كلماتُ سيلين الباردةُ طعنتْ قلبَ ليليا.
أدركتْ ليليا، التي لم تسمعْ هذا الكلامَ من قبلُ أبدًا، أنَّها تحاولُ الضّحكَ بجهدٍ.
‘آه، هذا كابوسٌ.’
مهما كانتْ لا تُعجبُ أمَّها، فإنَّ والدتَها الحقيقيّةَ لم تكنْ لتنطقَ بهذا الكلامِ.
كانتْ تكتفي بالنّظرِ إليها بنظراتٍ ساخطةٍ أو بتجنّبِ إظهارِ وجهِها فحسبُ.
عندما أدركتْ أنَّهُ كابوسٌ، تغيّرتِ المشاهدُ بسرعةٍ.
“أينَ هذا…؟”
ضمّتْ ليليا دميتَها ديفيد ونظرتْ حولَها.
في فضاءٍ أسودَ حالكٍ، رأتْ ظهرَ شخصينِ يمشيانِ بعيدًا: رنايا وهيرديان.
“أمّي! سيدي!”
نادتْ بصوتٍ عالٍ حتّى تردّدَ صداهُ، لكنَّهما لم يسمَعا، أو ربّما لم ينظرا إلى الخلفِ.
حاولتِ الرّكضَ بجهدٍ، لكنَّ المسافةَ كانتْ تتّسعُ فقط.
فجأةً، وجدتْ ليليا نفسَها وحيدةً، واقفةً بلا حراكٍ، تفكّرُ أنَّها تريدُ الاستيقاظَ من هذا الكابوسِ الآنَ.
في تلكَ اللحظةِ، ظهرتْ مرآةٌ كبيرةٌ خلفَها.
التفتتْ ليليا مندهشةً ونظرتْ إلى المرآةِ.
بدأَ النّورُ يتسرّبُ إلى الفضاءِ المظلمِ، وظهرَ شخصٌ ما في المرآةِ.
“……!”
شعرٌ بلاتينيٌّ يصلُ إلى الخصرِ، وعينانِ بنفسجيّتانِ فقدتا بريقَهما.
كانتْ ترتدي ملابسَ ومجوهراتٍ باهظةً، لكنَّ وجهَها الشّاحبَ لم يبدُ سعيدًا أبدًا.
بدا عمرُها بالكادِ يتجاوزُ العشرينَ.
أدركتْ ليليا على الفورِ: الشّخصُ في المرآةِ هو هي.
وقفتْ ليليا مذهولةً للحظةٍ، ثمّ اقتربتْ خطوةً من المرآةِ ومدّتْ يدَها.
فمدّتْ ليليا الكبيرةُ في المرآةِ يدَها بنفسِ الطّريقةِ.
“……أنتِ ليليا؟”
ابتسمتْ ليليا الكبيرةُ في المرآةِ بمرارةٍ.
‘أنتِ بخيرٍ. لأنَّكِ لستِ وحدَكِ.’
“ماذا تعنينَ… انتظري لحظةً…!”
قبلَ أنْ تتمكّنَ من السّؤالِ عمّا تعنيهِ، انهارَ الفضاءُ واستيقظتْ ليليا من الحلمِ.
نظرتْ إلى سقفِ الغرفةِ المظلمةِ وهي تلهثُ بصعوبةٍ.
كانتْ عيناها رطبتينِ، كأنَّها كانتْ تبكي أثناءَ نومِها.
“…….”
رمشتْ ليليا وهي تنظرُ إلى السّقفِ، ثمّ أدارتْ رأسَها إلى اليمينِ.
كانَ هيرديان هناكَ، يربتُ عليها بنظراتٍ حنونةٍ.
“استيقظتِ؟ يمكنُكِ النّومُ أكثرَ.”
في الوقتِ نفسهِ، شعرتْ بدفءٍ في يدِها اليسرى.
أدارتْ رأسَها إلى اليسارِ، فتقابلتْ عيناها مع عينيِّ رنايا التي كانتْ تنظرُ إليها بحنانٍ.
“أمّي…”
“هل أنتِ بخيرٍ؟ هل تشعرينَ بضيقٍ أو شيءٍ من هذا القبيلِ؟”
أومأتْ ليليا برأسِها.
شعرتْ بالدّفءِ يغمرُ قلبَها، وأدركتْ أخيرًا أنَّها تحرّرتْ من الكابوسِ.
