على الرغم من أنّ رنايا أمضتْ وقتًا طويلًا في التفكير، إلّا أنّ تنفيذ القرار لم يستغرق منها وقتًا طويلًا.
أخذتْ محفظتَها التي لم يكن فيها الكثير، بالإضافة إلى شراب التفّاح الذي كانت قد وضعته في خزانة المطبخ.
كان ذلك الشرابُ أغلى ما تملكه في البيت، وقد تلقّته من سكّان قرية لوكلير عند مغادرتها لها.
“سيّدة بيليندا، أعتذر حقًّا، لكن هل يمكنكِ رعاية ليليا قليلًا؟ عندي أمرٌ في الخارج، ولن أتأخّر أبدًا.”
“بالطبع، اذهبي مطمئنّة.”
لحسن الحظ، ليليا لم تُبدِ انزعاجًا من خروج أمّها دونها.
بل لوّحت لها بيدها وهي تقول أنْ تعود بسرعة.
“سأعود قريبًا يا عزيزتي.”
بعد أنْ تنفّستْ رنايا بعمق، خرجت من المنزل بملامح جادّة وحازمة.
* * *
مرّ يومان منذ انتهاء مهرجان العام الجديد.
وكان التجّارُ منشغلين بجرد الأرباح التي جمعوها أثناء الاحتفالات.
أمّا إدريك ويبر، مدير نقابة التجارة العظمى، فكان مشغولًا ضعفهم جميعًا.
كان يتقلّب بين الدفاتر الثقيلة بعينين مرهقتين، حين طرق أحد الموظّفين الباب بخفّة.
“سيّدي المدير.”
“ماذا هناك؟ أنا مشغول، فلا تقل شيئًا إنْ لم يكن أمرًا عاجلًا.”
“هناك زائر يرغب بلقائك يا سيّدي.”
“ومن يكون؟ هل هو أحد عملائنا؟”
“أممم…”
تردّد الموظّف قليلًا، وعيناه تتحرّكان بتوتّر.
فقد كان من المعتاد أنْ يأتي بعضُ المتغطرسين من العامّة ليروا وجه الرجل الذي يدير نقابة ضخمة كهذه، مدفوعين بالغيرة.
لذا توقّع إدريك أن يكون هذا الزائر واحدًا من أولئك الفضوليين، فعبس وهو يشير بيده.
“إنْ كان شخصًا غريبًا، اطرده فورًا. وإنْ عاد مجدّدًا، استدعِ الحرس.”
لكنّ شخصًا ما ظهر خلف الموظّف متردّد الخطى.
وكانت تلك الزائرة الغامضة هي رنايا نفسها.
“منقذة حياتي…! ما الذي جاء بكِ إلى هنا؟”
قال إدريك مذهولًا، وهو يخلع نظّارته بسرعة.
ثمّ نهض من مكانه، ودعاها إلى الجلوس على الأريكة.
جلستْ متوتّرة، ودون مقدماتٍ بدأت بالكلام مباشرة.
“قلتَ لي سابقًا إنّي يمكنني المجيء إنْ احتجتُ مساعدة، أليس كذلك؟”
“بالطبع. هل تبحثين عن سلعةٍ ما؟”
“لا. بل عن شخص.”
ساد الصمتُ للحظة قصيرة بين كلماتها.
“أبحثُ عن شخصٍ واحد.”
“عن… شخص؟”
كانت النقابةُ تتعامل مع البضائع والمواد من شتّى البلدان، لا مع الأشخاص.
أما من يبحث عن الناس، فغالبًا ما يذهب إلى أوساط الظلال والخارجين عن القانون، لأنّ هذه الأمور نادرًا ما تكون لأغراضٍ حسنة.
وفي معظم الأحيان، تكون الغاية قتل ذلك الشخص لا إيجاده.
لكنّ رنايا لم ترغب بذلك إطلاقًا، لذا اختارت النقابة بدلًا من أولئك القتَلة.
“النقابة تعرف أشخاصًا كُثر في مناطق مختلفة، أليس كذلك؟ وتستطيع الحصول على المعلومات بسرعة.”
“صحيح، ولكن…”
“هل سيكون من الصعب إيجاد شخص؟”
لم تكن تلك مهمّتهم المعتادة، لكن إدريك لم يستطع رفض طلب مَن أنقذتْ حياته ذات يوم.
