“……سِيلين.”
“قلتُ لكَ ألّا تُناديني بذلك الاسم عندما نكونُ في الخارج.”
في اللحظة التي وبّخته فيها سِيلين بوجهٍ جادّ، شعرتْ بحرارةٍ غريبةٍ ترتفع في صدرها.
“……أوغ!”
أسرعت تُخرج منديلًا لتغطي فمها، وهي تتناوب بين السعال والتقيؤ، غير قادرةٍ على تمالك نفسها.
مدَّ جيرار يدَه يربّت على ظهرها بخبرة، حتى تُخرج ما في صدرها بسهولةٍ أكبر.
وحين انتهى السعال أخيرًا، وأبعدتْ المنديل، وجدتْ بقعةَ دمٍ عليه.
“……يبدو أنّ الأمر يزدادُ سوءًا. ألا يجدرُ بنا زيارةُ طبيبٍ قبل الرحيل؟”
“جيرار، أنتَ تعلمُ أيضًا أنّ الأطباءَ العاديين لا يستطيعون علاجي.”
منذ أُصيبت سِيلين بنزلةِ بردٍ قبل فترة، وهي تعاني من نوباتِ سعالٍ تتخللها دماء.
كانت تتناول دواءً وُصف لها أثناء إقامتها في الغرب، لكنه لم يُجدِ سوى في تخفيف السعال قليلًا.
‘هل سأموتُ هكذا، ببطءٍ ووهن؟’
راودها أنّ هذه نهايةٌ مناسبةٌ لحياتها التعيسة.
“لنَعُدْ الآن. لقد أتعبتِ نفسكِ كثيرًا اليوم.”
“……”
“إنْ كُنّا سنُبحرُ قريبًا، فعليكِ ادّخارُ قوتكِ. وبِحالِكِ هذا، ستُصابينَ حتمًا بدوارِ البحر.”
كان هذا اليومُ هو الأخير لهما في العاصمة.
فبعد أيامٍ قليلة، سيتوجهانِ إلى الميناء ليُبحرا نحو بلادٍ أخرى.
في الأصل، كان من المقرر أن يُغادرا منذ زمنٍ لقضاء العام الجديد هناك، لكنْ بسبب رغبةِ سِيلين المفاجئة في رؤية العاصمة قبل الرحيل، تأجّل السفر.
“هل بقي شيءٌ ترغبين في رؤيته؟”
“……لا.”
هزّتْ رأسها نافية.
لم يعُد في هذا البلد ما تودّ رؤيته.
بعد أن زارت العاصمةَ التي تحمل ذكرياتِ طفولتها، ورأت رنايا، صديقتها القديمة، فقد اكتفت.
‘أتدري كيف كانت حالُ ليليّا بعد رحيلك؟’
……هل بكت؟
كانت تلك الطفلةُ الطيبة دائمًا تحتضنُها وتدعوها “أمي”، رغم كلِّ ما فيها من قصورٍ ونقائص.
شَعرٌ بلاتينيّ يلمع تحت الضوء، وعيونٌ كالجوهر، وابتسامةٌ مشرقة كأشعةِ الشمس في سماءٍ صافية.
لم تستطع سِيلين سوى أن تُغمضَ عينيها بشدّة، ثم تفتحهما.
“لنذهَبْ يا جيرار.”
حين بدأ الظلامُ يزحف على السماء، عادتْ رنايا لتنضمَّ إلى رفاقها وكأن شيئًا لم يحدث.
أما ليليّا، التي كانت تنتظرها بهدوءٍ في مكانها، فقد تمتمتْ متذمّرةً بصوتٍ خافت:
“أمّي، أين كنتِ؟ ليليّا كانت تنتظرُ طويلًا.”
“همم، آسفة يا صغيرتي. كان رأسي يؤلمني، فذهبتُ لأرتاح في مكانٍ هادئ. هل انتظرتِ أمّكِ كثيرًا؟”
“……لا، ليس كثيرًا في الحقيقة. أمّي، هل أنتِ متعبة؟”
رفعتْ ليليّا رأسها بقلقٍ تنظرُ إلى وجه أمّها.
وعلى الرغم من أنّ الصداعَ ما زال يُزعجها، إلا أنّ رنايا ابتسمتْ قائلة:
“أنا بخير، لا تقلقي.”
“رنايا، لعلّنا نعود الآن، لا يبدو أنكِ…”
“أنا حقًا بخير.”
‘عليّ أن أكون بخير. لا يُسمح لي بالانهيار.’
