[ليس الأمر كذلك، لكنكِ قلتِ سابقًا إنكِ فلاحةٌ.
وإنْ كنتِ كذلك، فلا بدّ أنّ هذا الوقت من السنة مزدحمٌ بالأعمال، لذا استغربتُ كيف تُخصّصين كل هذا الوقت هنا.]
“انظر إلى الطقس، يا سيّد هير.”
حوّلا نظرهما في اللحظة ذاتها نحو النافذة.
شششششش. ازدادت شدة المطر فجأةً، وصار صوتهُ أكثر ثِقَلًا.
“ثمّ إنّ إعصارًا ضرب المنطقة منذ أسبوع، وتسبّب بكارثة في المزرعة. لهذا لا يمكنني فعل أيّ شيء حاليًّا، لذا أنا أرتاح فقط.”
[هل كانت الأضرارُ جسيمة؟]
“…نعم، إلى حدٍّ ما. لكن لا بأس. سنتمكّن من الصمود حتى العام القادم على الأقل.”
[ولِمَ لا تطلبين المساعدة من الراعي عليكمَ؟]
“لأنّه لن يساعدنا مهما فعلنا. ليس كلّ حكّام هذا العالم طيّبون إلى درجة أن يهتمّوا بأمر أمثالنا من عامّة الناس.”
قرية لوكلير كانت دومًا قرية منسيّة لم تطأها يدُ الحاكم قطّ.
ورغم ذلك، لم يتردّد ذلك الراعي يومًا عن جمع الضرائب بجشع.
لم تكن رنايا تُطيق هذا التصرّف، لكنّ مجرّد استيائها لا يغيّر من الواقع شيئًا.
وفي تلك اللحظة، فجأةً، طقطقة طقطقة.
انفتحَتْ النافذة الصغيرة بسبب الرياح العاتية، فاندفع المطر داخلًا.
ولسوء الحظ، كان هيرديان يجلسُ تمامًا تحتها، فتبلّلتْ بعضُ قطرات الماء شعره.
أسرعتْ رنايا إلى إغلاق النافذة.
“هل أنتَ بخير؟”
مسح هيرديان شعره المبتلّ، وهو يُكتم غضبًا تسرّب إلى أعماقه.
العيش في مخزنٍ مليء بالغبار كان كافيًا لخنقه، وها هو الآن يتعرّض للمطر حتى داخل ذلك المكان.
ضحكَ بسخرية على حاله البائس.
رأت رنايا نظراته، فناولته منشفة نظيفة.
أومأ برأسه امتنانًا، ثمّ أخذها وبدأ بتنشيف شعرهِ بلُطف.
رغم الموقف، بدتْ تصرّفاته رصينة وأنيقة.
‘إنّه مُترف جدًّا… تُرى، هل كان ثريًّا؟’
بالنسبة للعوام، فالمطر المتسرّب من السقف أمرٌ عادي،
لكن هذا الرجل بدا وكأنّه نشأ في بيتٍ متين بأسقفٍ ونوافذ محكمة.
شعرتْ بنظراته، فالتفت نحوها سريعًا بنظرة حادة وكأنّه يقول: “لِمَ تنظرين هكذا؟”
لكن بما أنّه لم يشهر سيفه كما فعل في أوّل لقاء، فلا يبدو أنّه رجلٌ متقلّب الطباع.
“تحمّل قليلًا، لن يستمرّ المطر طويلًا. حان وقت توقّفه تقريبًا.”
لم يُجب، واكتفى بزفيرٍ قصير.
وبينما كانا يتبادلان حديثًا غير مهمّ، انتبهت رنايا للوقت، فنهضت فجأة.
“آه، يجب أن أذهب للحظةٍ.”
[في مثل هذا الوقت، تخرجين دومًا. إنْ لم تكوني ذاهبة للعمل، فأين تذهبين؟]
“إلى بيت صديقتي. طفلتها تحبّني كثيرًا، فأُلاعبها من وقتٍ لآخر.”
من الصباح حتى الظهر، كانت تقضي وقتها مع السيد هير.
من الظهر حتى المساء، تذهب للعب مع ليليا في بيت سيلين.
ثم تعود مجددًا في المساء إلى المخزن.
