كانَ معظمُ النّاسِ متجمّعينَ في السّاحةِ، لذا كانَ المقهى في الطّرفِ هادئًا بدونِ زبائنَ.
على الرّغمِ من انتقالِهما إلى مكانٍ آخرَ، وباردٍ أصبحَ الشّايُ الذي كانَ دافئًا، لم تبدأْ محادثتُهما بعدُ.
كانتْ لدى رنايا كلماتٌ أرادتْ دائمًا أنْ تسألَ سيلين عنها إذا التقَتْ بها يومًا.
لماذا تخلّتْ عن ليليا؟
وما الذي كانتْ تفكّرُ فيهِ طوالَ هذا الوقتِ؟
لكنَّ فمَها لم ينفتحْ الآنَ.
تذكّرتْ صورةَ سيلين وهي تبتسمُ بسعادةٍ عندما تلقّتْ زهرةً قبلَ قليلٍ، فشعرتْ بصداعٍ.
في صمتٍ ثقيلٍ، كانتْ سيلين هي من فتحتْ فمَها أوّلًا:
“لم أتوقّعْ أنْ ألتقيَ برنايا هنا. كيفَ حالُكِ خلالَ هذهِ الفترةِ؟”
كنتُ بخيرٍ.
حاولتُ أنْ أكونَ بخيرٍ.
لأنَّهُ إذا لم أكنْ بخيرٍ، فستتأثّرُ ليليا.
خاصّةً أنَّها أكثرُ ذكاءً من الأطفالِ الآخرينَ، لذا كنتُ أكثرَ حذرًا ويقظةً.
“……كنتُ بخيرٍ. وأنتِ، سيلين؟”
“أنا أيضًا كنتُ بخيرٍ.”
يبدو ذلكَ.
لم يكنْ من الممكنِ ألّا ألاحظَ ابتسامتَها للرّجلِ الذي كانَ بجانبِها قبلَ قليلٍ.
بدتْ سيلين الآنَ أكثرَ سعادةً بكثيرٍ ممّا كانتْ عليهِ عندما كانتْ تُربّي ليليا في قريةِ لوكلير.
نعم، تخلّصتْ من طفلتِها وهربتْ، فمن الأفضلِ أنْ تعيشَ بسعادةٍ على الأقلِّ.
تفكّرتْ في ذلكَ، ثمّ شعرتْ بغضبٍ مفاجئٍ.
هل فكّرتْ سيلين، ولو لمرّةٍ واحدةٍ، بليليا التي تركتْها بعدَ مغادرتِها القريةَ؟
كأنَّها تقرأُ أفكارَ رنايا، تردّدتْ سيلين لفترةٍ، ثمّ نطقتْ باسمٍ:
“كيفَ حالُ ليليا؟”
“……هل تسألينَ لأنَّكِ مهتمّةٌ حقًا؟ أم أنَّهُ مجرّدُ سؤالٍ شكليٍّ لأنَّكِ التقيتِني؟”
“…….”
“إذا كانَ السّؤالُ من النوعِ الأوّلِ، فمن الأفضلِ أنْ تسحبيهِ. بل حتّى لو كانَ من النوعِ الثّاني، فالأمرُ نفسهُ. لا أعتقدُ أنَّ لكِ الحقَّ في السّؤالِ عن ليليا.”
“آسفةٌ، رنايا. لقد أخطأتُ في الكلامِ.”
لو كانتْ سيلين وقحةً، لكانَ من الأسهلِ أنْ تغضبَ رنايا.
لكنَّ موقفَها المتواضعَ جعلَ من الصّعبِ إخراجَ كلِّ الكلماتِ المكبوتةِ.
شربتْ رنايا الشّايَ الباردَ دفعةً واحدةً.
لكنَّ ذلكَ لم يُهدّئْ غضبَها الدّاخليَّ.
“لماذا تخلّيتِ عنها؟”
اختلطَ اللّومُ بسؤالِها.
“لماذا تخلّيتِ عن ليليا؟ طفلتَكِ… هل تعرفينَ كيفَ كانتْ ليليا بعدَ رحيلِكِ؟ تلكَ الطّفلةُ الصّغيرةُ…”
تذكّرتْ رنايا ليليا وهي تبكي بحرقةٍ وهي تقولُ إنَّها ستذهبُ للبحثِ عن أمِّها، فتلعثمتْ كلماتُها.