قاطعتْه بنبرةٍ حادّةٍ بعض الشيء، ثم غيّرت الموضوع ببراعةٍ متعمَّدة:
“ليليّا، هل استمتعتِ اليوم؟”
“نعم! لقد كان اليوم ممتعًا جدًا جدًا!”
حتى من تعابيرها يمكن معرفة ذلك، كانت عيناها تلمعان ببريقٍ يشبه انهمارَ الشهب.
فمن الطبيعي أن تكون هذه ردةَ فعلِها وهي تحضرُ مهرجانًا كهذا لأول مرةٍ في حياتها.
لكنّ المهرجان لم ينتهِ بعد، فبعد عروضِ النهار، كان بانتظارهم السوقُ الليليّ وعرضُ الألعاب النارية.
“أمّي، قالوا إنهم سيُطلقون ألعابًا نارية بعد قليل. لكن ما هي الألعابُ النارية؟ العمُّ قال إنّها بارود…؟ لم أفهمه.”
“بارود؟”
‘أيُّ شخصٍ هذا يشرح للطفلة الألعاب النارية بأنها بارود؟’
نظرتْ رنايا إلى هِيرديان نظرةً حادّةً فتنحنح محرجًا، مُشيحًا بنظره عنها. كان ماهرًا في اللعب مع الأطفال، لكنّ الشرح لم يكن من نقاط قوته.
“همم… الألعاب النارية هي زهورٌ تُزهر في السماء ليلًا بألوانٍ كثيرة.”
“زهور؟”
“نعم، زهورٌ كبيرةٌ وجميلة جدًا.”
“واااو…”
حين شرحتْها بطريقةٍ تناسبُ سنَّها، أشرقتْ عينا الطفلة بحماسٍ لامع. لم تكن متأكدةً إن كان الوصفُ دقيقًا، لكنه بالتأكيد أفضل من “بارود”.
“دعينا نُغيّر مكاننا. من هنا لا يُمكننا رؤية الألعاب النارية جيدًا.”
“لكن هل ما زال هناك مكانٌ فارغ؟ يبدو أنّ الجميع قد حجزوا أماكنهم بالفعل.”
“اتبعيني فقط، وسترين.”
قال هِيرديان بثقةٍ مرفوعةِ الحاجب، وابتسامةٍ خفيفةٍ على شفتيه.
وبينما كانوا يسيرون خلفه، توقّفتْ ليليّا فجأةً وقد شدَّ انتباهها شيءٌ ما.
كانت عيناها معلّقتين على كشكٍ من أكثر الأكشاكِ بهاءً وزينة، حيثُ كان يتدلّى منه قلادةٌ فضية.
لم تكن تهتمُّ عادةً بالمجوهرات، ولم تكن ترغبُ بها أصلًا، لكنّها وجدتْ نفسها تحدّق بها دون وعي.
“أه، يا لَها من زائرةٍ صغيرةٍ لطيفة…! أوه؟ أنتم، أنتم من ذاك اليوم؟!”
تغيّر وجهُ البائعِ من الدهشة إلى البهجة، بينما تعرّفَ عليه هِيرديان فورًا.
“أنتَ من أنقذتِ حياتي في المرة السابقة.”
“آه… التاجرُ الذي كان يُدير القافلة آنذاك…”
“نعم، أنا إدريك وِيفَر من نقابة التجارة العالمية.”
كان بالكاد يمكنُِ التعرفُ عليه، إذ تغيّر كثيرًا منذ لقائهما الأول؛ فبدلًا من وجهه الشاحب النحيل، بدا الآن أكثر امتلاءً وحيوية.
“كنتُ ممتنًا جدًا في ذلك اليوم.”
انحنى إدريك بأدبٍ وهو يبتسم.
“أسمعُ أنكَ تُدير القافلة بنفسك، فكيف تعملُ الآن وحدك في كشكٍ كهذا؟”
“عادةً أكتفي بإدارة الدفاتر والتعاملات، لكن اليوم أردتُ أن أُعطي الجميع يوم عطلةٍ ليقضوه مع عائلاتهم، فقررتُ أن أخرج بنفسي.”
ضحك إدريك بخفةٍ وهو يُداعب شعره بخجل، فبدتْ قصتُه صادقةً كفايةً لتبدّد شكوكَ هِيرديان.
“اختاروا ما شئتم، وسأهديكم ما ترغبون به بلا مقابل، فأنتم من أنقذتموني.”
بينما كان الحديثُ يدور، ظلّتْ ليليّا تحدّق بالقلادة الفضية.
انتبهتْ رنايا إلى ذلك وسألتْها بلطف:
“ليليّا، هل تُريدين تلك القلادة؟”
“……هم؟ لا، لا أريدها كثيرًا.”
