لم تكن تبكي.
لم تكن هناك دموع.
لكن إنْ سألها أحدٌ لماذا تبدو وكأنها تبكي، فلن تعرف رنايا بماذا تجيب.
“لا أظنّ أنّها دموعُ فرحٍ.
هل حدث شيءٌ في غيابنا؟”
“……كيف عرفتَ؟ أنّ شيئًا حدث؟”
“لأنّ الأمر يبدو واضحًا من عينيكِ يا رنايا.”
أرادت أن تردّ عليه بالمثل.
فمن تُفضَح مشاعرُه بالنظر إلى عينيه، لم تكن هي، بل كان هو، هيرديان.
حتى الآن، ما زال ينظر إليها كما لو أنّه يتأمّل شيئًا ثمينًا للغاية.
فأدارت بصرَها نحو لِيليّا النائمة بعمق وقالت بهدوء:
“التقيتُ بشخصٍ أعرفه. هذا كلّ شيء.”
“شخصٍ تعرفينه؟”
“……نعم. شخصٌ أعرفه فقط. ليس قريبًا، ولا بعيدًا.”
“وماذا قال ذلك الشخص حتى…؟”
ابتلع هيرديان بقية كلامه، ومدّ يده اليسرى.
ثمّ لامس خدَّ رنايا بلطف، ومسح بإبهامه طرفَ عينيها المحمرّتين.
ارتجفت بخفة من لمسته الناعمة الغريبة، ورفعت رأسها نحوه.
وعندها فقط، تلاقت عيناهما مجددًا.
“لِمَ تبكين وحدكِ حين لا أكونُ هنا؟”
اهتزّتْ عيناها الخضراوان بعنف.
هي لم تَذْرِف دموعًا، لكنّها منذ أن التقت بسيلين، كانت تبكي في داخلها طوال الوقت.
وكانت لذلك أسبابٌ كثيرة.
السببُ الأوّل: شفقةٌ على لِيليّا التي ما زالت تشتاقُ إلى سيلين.
والثاني: خيبةُ الأمل منها.
وأخيرًا: الفراغُ المؤلم بعد أن فقدتْ صديقةً كانت تعتبرها قريبة من القلب.
“……لنْ أبكي بعد الآن أمام أحدٍ أبدًا.”
عندها قطّب هيرديان حاجبيه قليلًا.
“أنا أُمّ، أليس كذلك؟ إنْ رآني طفلي أبكي، فماذا سيظنّ؟”
لِيليّا كانت بلا شكّ قد رأتْ سيلين تبكي كثيرًا.
ولم تقل ذلك بلسانها، لكن رنايا كانت تعلم.
حتى أنا، التي كنتُ جارتَها، رأيتُها تبكي أكثر من مرّة.
فكم مرّةً يا تُرى، رآتها الطفلة بذلك الحال؟
حين يظهرُ الضعفُ على الوصيّ، لا بدّ أن يشعرَ الطفلُ بالاضطراب النفسي.
لهذا لم يكن يجوزُ لها أن تُظهرَ ضعفها بعد الآن.
“أتظنّين أنّكِ إنْ ظللتِ تكتمين، فلن تبكي وحدكِ ثانيةً؟”
أطبقت رنايا شفتيها بإصرارٍ وعناد.
لم تكن بطبعها عنيدة، لكن منذ أن أصبحت تُربّي طفلة، نشأت في داخلها أمورٌ لم تعُد قادرة على التنازل عنها.
طال صمتُها، وبدأتْ عينا هيرديان الزرقاوان تمتلئان بمشاعر متفجّرة.
“يبدو أنّ الأصدقاء في نظركِ يا رنايا… مجرّد غرباء.”
“…….”
“إذن، كيف يمكن ألّا أكونَ غريبًا بعد الآن؟”
وفي تلك اللحظة، كانت الألعابُ الناريةُ تملأ السماء بنهايتها البهيجة.
تابعت رنايا نظراتها نحو الألوان المتفجرة، فاقترب هو منها فجأة.
لم تُتح لها الفرصةُ لتتراجع، حين انطبقتْ شفتاه برفقٍ فوق شفتيها.
“……!”