منذُ ذلكَ اليومِ، توقّفتْ ليليا عن الحديثِ عن والدتِها الحقيقيّةِ.
لأنَّ التّفكيرَ فيها كانَ مؤلمًا للغايةِ.
حتّى الآنَ، وبعدَ فترةٍ وجيزةٍ من رحيلِ سيلين، كانتْ ليليا تعاني من كوابيسَ متكرّرةٍ.
كانتْ تبكي بحرقةٍ حتّى تلهثَ، فكانتْ رنايا تسهرُ بجانبِها في بعضِ الليالي.
ما الذنبُ الذي اقترفتْهُ طفلةٌ لم تبلغْ العاشرةَ حتّى لتعاني هكذا؟
“……أشعرُ بالأسفِ الشّديدِ تجاهَ ليليا. أدركُ أنَّني تسبّبتُ لها بجرحٍ كبيرٍ.”
“…….”
“لكنَّني في ذلكَ الوقتِ… لم يكنْ لديَّ خيارٌ آخرُ.”
“ماذا تعنينَ؟ لم يكنْ لديِّ خيارٌ آخرُ… أيُّ سببٍ في العالمِ يبرّرُ التّخلّي عن طفلٍ؟”
لم تطرحْ رنايا السّؤالَ لتستمعَ إلى أعذارِ سيلين.
كلُّ ما أرادتْهُ هو سماعُ اعتذارٍ صادقٍ لليليا.
“كما تعرفينَ، رنايا، هربتُ من زوجي في ذلكَ الوقتِ. كنتُ أكرهُ زوجي، لكنَّني أردتُ تربيةَ الطّفلةِ جيّدًا. كانَ ذلكَ شعورًا صادقًا.”
“لكن لماذا…”
“كنتُ أرى ملامحَ زوجي في ليليا أحيانًا. في مظهرِها… أو تصرّفاتِها.”
“……ماذا؟”
خرجَ صوتٌ مذهولٌ بسببِ كلماتٍ غيرِ متوقّعةٍ.
تساءلتْ رنايا إنْ كانتْ فهمتْ كلامَها بشكلٍ صحيحٍ.
بمعنى آخرَ، هل تقولُ إنَّها فقدتْ تعلّقَها بليليا لأنَّها رأتْ ملامحَ زوجِها فيها؟
“أردتُ أنْ أحبَّ الطّفلةَ. لكنْ في كلِّ مرّةٍ كنتُ أرى زوجي فيها—”
“في كلِّ مرّةٍ كنتِ تكرهينَ الطّفلةَ، هذا ما تقولينَهُ؟”
أومأتْ سيلين برأسِها قليلًا.
كانَ من الطّبيعيِّ أنْ ترى ملامحَ كاين في ليليا.
فهي ابنتُهُ بالدّمِ.
لكنْ أنْ تستخدمَ ذلكَ الآنَ…
“لن تفهمي، رنايا.”
“ليسَ أنا فقط، بل أيُّ أحدٍ لن يفهمَ!”
انفجرَ غضبُها أخيرًا.
نهضتْ رنايا من مكانِها وضربتِ الطّاولةَ بقبضتيها بقوّةٍ.
شعرتْ بغضبٍ أكبرَ عندما رأتْ سيلين تنكمشُ مفزوعةً من الصّوتِ العالي.
“هل تستخدمينَ ذلكَ كعذرٍ الآنَ؟ كانَ من الأفضلِ لو لم تقولي شيئًا. أشعرُ بالغباءِ لأنَّني تمنّيتُ سعادتَكِ.”
“…….”
“لا أريدُ أنْ أفهمَ، لكنْ على الأقلِّ أعرفُ الآنَ. تخلّيتِ عن ليليا بمحضِ إرادتِكِ، ولا تشعرينَ بأيِّ أسفٍ.”
“……رنايا.”
“ولماذا تستخدمينَ اسمي؟”
تذكّرتْ المريضةَ التي ذكرَها رينولد، التي كانَ اسمُها مثلَ اسمِها، والتي كانتْ لديها مقاومةٌ للأعشابِ مثلَ ليليا، مما جعلَ علاجَها صعبًا.
