وعندَ العودة بالزمنِ قليلًا إلى الوراء.
حين عادتْ رنايا إلى المنزل، وجدتْ على الطاولة ورقةً صغيرة موضوعةً بدلًا من وجهِ لِيليّـا الأرنبِيّ الذي اعتادتْ رؤيته.
كانت الورقةُ مزيّنةً بالأقلامِ الملوّنةِ التي تستخدمها ليليا في الرسم، وكأنّها بطاقةُ دعوةٍ لحفلةِ ميلادٍ مبهجة، لكنَّ محتواها كان قصيرًا وواضحًا:
[ماما، ليليا ستنامُ الليلة في بيت العمّ!]
“……هاه؟”
ليليا التي لم تتجاوز الثامنةَ من عمرها، قرّرت بكلِّ جرأةٍ أن تبيتَ خارج المنزل.
يومان.
ذلك كان الحدّ الأقصى لِـصبرِ ليليا.
وضعتْ يديها على خصرها، ووبّختْ هيرديان الجاثي على ركبتيه فوق السجّادة.
“بسببك، ماما حزينةٌ ومتعبة. الآن ماذا ستفعل؟!”
كانت مقتنعةً تمامًا بأنّ سببَ حزنِ أمّها هو هيرديان.
فقد بدا الأمرُ طبيعيًّا في عقلها الطفوليّ، إذ لم تجدْ أيَّ تفسيرٍ آخر.
هي نفسها كانت تُطيعُ أمّها في كلِّ شيءٍ مؤخرًا، لذا لا يمكن أن تكونَ هي السبب.
“ماما صارتْ تكسر الأطباق كثيرًا، وتُضيفُ السُّكر إلى الأطباق المالحة! عليك أن تتحمّل المسؤولية بسرعة!”
“……هل أُصيبتْ بأذى؟”
“لا! لو كانتْ ماما مجروحةً، هل كنتُ سأبقى هنا؟ كنتُ سأكونُ بجانبها.
بما أنّ ماما متعبة، فعليكِ البقاءُ بقربها أكثر.”
أطرقتْ ليليا برأسها بحزن، وضمّتْ دبّها الصغير ديفيد إلى صدرها وهي تُقطّب شفتيها.
“……لكنْ عندما أكونُ قربها، تبتسمُ رغمَ تعبها.”
“……”
“أُحبّ أنْ تبتسمَ ماما، لكنْ لا أُحبّ أن تبتسمَ رغمًا عنها. لذلك، لن أعودَ إلى المنزل حتى تتحسّن.”
“……هل أخبرتِ ماما قبل أن تأتي؟”
“تركتُ ورقةً لها.”
تنفّسَ هيرديان تنهيدةً صغيرة. كان متأكّدًا أنّ رنايا الآن قلقةٌ للغاية، بعدما وجدتْ تلك الورقةَ فقط.
حرّك رأسه قليلًا نحو الباب، فرأى من خلالِ الفتحةِ الضيّقةِ ظلَّ سيرف، فأومأ له خفيّةً آمِرًا بأن يُخبر رنايا بأنّ ليليا هنا.
فهم سيرف الإشارة فورًا، وأومأ برأسه، لكنّ كتفيه كانا يهتزان من شدّة كتمِ ضحكٍ كادَ أن يفلت.
‘……يا لي من حالةٍ بائسة.’
لم يتوقّعْ يومًا أن يركعَ أمامَ طفلة.
لكنّه لم يكن بلا خطأ، لذا ظلّ صامتًا متحمّلًا ذلك.
فقد كان يعلم أنّ ما قالته ليليا صحيح، وأنّ تدهورَ حالِ رنايا كان بسببه جزئيًّا.
“إذًا فكّرْ بطريقةٍ تُعيدُ لماما حيويّتها. الأمرُ من مسؤوليتكَ.”
“……حسنًا.”
أجابها، لكنّ أيّ فكرةٍ لم تخطر بباله. ربما كان من الأفضل ألّا يتواصلَ معها لبعض الوقت.