أيامها كانت مزدحمة هكذا مؤخرًا.
“لكنها أول مرة تسألني عن هذا، سيّد هير. لماذا؟ هل تحزن لأنّي أرحل؟”
وضع هيرديان القلم والورقة جانبًا، وكأنّ السؤال لا يستحق الردّ.
في عيني رنايا، بدا كطفل مدلّل غاضب.
“لا فائدة من المزاح معك إذًا… أراكَ لاحقًا!”
قالتها وخرجت دون أن تلتفت.
وحين تلاشت خطواتها، هزّ هيرديان رأسه ببطء.
‘هل تلك المرأة لا تخاف منّي أصلًا؟’
في البداية، بدتْ وكأنها تهابُه، لكنها الآن تتحدث من تلقاء نفسها وتمازحه دون تردّد.
وحين يُحدّق بها، لا ترتعب، بل تنظَر وكأنها تقول: “ها قد بدأ مجددًا.”
‘أم أنّها شجاعة بطبعها؟’
وبعد أسبوع من مراقبتها، أدرك شيئًا واضحًا:
رنايا تتحدث كثيرًا.
ورغم أنه بالكاد يردّ بإيماءة أو بكلمة، تبدو سعيدةً.
عادةً، من لا يتلقّى تفاعلًا يملّ بسرعة.
فكيف انتهى به الحال معها؟
حقًّا… الحياة لا يمكن توقّعها.
في ذلك الوقت، بعد لهوٍ طويل، غفَتْ ليليا.
فتناولت سيلين ورنايا عشاءهما بهدوءٍ.
رغم أنّ رنايا ما زالت تشعر بالحرج من سيلين، إلّا أنّها كانت تحبّ قضاء تلك الأمسية معها.
فطعام سيلين كان شهيًّا، وليليا كانت محبّبة إلى قلبها.
لكن خلال تلك الوجبة، لاحظتْ أنّ نظرات سيلين تُلاحقها على غير العادة.
“هل هناك شيءٌ تريدين قوله؟”
سألتها رنايا، وهي تميل برأسها باستغراب.
تردّدت سيلين، ثمّ وضعت أدوات الطعام جانبًا وسألتها بوجهٍ جاد:
“أتحبين ليليا، رنايا؟”
“…نعم، بالطبعِ.”
“وليليا تحبّكِ أيضًا، أليس كذلكَ؟”
“لو قالت إنها لا تُحبّني، سأشعر بالحزن فعلًا…”
ابتسمت سيلين برقة، كعادتها، ثم قالت:
“رنايا… ستكونين أمًّا رائعة.”
“…هاه؟ فجأةً؟”
رمشتْ رنايا بعينين متفاجئتين.
سمعتْ مرارًا أنها ستكون مُزارعة ماهرة،
لكن هذه أول مرة يُقال لها إنها تصلح لتكون “أمًّا”.
‘أمّ؟ أنا؟’
“فأنتِ ستصبحين أمًّا يومًا ما. لا تقولي إنّكِ لا تفكرين بالزواج؟”
“لستُ واثقة… لم أفكّر في الأمر بعد. أشعر أنّي لستُ مستعدّةً بعد…”
“ما الذي تفتقرين إليه، بالضبطِ؟!”
فجأة، رفعت سيلين صوتها، وضربت الطاولة بكلتا يديها.
ارتفع صوت الضربة، وساد الصمت فجأة.
“سيلين…؟”
نظرت إليها رنايا بتوتّر، ثمّ إلى باب الغرفة حيث تنام ليليا.
سيلين دائمًا ما كانت حريصةً على الهدوء حين تنام الطفلة.
كما أنّها لم تكن من النوع الذي يغضَب بسهولةٍ…
فلماذا الغضب الآن؟
“امرأة تبرّ بجدّتها، ومزارعة شابّة موهوبة. وفوق ذلك، تملكين قلبًا طيّبًا مليئًا بالرحمة، وجمالًا أخّاذًا! أيّ نقصٍ تتحدثين عنه؟!”
“…”
شعرت رنايا كأنّ عقلها تعطّل للحظةٍ.
كأنّ لغةً غريبة هبطت على رأسها فجأة.
رغم أنّ سيلين كانت تتحدث بلغة الإمبراطوريةِ بطلاقة.