الكابوسُ هو مجرّدُ كابوسٍ.
في الواقعِ، هي ليستْ وحيدةً أبدًا.
‘…صحيحٌ، ليليا بخيرٍ. لأنَّها ليستْ وحدَها.’
أدركتْ لماذا رأتْ هذا الكابوسَ.
معرفةُ وجودِ والدِها الحقيقيِّ، الذي كانتْ تأملُ ألّا تعرفَهُ أبدًا، أثارَ قلقًا كانَ هادئًا في داخلِها.
أدارتْ ليليا رأسَها ببطءٍ، تنظرُ بالتّناوبِ إلى الشّخصينِ اللذينِ تُحبُّهما.
‘بخيرٍ. ليليا الآنَ بخيرٍ.’
لن تُهملَ بعدَ الآنَ.
ولن تُجرحَ من قِبلِ الأشخاصِ الذينَ تُحبُّهم.
هدأتْ ليليا أخيرًا، وغرقتْ في نومٍ هادئٍ وسطَ دفءِ الأشخاصِ الذينَ تُحبُّهم.
* * *
كأنَّ اضطرابَ الليلةِ الماضيةِ كانَ كذبةً، استعدّتْ ليليا طاقتَها بمجرّدِ حلولِ اليومِ التّالي.
أكلتْ أقلَّ من المعتادِ في الإفطارِ، لكنَّ ذلكَ كانَ تحسّنًا كبيرًا مقارنةً بالحمّى والبكاءِ الشّديدِ أمسِ.
“سيدي! كيفَ تربطُ شعرَ ليليا هكذا؟ ليسَ هكذا، بل هكذا. يجبُ أنْ تربطَهُ بطريقةٍ أجملَ!”
“……آسفٌ. سأربطُهُ مجدّدًا.”
عندما خرجتْ رنايا بعدَ تنظيفِ الأطباقِ، رأتْ مشهدًا مضحكًا.
كانَ هيرديان يُعاتَبُ من قِبلِ ليليا لأنَّهُ ربطَ شعرَها بشكلٍ خاطئٍ.
“سيدي، هذا مؤلمٌ. لا تربطْهُ بقوّةٍ.”
كانَ واضحًا أنَّهُ يحاولُ تلبيةَ طلباتِ الطّفلةِ بأيِّ شكلٍ.
بفضلِ دراستِهِ الجادّةِ لكتابٍ سابقًا، تحسّنتْ مهاراتُهُ في ربطِ الشّعرِ، لكنَّ ليليا أصبحتْ أكثرَ دقّةً في طلباتِها لتسريحةِ الشّعرِ.
هذهِ المرّةِ أيضًا، هزّتْ رأسَها رافضةً الضّفيرتينِ المربوطتينِ بشكلٍ غيرِ أنيقٍ.
“……أفضلُ من قبلُ، لكنَّ هذا لا يكفي لتخرجَ ليليا.”
“سأربطُهُ مجدّدًا.”
“ماذا لو انتهى المهرجانُ بينما نحنُ هكذا؟”
تذمّرتْ ليليا.
ومع ذلكَ، بدا أنَّها تستمتعُ بشعورِ تمشيطِ هيرديان لشعرِها، فكانتْ تتذمّرُ بفمِها لكنَّها جالسةٌ بهدوءٍ.
اقتربتْ رنايا وسألتْ بوجهٍ حائرٍ، غيرَ مدركةٍ ما يحدثُ:
“هل تنوينَ الخروجَ اليومَ؟”
“نعم! سأذهبُ مع أمّي وسيدي لمشاهدةِ المهرجانِ!”
“……هل أنتِ بخيرٍ للخروجِ؟”
“السّيدُ موجودٌ، لذا سأكونُ بخيرٍ.”
كأنَّها نسيتْ ما حدثَ أمسِ، كانتْ ليليا مليئةً بالحماسِ.
في اليومِ السّابقِ، سألتْ رنايا ليليا عمّا حدثَ عندما التقتْ بكاين.
بالتّأكيدِ قالَ شيئًا جعلَ الطّفلةَ تبكي بحزنٍ.
لكنَّ الإجابةَ التي تلقّتْها كانتْ مختلفةً تمامًا عن توقّعاتِها.
”اعتنى بي. حاولَ إيجادَ أمّي وسألني إنْ كنتُ أريدُ خبزًا محمّصًا لذيذًا.”