أدركتْ الآنَ أنَّ تلكَ كانتْ سيلين.
يبدو أنَّ سيلين كانتْ تستخدمُ اسمَ رنايا منذُ هروبِها.
كانَ ذلكَ يعني أنَّها لم تَعُدْ تنتظرُ كاين أو تُحبُّهُ.
“……آسفةٌ. كانَ اسمُكِ هو الوحيدُ الذي خطرَ ببالي.”
“توقّفي عن قولِ أنَّكِ آسفةٌ. أنتِ لستِ آسفةً على الإطلاقِ. لا على التّخلّي عن ليليا، ولا على تركِ طفلةٍ لشخصٍ كنتِ تعتقدينَ أنَّهُ صديقُتكِ.”
كانتْ كلماتُ رنايا مليئةً بالحدّةِ.
عادةً، لو جُرحَ أحدٌ بهذهِ الكلماتِ، لردَّ.
لكنَّ سيلين قبِلتْها بهدوءٍ، كأنَّ ذلكَ متوقّعٌ.
“الرّجلُ منذُ قليلٍ، هل هو زوجُكِ الجديدُ؟”
“……نعم. يعرفُ أنَّني كنتُ متزوّجةً… وأنَّ لديَّ طفلةً.”
كانَ من الصّعبِ عليها أنْ تقولَ إنَّها التقَتْ بشخصٍ يفهمُ ماضيَها ويعتني بها، وتعيشُ بسعادةٍ.
‘لماذا لم أعرفْ من قبلُ؟ أنَّ سيلين كانتْ هكذا.’
كانتْ خطأَ رنايا أنْ ظنّتْ أنَّها تعرفُ سيلين جيّدًا لأنَّها ركّزتْ على سيلين الرّوايةِ.
على الأقلِّ، سيلين التي أمامَها كانتْ أسوأَ بكثيرٍ ممّا يمكنُ مقارنتُهُ بشخصيّةِ الرّوايةِ.
“لا بأسَ أنْ تستخدمي اسمي، لكنْ لا تُسمّيني صديقتَكِ مجدّدًا. على الرّغمِ من أنَّني لا أريدُ لقاءَكِ مرّةً أخرى أصلًا.”
كانتْ رنايا قد وعدتْ ليليا بإيجادِ سيلين.
لكنْ يبدو أنَّها لن تستطيعَ الوفاءَ بهذا الوعدِ.
لم تكنْ تريدُ أنْ تجمعَ ليليا بشخصٍ أنانيٍّ يهتمُّ بنفسِهِ فقط، مدّعيةً أنَّها والدتُها الحقيقيّةُ.
“ليليا نسيتْكِ وتعيشُ بخيرٍ. لذا، استمرّي في عيشِ حياتِكِ الأنانيّةِ كما تفعلينَ الآنَ.”
كانَ لديها الكثيرُ لتقولَهُ، لكنَّها شعرتْ أنَّ الاستمرارَ في الحديثِ لن يكونَ مفيدًا لأيٍّ منهما.
في اللحظةِ التي كانتْ رنايا ستغادرُ فيها أوّلًا، أوقفَها صوتُ سيلين، التي كانتْ صامتةً، بكلماتٍ خرجتْ بصعوبةٍ من بينِ شفتيها:
“أنتِ لا تعرفينَ. ما الذي مررتُ بهِ. لو كنتِ مكاني، لاخترتِ الخيارَ نفسَهُ.”
“وماذا لو كنتُ أعرفُ؟”
“……ماذا؟”
“أنا لا أجهلُ. أعرفُ ما مررتِ بهِ، ومدى صعوبتِهِ.”
اهتزّتْ عينا سيلين الذّهبيّتانِ بشدّةٍ.
“لكن، حتّى لو كانَ هناكَ سببٌ، فذلكَ لا يمحو الخطأَ الذي ارتكبتِهِ. لقد تسبّبتِ بجرحٍ كبيرٍ لليليا، وهذهِ حقيقةٌ.”
“…….”
“ولو كنتُ مكانَكِ، لما تخلّيتُ عن طفلتي. أبدًا.”
“هل انتهى حديثُكما؟”
“……ربّما.”
“هل هي الشّخصُ الذي قلتِ إنَّكِ تودّينَ أنْ تكوني مثلَها؟”
في الماضي، قالتْ سيلين شيئًا كهذا.