خجلتْ رنايا خجلًا شديدًا، ووجنتاها احمرّتا.
فمن الصعب سماع كلماتٍ لطيفة من شخصٍ جميل.
“هيا، اهدئي قليلًا. قد توقظين ليليا…”
“…آسفة. لم أقصد رفع صوتَي فجأة.”
وحين ذُكرت ليليا، استعادت سيلين هدوءها وعادت لطبيعتها.
أما رنايا، فشعرت بعطشٍ فجائي، وارتشفت الماء بنهم.
في العادة، كانت أحاديثهما تدور حول:
ما حدث في المزرعة، أو تطوّر ليليا، أو مجريات الحياة اليومية.
لم يسبق لهما الحديث عن الزواج أبدًا.
فقد كانت رنايا غير مهتمة بالموضوع، وسيلين تتجنّب طرحه.
والآن، بدا فتح الموضوع فجأةً أمرًا غريبًا.
“هل قال لكِ شيء أحد السيّدات؟ مؤخرًا، الكلّ صار مهتمًا بزواجي. هل طلبت منكِ إحداهنّ إقناعي؟”
“أبدًا. فقط كنتُ أؤمن منذ زمن أنكِ ستكونين أمًّا صالحة.”
“الأمّ الصالحة هنا… هي أنتِ، سيلين.”
في لحظة خاطفة، مرّ حزن على وجه سيلين، لكنها أخفتْه بابتسامة لطيفة.
“شكرًا. لكنّي قلتها بصدقٍ لكِ، صدّقيني.”
“…”
“لنُكمل العشاء قبل أن يبرد، حسنًا؟”
أومأتْ رنايا، وأعادت قضمة فطيرة التفاح إلى فمها.
لكن الطعم الذي أسعدها منذ قليل…
لم تعد تشعر به أبدًا.
هدأ المطر الغزير أخيرًا.
رغم أنّ القمر لا يزال مغطّى بالغيوم، إلّا أنّ توقّف المطر للحظة كان مكسبًا.
بينما كانت تسير في طريقها نحو المخزن، فكّرتْ رنايا بـ هيرديان.
‘ربّما نذهب في نزهة صغيرة سويًّا؟’
البقاء ساكنًا طوال الوقت لا يُفيد مريضًا في طور الشفاء.
كانت تتجنّب الخروج بسبب المطر ونظرات القرويين،
لكن في هذا الوقت المتأخّر من الليل…
قد يكون مناسبًا.
وصلَتْ إلى باب المخزن بسرعة، ومدّت يدها نحو المقبض.
لكنها توقّفت فجأة عندما خطَر في ذهنها صوتٌ مألوف.
‘رنايا… ستكونين أمًّا رائعة.’
كانت عبارة مفاجئة،
لكن لا شكّ أن سيلين قالتها بنيّة طيّبةٍ.
فربما راودها هذا الشعور بعدما رأت كيف تعتني رنايا بليليا طوال ذلك الوقت.
في الحقيقة، كانت رعاية ليليا أمرًا ممتعًا.
رغم أنّها شعرتْ بالحرج في البداية،
إلا أن الطفلة اللطيفة والهادئة جعلت اللعب معها أمرًا سهلًا.
لكن… هذا لا يعني أنّها ترغب بطفلٍ من دمها هي.
لم تكن واثقة من نفسها.
الزواج… الأطفال… تكوين عائلة جديدة…
‘…ليس من الخطأ أن أعيش هكذا طيلة حياتي، أليس كذلك؟’
وقفت رنايا جامدة أمام باب المخزن، ثمّ انحنت بخفوت.
كانت تحاول تهدئة اضطرابها الداخلي، فأغمضت عينيها.
صرير…
فُتح الباب المغلق فجأة، وظهر هيرديَان أمامها.
✧───── ⋆⋅☆⋅⋆ ─────✧
ستجدون الفصول دومًا متقدمةً لهذهِ الرواية في واتباد وقناة الملفات،
حَسابي واتباد : _1Mariana1
( حسابي السابق قد حُذف)
وستجدون إعلانات تنزيل الفصول قبل هيزو في الرابط المثبت أول التعليق ~ ❀
التعليقات