في تلك اللحظة، عادتْ ليليا إلى طبيعتها بعد أن أنهتِ التوبيخ، وجلستْ على الأريكة الصغيرة، وأرجحتْ قدميها القصيرتين في الهواء.
ثمّ قالتْ بكلِّ عفويةٍ:
“عمي، ليليا تُريدُ شيئًا حلْوًا.”
“…….”
أدرك هيرديان حينها شيئًا واضحًا: الاعتناءُ بطفلةٍ دون وجودِ رنايا أمرٌ مستحيل.
رغمَ أنّ غيابَ أمّها كان يُفترضُ أن يُشعرها بالخوف، إلا أنّ ليليا نامتْ بسلامٍ على سريرٍ غريب.
كانت تتنفّسُ بهدوءٍ، تُصدرُ صوتًا خافتًا وهي نائمة.
راقبها هيرديان للحظة، ثم خرجَ من الغرفة بخطواتٍ صامتة.
فهو دائمًا ما يشعرُ بالإرهاق بعد اللعب معها. فكّ أزرارَ قميصه الضيّق ومسحَ جبينه.
في تلك اللحظة، ظهر سيرف من الظلّ، وأبلغَه بالتقاريرِ اليومية.
“السيدة فيليت زارت اليوم السوقَ العُليا، على ما يبدو تبحثُ عن شخصٍ ما.”
“……شخصٌ ما؟”
“بحسب تصرّفاته، يبدو أنّه يبحثُ عن زوجةِ اللورد كاين.”
“……سيلين غريويل.”
تمتمَ باسمها بصوتٍ خافت. لم يلتقِ بها أبدًا، لكنها تركتْ أثرًا في ذهنه بسبب رنايا.
“ألم تلتقِ بها رنايا قبل يومين؟”
“بلى، ويبدو أنّ السيدة فيليت لم تُنهِ حديثَها معها في ذلك اللقاء.”
كان هيرديان يعرفُ جيّدًا أنّ رنايا اختفتْ أثناء مهرجان رأس السنة لتلتقي بتلك المرأة، وأنّها بعد ذلك عانتْ بصمت.
‘لقد كانتْ عزيزةً على قلبِها، بلا شك.’
فـ رنايا طيبةٌ مع الجميع، لكنّها لا تسمحُ لأيٍّ كان بدخولِ عالمها الداخليّ.
أما من تُدخلهم قلبها، فهم قلّة.
وقد كانتْ سيلين واحدةً منهم.
لذا لم يكن يُطيقُ ذكرَ اسمها.
فهي المرأةُ التي أحبّتها رنايا يومًا، ثمّ كسرتْ قلبها.
ولم تكن رنايا تدري أنّه كان يغارُ منها، من امرأةٍ مثلها.
‘أحقًّا يمكن الغيرةُ من امرأةٍ أيضًا؟’
كان هذا أولَ ما أدركه حينها.
“لقد وضعتَ رجالًا يراقبونها؟”
“نعم، يا سيدي. هي الآن قربَ ميناء كالديس. يبدو أنّها تُفكّرُ في مغادرة البلاد، لكن لم تُغادر بعد.”
“……مغادرة البلاد، إذًا.”
كان في يده خيطٌ قويّ يمكن أن يُهدّدَ كاين إن أراد.
لكنّه تردّد. هل يتركُها ترحلُ بسهولة؟
“راقبوها فقط، وأبلغوني إن حدثَ أيُّ شيء.”
“حسنًا، يا سيدي.”
اختفى سيرف في الظلامِ بخطواتٍ خافتة.
سادَ صمتٌ مطبق، لا يُسمعُ فيه سوى حفيفِ الريح خارجَ النافذة.
أسند هيرديان ظهره إلى الجدار، شاردًا بأفكاره.
ماذا لو علمتْ رنايا بالحقيقة؟
بأنّه كان يعلمُ كلَّ ما تُخفيه عنها، واستغلَّ ذلك لصالحه.
إنْ عرفتْ، فلن يغفرَ لها قلبُها.
‘لهذا السبب كنتُ أُحاول ألّا أطمع بها أكثر.’