“ومن هو هذا الشخص الذي تبحثين عنه؟”
قبل أنْ تجيب، أخرجتْ رنايا من حقيبتها زجاجةَ شراب التفّاح الذهبي وبعض النقود الذهبية، فصاح إدريك وهو يلوّح بيديه رافضًا.
“لا، لا، لا حاجة للمال! كيف لي أنْ أتقاضى شيئًا من منقذتي؟!”
“إذًا خُذ هذا الشراب على الأقل. أعرف أنّ طلبي ليس سهلًا، ولا أستطيع تقديمه بلا مقابل.”
“حسنًا، كما تشائين.”
أخذ الزجاجة على مضض، ثمّ سألها مجدّدًا:
“إذن… من الشخص الذي تبحثين عنه؟”
شعرتْ بالحرج وهي تهمس بعد تردّد.
لم تكن تفعل أمرًا خاطئًا، ومع ذلك وخزها ضميرُها.
كانت تعلم أنّها تُقدِم على تصرّفٍ غبيٍّ وربما عديم الفائدة، لأنّ كاين لم يتمكّن من إيجاد تلك المرأة طيلة ثماني سنوات.
ومع ذلك أرادت أنْ تجرّب حظّها الضئيل.
فهي كانت في العاصمة قبل يومين فقط، فلا بدّ أنّ لها أثرًا يُمكن تعقّبه.
شدّت قبضتَها على فخذها وقالت بهدوء:
“اسمُها سيلين غريوِيل، وتستخدم اسمًا مستعارًا هو رنايا.”
في تلك الأثناء، في مكتب قصر هيرديان.
كان الطقس صافياً في الخارج، لكنّ الجوّ داخل المكتب بدا كئيبًا كما لو أنّ المطر على وشك الهطول.
أطلق سيرف تنهيدةً خافتة وهو يرتّب الأوراق فوق المكتب.
‘في مثل هذا اليوم، يخرج الشبان في نزهةٍ أو موعدٍ غرامي… أمّا سيّدي، فحالُه يُرثى له.’
لم يتفوّه بذلك صراحة، لكنّ نظرته المليئة بالقلق كانت تقولها بوضوح.
وحين شعر هيرديان بذلك التحديق، رمقه بنظرةٍ حادّة وكأنّه يأمره بالكفّ عن النظر.
“سيّدي، ألا يوجد في جدولك أيّ لقاء اليوم؟”
“ولماذا تسألني عن ذلك؟”
“ظننتُ أنّك ربما رتّبتَ موعدًا مع الآنسة فيليت دون إخباري. فقد اعتدتَ فعل ذلك مؤخرًا.”
عندما ذُكر اسم رنايا، ازداد تجعّد حاجبيه، وغرق الجوّ أكثر في الغُمّة.
“لا. لو كان لديّ موعدٌ لخرجتُ بالفعل.”
“إذن، متى تنوي زيارة الآنسة فيليت؟”
“ولِمَ أزورها؟”
“تتصرّف وكأنّك لم تكن تحتاج سببًا من قبل.”
كانت كلمات سيرف تثير أعصابَه كالإبر.
“هل تريد أن أفتح ثقبًا في السقف فعلًا هذه المرّة؟”
“كفى، من فضلك.”
وضع هيرديان القلمَ جانبًا وأسند ظهره إلى المقعد.
لم يكن في مزاجٍ يسمح له بتلقّي الدعابات.
أمام رنايا تصرّف بثبات، لكنّ داخله كان في فوضى تامّة.
‘أحمق.’
لم يكن ينوي الاعتراف بمشاعره أبدًا، على الأقلّ ليس قبل بداية الألعاب الناريّة.
كان دور “الصديق المقرّب” يرضيه كفاية، ولم يكن يريد أنْ يطمع بما هو أكثر.
لكنّ شيئًا ما تحطّم حين رأى انعكاس عينيها الخضراوين كالصيف.
خرجتْ الكلمات من فمه دون إرادة.
لقد جُرح حين سمعها تضع بينهما حدًّا وتدعوه “رجلًا غريبًا”.
والآن، العلاقة التي بالكاد استقرّت، باتت مهدّدة بالانهيار.
