أجابَ كاين وهو يُدخلُ القلادةَ في جيبهِ:
“زوجتي.”
“……أتقصدُ عائلتكَ؟”
“أجل.”
“……حسنًا، فهمتُ.”
كانتْ ليليا تأملُ بشدّةٍ أنْ لا يكونَ الرّجلُ الواقفُ أمامها والدَها الحقيقيّ، ولا الشّخصَ الذي كانَ يُضايقُ والدتَها طوالَ هذا الوقتِ.
لكنَّ الإجابةَ التي سمعتْها حطّمتْ آمالَ الطّفلةِ بسهولةٍ بالغةٍ.
‘…كذب. هذا الرّجلُ وليليا لا يتشابهانِ أبدًا.’
إذا أردتَ أنْ تُشيرَ إلى أيِّ تشابهٍ، فهو الشّعرُ الأشقرُ الفاتحُ فقط. أمّا بخلافِ ذلكَ، فلا يمكنُ إيجادُ أيِّ شبهٍ ظاهرٍ على الإطلاقِ.
“سيّدي، هل تحبُّ الجزرَ؟”
“……لا أكرهُهُ.”
“وهل تحبُّ قراءةَ الكتبِ؟”
“أجل.”
“وهل يجبُ أنْ تنامَ مع شخصٍ ما بجانبكَ؟”
“……لا.”
ردَّ كاين على أسئلةِ ليليا العَشوائيّةِ بضجرٍ، لكنَّهُ أجابَ على كلِّ سؤالٍ بدقّةٍ دونَ أنْ يُهملَ شيئًا.
‘…انظري. إنَّهُ مختلفٌ تمامًا. لا يشبهُ ليليا أبدًا.’
فلماذا إذًا قالتْ أمّي إنَّنا متشابهانِ؟
“لماذا تحملُ الصّورةَ معكَ؟”
“لأنَّها لشخصٍ عزيزٍ.”
“لتنظرَ إليها كلّما اشتقتَ؟”
“أجل.”
عند سماعِ أنَّها لشخصٍ عزيزٍ، وضعتْ ليليا الخبزَ المحمّصَ الذي كانتْ تأكلُهُ، وأمسكتْ بإحكامٍ بحافةِ تنّورتِها.
“ما الخطبُ؟ أليسَ طعمُ الخبزِ المحمّصِ جيّدًا؟”
“…….”
“هل أطلبُ منهم إعدادَ واحدٍ آخرَ؟”
هزّتْ ليليا رأسَها نفيًا. لم تكنْ تشعرُ أبدًا بطعمِ الخبزِ في تلكَ اللحظةِ. ابتلعتْ الكلماتِ التي كانتْ تتصاعدُ إلى حلقِها مرّةً تلوَ الأخرى.
‘…هل هو حقًا والدُ ليليا؟’
أرادتْ أنْ تسألَ، لكنَّها لم تستطعْ لأنَّها خافتْ أنْ يكونَ الجوابُ نعم.
في الحقيقةِ، كانتْ تودُّ لو أنَّها لم تعرفْ أبدًا بوجودِ والدِها الحقيقيِّ.
‘لماذا أذيتَ أمّي؟’
لو أنَّكَ لم تُضايقْها.
لو أنَّكَ اعتنيتَ بها جيّدًا، لأنَّها شخصٌ عزيزٌ.
لو فعلتَ ذلكَ، لما…
لما تُركتْ ليليا أيضًا.
عندما وصلتْ أفكارُها إلى هنا، انفجرتْ دموعُها مجدّدًا.
هذهِ المرّةِ لم تبكِ بصوتٍ، لكنَّ بكاءَها كانَ أكثرَ حزنًا من ذي قبلُ، فأصيبَ كاين بالذّهولِ.
“لماذا تبكينَ هذهِ المرّةِ؟ هل طعمُ الخبزِ المحمّصِ سيّءٌ حقًا؟”
آه، أشتاقُ إلى أمّي.
أشتاقُ إلى أمّي رنايا ذاتِ الشّعرِ البنيِّ الجميلِ، التي كانتْ دائمًا تُحيطُني بحبِّها في كلِّ لحظةٍ أتذكّرُها.
تساقطتِ الدّموعُ على ظهرِ يدِها. عندما أصبحتْ عيناها مُغبّشةً تمامًا بالدّموعِ، سمعتْ صوتًا:
“ليليا!”
من بينِ ضجيجِ الأصواتِ المختلطةِ، كانَ صوتٌ واحدٌ ينادي اسمَها بوضوحٍ.
رفعتْ ليليا رأسَها بسرعةٍ ونظرتْ نحوَ مصدرِ الصّوتِ.
“……!”
كانتْ رنايا، التي كانتْ تَركضُ في الشّوارعِ منذُ اللحظةِ التي فقدتْ فيها ليليا، مغطّاةً بالعرقِ.
