لكنّها لم تتوقّعْ أنْ يلمعَ وجهُها بذلكَ البريق.
ابتسمتْ رنايا بهدوءٍ وهي تُخفي قلقَها.
لقد حانَ وقتُ التحرّك.
التعليقات لهذا الفصل " 81"