تمنّى لو استطاع العودة إلى ما قبل يومين ليصفع نفسه حتى يفيق.
“سيّدي، ليس من الحكمة أنْ تبقى غارقًا في الندم بعد وقوع الأمر.”
“سمعتُ هذه الموعظة من قبل… ما زلتَ تراني طفلًا، أليس كذلك؟”
“في نظري، ستبقى دائمًا ذاك الطفل الصغير يا سيّدي.”
ابتسم هيرديان بسخرية خافتة.
لقد مرّت سنوات طويلة منذ كان طفلًا بالفعل.
“اخرج الآن.”
انحنى سيرف وغادر المكتب بهدوء.
بقي هيرديان وحيدًا، يزفر بعمق وهو ينظر من النافذة.
‘جوٌّ مثاليّ للموت.’
لكنّه لا يستطيع أنْ يموت.
لا يزال أمامه ما يجب فعله، ولو مات فلن يرى رنايا ثانية.
بعد يومين فقط من الفُراق، بدأ يشتاق إليها كما لو غابت سنوات.
تساءل كيف تمكّن من احتمال الفراق لعامين كاملين من قبل.
ثمّ سُمِع طَرقٌ خفيف على الباب.
لم تمضِ سوى لحظات على طردِه لسيرف، فعبس متأفّفًا.
لكنّ وجهه تجمّد حين رأى طفلةً ذات ضفيرتين بلون البلاتين وعينين بنفسجيتين لامعتين تبتسم له بلطافة.
“ليليا…؟”
“عمّي!”
هل يُعقل أنْ تكون رنايا قد جاءت أيضًا؟
ضمّ الطفلةَ إلى صدره بعفويّة، بينما كان ينظر إلى الباب منتظرًا أمّها.
لكنّها لم تظهر.
“هل تبحث عن أمّي يا عمّي؟”
“…”
“اليوم جاءت ليليا وحدها!”
رمش هيرديان بدهشة وسألها:
“كيف جئتِ وحدك من دون أمّك؟”
“طلبتُ المساعدة من الرجال اللي يقفون حول بيتنا دائمًا!”
“ماذا؟”
“أولئك العمّان اللي يلبسون ثيابًا سوداء ويتبعون ليليا أينما ذهبت! ألا تعرفهم يا عمّي؟”
الرجال الذين تحدّثت عنهم ليليا كانوا الحُرّاس الذين وضعهم هيرديان سرًّا لحماية رنايا وابنتها.
(سرًّا… أو هكذا ظنّ.)
“ومنذ متى تعرفين بوجودهم؟”
“منذ جئنا إلى العاصمة. إنّهم لا يخفون أنفسهم كثيرًا، أحيانًا يختبئون خلف الأشجار، وأنا أتحدث معهم أحيانًا!”
تفاجأ هيرديان، إذ لم يتلقَّ أيّ تقريرٍ عن انكشافهم من قبل.
“وهل أمّك تعلم بذلك؟”
“لا، أمّي لا تعرف.”
“هاه…”
منذ أنْ عُيّن قائدًا لحرس وليّ العهد الثاني، اختار بنفسه نخبةَ الفرسان الذين خاض معهم الحرب.
كانوا رجالًا لا يُستهان بهم، ومع ذلك استطاعت الطفلةُ اكتشافهم بسهولة!
تخيّل وجوههم المرتبكة حين خاطبتهم ليليا فضحك في نفسه.
من المؤكّد أنّهم خجلوا من الاعتراف له بالأمر.
“حسنًا… ولماذا جئتِ وحدك إذًا؟”
اتّخذت ليليا هيئةً جادّة، كما لو أنّها نسيت كلّ مرحها السابق.
“أولًا، اجلسْ هنا يا عمّي.”
وأشارت بأصبعها نحو السجّادة أمامها.
بعبارةٍ أخرى، كانت تأمره بالجلوس على الأرض.
✧───── ⋆⋅☆⋅⋆ ─────✧
ستجدون الفصول دومًا متقدمةً لهذهِ الرواية في واتباد وقناة الملفات،
حَسابي واتباد : _1Mariana1
( حسابي السابق قد حُذف)
وستجدون الروابط، لحسابي واتباد، وقناة الملفات في أول تعليق~ ❀
التعليقات لهذا الفصل " 78"