ماذا حدث؟
خلال ثوانٍ، توقّف عقلُها عن التفكير.
حدّقت في عينيه المغمضتين نصف إغماضةٍ بعينين تهتزّان بلا انقطاع.
ثمّ انفصلتْ شفتاه بعد لحظة.
لكنّ بصره ظلّ عالقًا طويلًا بشفتيها المرتجفتين.
“يبدو أنّ هذا وحده لا يكفي.”
“…….”
“فهل أكونُ إذًا… والدَ لِيليّا؟”
……هل هذا حُلم؟
كان واقعيًّا أكثر من أن يكون حلمًا، وحُلْميًّا أكثر من أن يكون واقعًا.
نظر إليها بعينين دافئتين ملؤهما الحب، وقال بصوتٍ خافتٍ أخيرًا:
“أنا أحبّكِ.”
كانت في التاسعة والعشرين من عمرها.
لم تختبر الحبَّ لا في هذه الحياة ولا في السابقة.
لكنها، وهي الأُمّ العزباء التي تُربّي طفلتها ذات الثماني سنوات، رنايا فيليت، تلقّت أولَ اعترافٍ بالحبّ في حياتها.
* * *
بعد يومين من انتهاء مهرجان العام الجديد، ما زالت على وجنتَي لِيليّا ملامحُ الضيق.
فقد ذهبتْ أمُّها والأستاذُ وحدهما لمشاهدة الألعاب النارية.
“كنتُ أريد أن أراها… الألعاب النارية.”
لم تتمكّن من رؤيتها حقًّا، فبدأتْ ترسمها بخيالها.
ألوانٌ متفجّرة في ليلٍ أسودَ حالك، وثلاثُ أيادٍ متشابكة في أسفل اللوحة.
شَعرٌ ذهبيّ، وآخرُ بلونٍ ذهبيّ أفتح، وثالثٌ بنيّ فاتح.
حتى من دون تفاصيل كثيرة، يمكن معرفةُ مَن يكونون.
وأمّا رنايا فماذا كانت تفعل بينما كانت لِيليّا ترسم؟
لا شيء تقريبًا.
لكنّ روحها كانت تبدو كأنها خرجت من جسدها، فكيف يمكن أن تُسمّى “طبيعية”؟
‘أمّي ما زالت متعبة اليوم أيضًا…’
تنهدت لِيليّا في سرّها.
كانت رنايا على هذه الحال منذ يومين.
تتصرف كما لو أنها جسدٌ بلا روح.
تكسر الأطباق بلا قصد، وتضع السكر بدل الملح.
وحين أنهت لِيليّا رسمها، لم تحتمل فقالت:
“أمّي، متى سيأتي السيد؟”
“……هاه؟”
كان هيرديان قد عاد إلى قصره في العاصمة بعد المهرجان، متذرّعًا بأنّ أعمالَ الترميم قد انتهت، لكنها كانت تعلم أن ذلك مجرّد عذر.
‘بسبب اعترافه… لا شكّ في ذلك.’
في تلك الليلة، لم تستطع رنايا الردّ على اعترافه.
لأنّه، قبل أن تقول أيّ شيء، قطع الحديث قائلًا إنّه سيغادر.
حتى في طريق العودة، لم يمنحها فرصةً للحديث في الموضوع.
بدا وكأنه لا يريد سماع الجواب بعد.
“……سيأتي عندما لا يكون مشغولًا يا عزيزتي.”
“لكن لماذا يكون مشغولًا دائمًا؟”
“ذلك لأنّ…”
ربّما بدأت المواجهة الجادّة بينه وبين الكونت روتشيستر.
فمجردُ ظهوره في العاصمة، رغم أنّه في الرواية الأصلية كان قد مات واختفى، كان بمثابة إعلانٍ لبداية الصراع.
لكن رنايا لم تكن تعرف تفاصيل خطّته.
‘الآن أدرك أنّي لم أسأله يومًا عن تلك التفاصيل…’
كان بينهما خطٌّ غير مرئيّ.
وكلاهما يدرك أنّ تجاوزَ هذا الخطّ يعني انهيارَ العلاقة.
لهذا اختار هيرديان طريقًا آخر:
أن يُبقي على الخطّ، لكن يمنح العلاقة اسمًا جديدًا.