”لكن لماذا كنتِ تبكينَ؟”
”……لأنّي اشتقتُ لأمّي.”
لم تستطعْ رنايا قولَ شيءٍ بعدَ هذهِ الإجابةِ.
شعورُ الذّنبِ لأنَّها تسبّبتْ في إثارةِ ذكرياتٍ سيّئةٍ لليليا جعلَ حلقَها ينغلقُ.
‘من حسنِ الحظِّ أنَّها استعدّتْ عافيتَها الآنَ… لكنْ يجبُ أنْ أكونَ أكثرَ حذرًا في المستقبلِ.’
أصبحتْ تفهمُ الآنَ توتّرَ الأهلِ عندما يخرجونَ مع أطفالِهم.
كم هو محظوظٌ أنْ يمرَّ الأمرُ دونَ حوادثَ كبيرةٍ.
…أم أنَّ لقاءَ كاين بحدِّ ذاتِهِ هو الحادثُ الكبيرُ؟
بينما كانتِ الطّفلةُ متحمّسةً بالفعلِ، همستْ رنايا بهدوءٍ لهيرديان:
“ألم تكنْ مشغولًا هذهِ الأيّامَ؟”
“لقد وعدتُ، أليسَ كذلكَ؟ اليومَ سنقضي الوقتَ معًا.”
“لكن…”
“استعدّي واخرجي. سأحاولُ ربطَ شعرِها بطريقةٍ ما حتّى ذلكَ الحينِ.”
ربطَ هيرديان شعرَ ليليا مجدّدًا بنظرةٍ جادّةٍ نوعًا ما.
على الرّغمِ من أنَّ حركاتِ يدِهِ بدتْ خرقاءَ، إلّا أنَّ كليهما بدا مستمتعًا، فلم تستطعْ رنايا التدخّلَ.
دخلتْ إلى الغرفةِ لتستعدَّ للخروجِ، مدفوعةً بضغطِ الموقفِ.
في اللحظةِ التي أرادتْ فيها إخراجَ ملابسِ الخروجِ من الدّرجِ، شعرتْ بألمٍ حادٍّ في طرفِ إصبعِها المجروحِ من الأمسِ.
“آه…”
عبستْ رنايا ونظرتْ إلى إصبعِها.
كانَ الجرحُ مقبولًا عندما أُصيبتْ بهِ أمسِ، لكنَّهُ اليومَ بدأَ يؤلمُها منذُ الصّباحِ.
مع وجودِ هيرديان اليومَ، يجبُ أنْ يكونَ الأمرُ على ما يرامُ، لكنَّ شعورًا بالقلقِ الغامضِ بدأَ يتسرّبُ إليها، مما جعلَها متوترةً.
‘ربّما أصبحتُ حسّاسةً لأنَّ الأمرَ يتعلّقُ بليليا.’
كلّما زادتْ حساسيّتُها، كانَ عليها أنْ تكونَ أكثرَ يقظةً من الأمسِ لحمايةِ الطّفلةِ.
شدّدتْ رنايا عزمَها وأخرجتْ ملابسَ الخروجِ التي وقعتْ يدُها عليها.
* * *
على اليسارِ هيرديان، وعلى اليمينِ رنايا.
كانتْ ليليا تمسكُ بيديهما بإحكامٍ، وهي تقفزُ فرحًا وتنظرُ إلى شوارعِ العاصمةِ المتلألئةِ.
كانتِ الشّوارعُ مليئةً بالباعةِ المتجوّلينَ، وفي الأماكنِ المتبقّيةِ كانتْ تُقامُ العروضُ المسرحيّةُ وفرقُ الموسيقى الشّارعيّةُ.
“هيّا بسرعةٍ، بسرعةٍ!”
“انتظري، ليليا…! إذا ركضتِ هكذا قد تُصابينَ!”
“أمّي وسيدي موجودانِ!”
كانتْ ليليا مليئةً بالطّاقةِ، رغمَ أنَّها أكلتْ قليلًا صباحًا.
كانتْ هي من تسحبُ البالغينَ وراءَها.
لم يكنْ أمامَ هيرديان ورنايا خيارٌ سوى مواكبةِ رغباتِ الطّفلةِ.
أوّلُ مكانٍ لفتَ انتباهَ ليليا كانَ متجرَ حلوى الغزلِ.