“حقًا؟”
لكنها كانت تحدّق فيها منذ دقائق.
“أمتأكدة؟”
سألتْها ثانيةً، غير أنّ ليليّا أجابت بنفس الإصرار أنها لا تريدها، ثم أمسكت بيدَي رنايا وهِيرديان تشدّهما بحماس.
“لنُسرع يا أمّي، ماذا لو بدأ عرضُ الألعاب النارية قبل أن نصل؟”
وقبل أن تمضي، انحنتْ قليلًا نحو إدريك قائلةً بأدب:
“إلى اللقاء، عمّي.”
لوّح إدريك لها مبتسمًا:
“تعالي متى احتجتِ شيئًا، سأكون هنا.”
“سأفعل. أتمنى لكَ ليلةً طيبة.”
‘يا للعجب، ما أضيق هذا العالم. في يومٍ واحدٍ فقط، قابلتُ شخصين أعرفهما من قبل.’
فكّرتْ رنايا بذلك، وهي تتبع هِيرديان نحو برج الساعة العظيم.
“……برج الساعة؟”
توقّفتْ مذهولةً، لكنّ هِيرديان تابع السير إلى الداخل بلا تردد، فدخلتْ خلفه بنظرةٍ قلقةٍ تتفحّص المكان.
“هل من الآمن دخولُ مكانٍ كهذا؟ ماذا لو أتى أحدهم؟”
“لن يحدث شيء، لا تقلقي.”
أجابها مطمئنًا بثقة، بينما يصعدانِ الدرجَ معًا.
وفي الأعلى، كان المشهدُ مُدهشًا: منظرٌ واسعٌ للعاصمة تتلألأ أضواؤها، وبُسُطٌ ناعمةٌ ووسائدُ ثلاثٌ موضوعةٌ بعناية.
هتفتْ ليليّا بدهشةٍ وهي تهبط فوق الوسادة بحماس:
“أنظري يا أمّي! كم هي ناعمة!”
‘متى جهّز هذا كلَّه وهو يدّعي الانشغال الدائم؟’
رمقتها رنايا بنظرةٍ فيها ألفُ سؤال، فابتسمَ وأشار بذقنه إلى الوسادة.
من أعلى البرج، كان يمكنهم رؤيةُ شوارع العاصمة اللامعة والسماء السوداء الصافية.
وبينما كانوا ينتظرون بداية الألعاب النارية، غلبَ النعاسُ ليليّا فاستلقتْ فوق ساقَي أمّها وهي تُصدرُ أنينًا صغيرًا في نومها.
‘لقد كانت متحمّسةً جدًا لرؤية الألعاب النارية…’
تردّدتْ أتيقظُها أمْ تتركها تنام، لكنّ ساعةَ البرجِ أعلنت منتصف الليل بصوتٍ عميقٍ مدوٍّ.
وفجأةً دوّى الانفجارُ الأول، وامتلأت السماء بأزهارٍ من نورٍ متعدّد الألوان.
كان مشهدًا لم تَرَه سوى في حياتها السابقة، حين كانت تشاهده وحدها صدفةً بعد العمل.
أما الآن، فالأمر مختلف.
‘……أشعرُ أخيرًا وكأنني أتنفّس.’
رفعتْ بصرها نحو السماء المضيئة، ثم أحسّتْ بنظراتٍ تلتصق بوجهها، فالتفتتْ.
عيناها التقتا بعيني هِيرديان الزرقاوين، اللتين لم تكن تنظران إلى السماء، بل إليها.
كان خفقانُ قلبها أعلى من صوتِ الانفجارات في السماء.
عاد إليها ذلك الإحساسُ الغريب الذي شعرتْ به نهارًا، فحرّكت عينيها بتوتر وسألته:
“……لماذا تنظر إليّ هكذا؟ هل هناك شيءٌ على وجهي؟”
“هل كنتِ تبكين؟”
“……”
“لا، سؤالي خطأ.”
تنفّسَ بعمقٍ وهو يهمسُ بنبرةٍ أكثر دفئًا:
“لماذا كنتِ تبكين؟”
✧───── ⋆⋅☆⋅⋆ ─────✧
ستجدون الفصول دومًا متقدمةً لهذهِ الرواية في واتباد وقناة الملفات،
حَسابي واتباد : _1Mariana1
( حسابي السابق قد حُذف)
وستجدون الروابط، لحسابي واتباد، وقناة الملفات في أول تعليق~ ❀
التعليقات لهذا الفصل " 76"