إنَّ هناكَ شخصًا تودُّ أنْ تكونَ مثلَهُ، ولو على مستوى أطرافِ أصابعِها.
قالتْ إنَّ ذلكَ الشّخصَ يبدو لها مشعًا جدًا.
رنايا فيليت، حفيدةُ مزارعةِ التّفاحِ التي عاشتْ حياتَها كلَّها في قريةِ لوكلير.
خلالَ فترةِ جيرتِهما، كانتْ تغارُ من رنايا وتودُّ أنْ تكونَ مثلَها.
كانتْ تُعجبُ بقدرتِها على عدمِ الانهيارِ والمثابرةِ في أيِّ موقفٍ صعبٍ.
كانَ استخدامُها لاسمِ رنايا بعدَ هروبِها من قريةِ لوكلير لسببٍ مشابهٍ.
اعتقدتْ أنَّ ذلكَ قد يجعلُها تشبهُها ولو قليلًا.
لكن، بعدَ مرورِ الوقتِ واللّقاءِ بها بعدَ طولِ غيابٍ، أدركتْ.
إنَّها لن تستطيعَ، مهما حاولتْ طوالَ حياتِها، أنْ تصبحَ حتّى ظلَّ رنايا.
بهذهِ الكلماتِ، غادرتْ رنايا المقهى.
عندما دخلتْ، كانتِ السّماءُ صافيةً، لكنَّها الآنَ أصبحتْ ملوّنةً بغروبٍ أحمرَ.
لقد مرَّ وقتٌ طويلٌ، فربّما بدأتْ ليليا تبحثُ عنها.
‘…حانَ وقتُ العودةِ.’
هكذا فكّرتْ، لكنَّ جسدَها لم يتحرّكْ.
بعدَ بضعِ خطواتٍ، دخلتْ إلى زقاقٍ قريبٍ وجلستْ على الأرضِ.
“هه… كيفَ يحدثُ هذا؟”
شعرتْ بالإحباطِ.
أنْ تكونَ الأسبابُ التي جعلتْ سيلين تتخلّى عن طفلتِها وتهربَ تافهةً إلى هذا الحدِّ.
وأنْ تستمرَّ حتّى الآنَ دونَ أسفٍ، بل تشعرُ بالظّلمِ لأنَّ رنايا لا تفهمُها.
كلُّ شيءٍ من الأوّلِ إلى الآخرِ كانَ يصعبُ تصديقُهُ.
كأنَّ الحديثَ الذي دارَ للتّو لم يكنْ حلمًا بل حقيقةً.
شعرتْ وكأنَّ الأيّامَ التي كانتْ ترى فيها سيلين الرّوايةِ وتجدُ فيها العزاءَ كانتْ كذبةً.
أدركتْ الآنَ بوضوحٍ.
سيلين وهي لا يتشابهانِ أبدًا.
‘على الأقلِّ، أنا لا أتخلّى عن طفلتي.’
لأنَّني أعرفُ جيّدًا شعورَ من يُهملُ.
* * *
بقيتْ سيلين وحيدةً في المقهى، تنظرُ إلى المكانِ الذي كانتْ تجلسُ فيهِ رنايا للتّو.
في الحقيقةِ، كانتْ تعرفُ بشكلٍ غامضٍ.
إذا التقَتْ برنايا يومًا، فسيكونُ الأمرُ هكذا.
لأنَّ رنايا مثلُ البطلٌةِ أو الأميرةِ في القصصِ الخياليّةِ، شخصٌ طيّبٌ.
على الرّغمِ من أنَّ رنايا غادرتْ، لم تفكّرْ سيلين في القيامِ.
بينما كانتْ جالسةً بهدوءٍ، دخلَ جيرارد، الذي كانَ ينتظرُ في الخارجِ، إلى الدّاخلِ.
✧───── ⋆⋅☆⋅⋆ ─────✧
ستجدون الفصول دومًا متقدمةً لهذهِ الرواية في واتباد وقناة الملفات،
حَسابي واتباد : _1Mariana1
( حسابي السابق قد حُذف)
وستجدون الروابط، لحسابي واتباد، وقناة الملفات في أول تعليق~ ❀
التعليقات لهذا الفصل " 75"