رأتْ الأطفالَ يحملونَ شيئًا يشبهُ السّحابَ، فبدتْ وكأنَّها تريدُ واحدًا أيضًا.
“أمّي.”
نظرتْ ليليا إليها بنظرةٍ خاطفةٍ.
ضحكتْ رنايا عندما رأتْ عينيها البنفسجيّتينِ المتلألئتينِ كأنَّهما نجمتانِ.
كانتْ تلكَ نظرةً تعني طلبَ حلوى الغزلِ.
“حسنًا، هيّا.”
مع إذنِ رنايا، ركضتْ ليليا بسرعةٍ إلى المتجرِ كأنَّها كانتْ تنتظرُ.
حيّتْ صاحبَ المتجرِ وبدأتْ تُخبرهُ بطلباتِها:
“مرحبًا! أريدُ سحابةً زرقاءَ كبيرةً جدًا جدًا!”
“ههه، زبونةٌ صغيرةٌ لطيفةٌ تشبهُ أمَّها وأباها. سحابةٌ زرقاءٌ، أليسَ كذلكَ؟ سأصنعُها الآنَ، انتظري قليلًا.”
“حسنًا!”
افترضَ صاحبُ المتجرِ بطبيعيّةٍ أنَّ هيرديان ورنايا زوجانِ.
رجلٌ وامرأةٌ شابّانِ، وبينَهما ابنةٌ تشبهُ الأرنبَ.
حتّى في نظرِ رنايا، كانا يبدوانِ كعائلةٍ ودودةٍ، ففهمتْ لماذا قد يُساءُ فهمُ الأمرِ.
لكنَّ هيرديان وليليا، اللذينِ قبلا هذا الموقفَ بطبيعيّةٍ تامّةٍ، لم تتمكّنْ من التّأقلمِ معهما.
‘لماذا يبدوانِ غيرَ مباليينَ تمامًا؟’
من بينِ الثّلاثةِ، كانتْ رنايا الوحيدةَ التي لم تتأقلمْ مع هذا الدّورِ.
دورُ الأمِّ التي لديها زوجٌ وسيمٌ وابنةٌ تشبهُ الأرنبَ.
بينما كانتْ ليليا منغمسةً في مشاهدةِ عمليّةِ صنعِ حلوى الغزلِ، اقتربَ هيرديان وبدأَ الحديثَ:
“هل سبقَ أنْ زرتِ مهرجانًا، رنايا؟”
“……مرّةً واحدةً عندما كنتُ صغيرةً. ذهبتُ مع جدّتي إلى مهرجانٍ في قريةٍ مجاورةٍ. بالطّبعِ، كانَ صغيرًا مقارنةً بشوارعِ العاصمةِ.”
“نحنُ متشابهانِ إذًا. أنا أيضًا زرتُ واحدًا مع والديَّ عندما كنتُ صغيرًا، وهذهِ المرّةُ الأولىُ منذُ ذلكَ الحينِ.”
كانتْ هذهِ المرّةُ الأولى التي يذكرُ فيها هيرديان تاريخَ عائلتِهِ.
كانَ دائمًا يتجنّبُ الحديثَ عن مواضيعَ مشابهةٍ، فلم تُصرّْ رنايا على ذكرِها.
كانَ الجميعُ، من النّبلاءِ إلى العامّةِ المهتمّينَ بالسّياسةِ، يعرفونَ ما حدثَ لوالديّ هيرديان روتشستر.
توفّي الكونتُ روتشستر بحادثٍ، والكونتيسةُ بمرضٍ.
كانتْ هناكَ أسبابٌ مختلفةٌ، لكنْ قليلينَ من يُصدّقونَ ذلكَ حقًا.
“لذا، باستثناءِ طفولتِنا، نحنُ اليومَ مجرّدُ أشخاصٍ يزورونَ المهرجانَ لأوّلِ مرّةٍ. فلنستمتعْ فقط، ونؤجّلُ القلقَ لاحقًا.”
✧───── ⋆⋅☆⋅⋆ ─────✧
ستجدون الفصول دومًا متقدمةً لهذهِ الرواية في واتباد وقناة الملفات،
حَسابي واتباد : _1Mariana1
( حسابي السابق قد حُذف)
وستجدون الروابط، لحسابي واتباد، وقناة الملفات في أول تعليق~ ❀
التعليقات لهذا الفصل " 73"