لم يكن قلبها باردًا تجاه اعترافه.
بل خفقَ بشدّةٍ حين شعرتْ بصدق مشاعره التي لامستها بوضوح.
لكن، إلى هذا الحدّ فقط.
لم يكن يمكن أن تصبح علاقتهما أقرب من ذلك.
‘في أيِّ شيءٍ رآني جذّابة؟’
امرأةٌ بسيطة، كانت تعملُ في الحقول طوال حياتها…
لو تجاوزَت حدود “الخطوبة المزيّفة” إلى الزواج، فلن يسمع سوى الإهانات من طبقته النبيلة.
ولم تكن تُريد أن تراه في ذلك الموقف.
ثمّ هناك سببٌ آخر جعلها لا تستطيع قبول اعترافه.
إنّه حقيقةُ نسبِ لِيليّا الحقيقي.
هيرديان لم يسألها قطّ عن والد الطفلة.
وربّما ظنّها ابنته الحقيقية حتى الآن.
لكن لو علم أنّ لِيليّا هي ابنةُ عدوّه، فهل كان سيقول لها “أحبّكِ”؟
الجواب واضح: لا.
“هاه…”
كلّما فكّرت، عاد الصداع يطرق رأسها.
رفعت رنايا يديها تمسك بهما رأسها، فألقت لِيليّا نظرة قلقة عليها.
“……أمّي؟”
“آه، لا شيء. لستُ أدري ما الذي يشغله تحديدًا. حين أراه، سأَسأله.”
ابتسمت بخجل، لكنها لم تَكَدْ تنهي كلامها، حتى سُمع طَرقٌ خفيفٌ على الباب.
قفزت من مكانها وذهبت لاستقبال الزائرة.
كانت بيليندا، التي جاءت منذ أيامٍ قليلة أيضًا.
“أهلًا بكِ، المعلّمة بيليندا.”
انحنت الأخيرة بأدبٍ كما تفعل دومًا.
ورغم أنّ العقد السابق بينهما انتهى، فقد وعدتْ أن تأتي لتُدرّس لِيليّا في أوقات فراغها نزولًا عند رغبة الطفلة.
لكنّها ما إنْ رأت حال رنايا، تغيّر وجهها قليلًا وقالت بقلق:
“هل لم تنامي جيدًا مؤخرًا؟”
“ليس تمامًا، لكن…”
“يبدو وجهكِ مرهقًا جدًا. ولِيليّا لا بدّ أنّها لاحظتْ ذلك أيضًا.”
حتى من دون أن تنظر إلى المرآة، أدركت رنايا أنّها شاحبة، وهزيلة، وشعرها باهتٌ وجافّ.
مجردُ قِلّة نومٍ كانت كفيلةً بأن تُرهقها بهذا الشكل.
“سأهتمّ بلِيليّا قليلًا، فاذهبي لترتاحي ولو لِبرهة.”
“لا، لا داعي، أنا بخير…”
“اذهبي الآن.”
تحت إصرار بيليندا، دخلت رنايا غرفةَ النوم.
حدّقتْ قليلًا في الباب المغلق، ثمّ تمدّدتْ على السرير وأغلقت عينيها المثقلتين.
كانت متعبةً فعلًا.
كلّ ما جرى في مهرجان العام الجديد جعل نومَها هاربًا لأيام.
‘ما الذي يحدث في هذا العالم؟ لِمَ كأنّه يتآمر عليّ؟’
أرادت فقط أن تتوقّف عن التفكير وتستريح.
لكن حتى ذلك لم يتحقّق.
بعد بضع دقائق، جلستْ ببطء.
تدلّت خصلات شعرها المُبعثرة على عينيها.
‘……ما كان عليّ أن أغضب يومها.’
✧───── ⋆⋅☆⋅⋆ ─────✧
ستجدون الفصول دومًا متقدمةً لهذهِ الرواية في واتباد وقناة الملفات،
حَسابي واتباد : _1Mariana1
( حسابي السابق قد حُذف)
وستجدون الروابط، لحسابي واتباد، وقناة الملفات في أول تعليق~ ❀
التعليقات لهذا الفصل " 77"