حين أقنعها بالسفرِ معه إلى الشمال، كان عازمًا على إبقاءِ مسافةٍ آمنةٍ بينهما.
فهي مُنقذته، لكنه كان يخشى اليومَ الذي سيُضطرّ فيه لاستخدامِ ليليا كورقةِ ضغط.
لكنّ القلبَ لم يُطِعْ العقل.
“همم……”
سمعَ حفيفًا خلفَ الباب.
دخلَ إلى الغرفة، فوجدَ ليليا تتقلّبُ في نومها. اقتربَ منها برفقٍ وربّتَ على شعرها.
فتحتْ عينيها قليلًا، وحين رأتْهُ، ابتسمتْ ثمّ غفتْ مجددًا.
ابتسمَ هو الآخر، وهمسَ بصوتٍ خافتٍ:
“……آسف.”
كانت نائمةً، لكنها ابتسمتْ كأنّها فهمتْه.
ابتسمَ بدورهِ وأغمضَ عينيه.
لم تنتهِ إقامةُ ليليا تلك في ليلةٍ واحدة، بل امتدّتْ إلى يومٍ ثانٍ، ثم ثالثٍ، ورابعٍ، حتى مرَّ أسبوعٌ كامل.
ومع أنّ الطفلةَ لم تَعُد تبكي بحثًا عن أمّها، إلا أنّ المشكلةَ كانت في الجهةِ الأخرى تمامًا.
فـ رنايا هي التي لم تستطعْ النوم.
‘لا أستطيعُ النوم……!’
تأمّلتْ وجهها الشاحب في المرآة، وشعرتْ بالأسف حتى تجاه المرآة نفسها.
‘لم أتوقّعْ أن أصلَ إلى هذا الحدّ.’
إنّه مرض. عليَّ أن أتعافى منه.
لكنّها حاولتْ لأسبوعٍ كاملٍ وفشلت.
ثمّ بدأتْ تُبرّر لنفسها:
‘ربما هذا ليس مرضًا، بل قلقٌ طبيعيّ. أيُّ أمٍّ في العالم لا تقلقُ إنْ نام طفلها في بيتٍ غريب؟’
وبينما كانت تُقنعُ نفسها، نهضتْ فجأة.
“حان الوقتُ لأُعيدها. لا يمكنها البقاءُ هناك إلى الأبد.”
بالطبع، لم يكن السببُ أنّها لا تستطيعُ النوم.
ارتدتْ ثيابها بسرعةٍ، وتوجّهتْ إلى منزلِ هيرديان الذي لم يكن بعيدًا.
وقفتْ أمام القصرِ الكبير، تتنهّدُ بعمق. لم تكنْ مستعدّةً بعدُ لمواجهتِه، لذا قرّرتْ أخذَ ليليا والعودةَ بسرعةٍ البرق.
حين أُبلغَ سيرف بقدومها، تقدّمَ لتحيّتها قائلًا باحترام:
“مرحبًا بعودتكِ، سيدة فيليت.”
“……مرحبًا. أين ليليا؟”
“هي بالداخل.”
قادها إلى غرفةٍ في الطابقِ الثاني.
فتحتْ البابَ بحذر، وما إنْ رأتْ المشهدَ أمامها حتى تجمّدتْ.
كان هيرديان يرتدي مريلةً ورديّةً، وربطَ شعره بخيطٍ ورديٍّ أيضًا، وكأنّه أبٌ في مطبخٍ كرتونيّ.
“…….”
“…….”
في تلك اللحظة، فكّرتْ رنايا:
‘آه، لا بدّ أنّني أَحلُم.’
✧───── ⋆⋅☆⋅⋆ ─────✧
ستجدون الفصول دومًا متقدمةً لهذهِ الرواية في واتباد وقناة الملفات،
حَسابي واتباد : _1Mariana1
( حسابي السابق قد حُذف)
وستجدون الروابط، لحسابي واتباد، وقناة الملفات في أول تعليق~ ❀
التعليقات لهذا الفصل " 79"