مسحتْ العرقَ عن جبينِها بظهرِ يدِها، وتقابلتْ عيناها مع عينيِّ الطّفلةِ المغرورقتينِ بالدّموعِ.
“أمّيٕ!!!!!!…”
قفزتْ ليليا من مكانِها وركضتْ إلى حضنِ أمِّها التي تُحبُّها. تسارعَ قلبُ رنايا وهي ترى وجهَ الطّفلةِ المُتلطّخَ، فتفقّدتْ حالتَها بسرعةٍ خوفًا من أنْ تكونَ قد أُصيبتْ.
“ليليا، هل أنتِ مصابةٌ؟ إلى أيِّ مدًى أُصبتِ؟”
“هَيْ… هيييك، لستُ مصابةً…”
“إذًا، هل أزعجكِ أحدٌ؟”
دفنتْ ليليا رأسَها في حضنِ أمِّها وهزّتْ رأسَها نفيًا.
نظرتْ رنايا إلى الطّفلةِ التي تبكي دونَ إجابةٍ، وهي عاجزةٌ عن التّصرّفِ، ثمّ حوّلتْ نظرَها.
تقابلتْ عيناها مع عينيِّ كاين الغامضتينِ، فارتجفتْ واتّسعتْ عيناها دهشةً.
“……السّيّدُ روتشستر الصّغير.”
لماذا هو مع ليليا؟
شدّتْ رنايا ذراعيها حولَ ليليا دونَ وعيٍ، خوفًا من أنْ تُؤخذَ الطّفلةُ منها.
“لم نلتقِ منذُ الحفلةِ الأخيرةِ.”
رأتْ بقايا صلصةِ الخبزِ المحمّصِ على زاويةِ فمِ ليليا، والخبزَ نصفَ المأكولِ على الطّاولةِ، والمنديلَ في يدِ كاين. بدا أنَّهُ كانَ بجانبِ ليليا طوالَ الوقتِ.
أسرعتْ رنايا وانحنتْ بعمقٍ.
“شكرًا لأنَّكَ اعتنيتَ بليليا. لا أعرفُ كيفَ أردُّ هذا الجميلَ…”
“سنصبحُ قريبًا من نفسِ العائلةِ، فهل هناكَ حاجةٌ لكلِّ هذا؟”
“…….”
“إنْ أردتِ ردَّ الجميلِ حقًا، فمن الأفضلِ أنْ تُراقبي هيرديان جيّدًا من الآنَ فصاعدًا، حتّى لا يتجاوزَ حدَّهُ.”
“…….”
“ومن الجيّدِ أيضًا أنْ تمسكي بيدِ الطّفلةِ جيّدًا أثناءَ التّجوّلِ.”
كانتْ كلماتُ كاين تحملُ شوكةً. بدتْ وكأنَّها تهديدٌ بأنَّهُ إذا تجاوزَ هيرديان الحدَّ، فلن تكونَ ليليا بأمانٍ أيضًا.
“سنلتقي لاحقًا.”
قبلَ أنْ تتمكّنَ رنايا من السّؤالِ عمّا حدثَ، نهضَ كاين بعدَ أنْ قالَ ما يريدُ وغادرَ المكانَ. نظرتْ رنايا إلى ظهرِهِ وهو يبتعدُ، ثمّ نقلتْ نظرَها إلى ليليا التي كانتْ ترتجفُ في حضنِها.
كانتِ الطّفلةُ التي بكتْ لفترةٍ طويلةٍ ترتجفُ الآنَ.
تساءلتْ رنايا عمّا حدثَ بينَها وبينَ كاين، لكنَّها بدتْ في حالةٍ سيّئةٍ، فقرّرتْ تجاوزَ الأمرِ الآنَ.
“……هيّا نعودُ إلى البيتِ، ليليا.”
“……حسنًا.”
لم تتركْ ليليا حضنَ رنايا ولو قليلًا حتّى وصلوا إلى البيتِ.
* * *
بعدَ العودةِ إلى البيتِ، أصيبتْ ليليا بحمّى خفيفةٍ.
أعطتْها رنايا الدّواءَ الذي تلقّتْهُ من رينولد وأنامَتْها، لكنَّ قلقَها لم يهدأْ أبدًا.
خرجتْ إلى غرفةِ المعيشةِ، ولم تتمكّنْ من البقاءِ ساكنةً، فظلّتْ تتجوّلُ في نفسِ المكانِ غارقةً في أفكارٍ عميقةٍ.
‘…لماذا اعتنى كاين بليليا؟ إنَّهُ الشّخصُ الذي لم يُبدِ أيَّ اهتمامٍ بالأطفالِ من قبلُ.’
كانَ كاين مُنهمكًا بالبحثِ عن سيلين، ولم يُخصّصْ أيَّ وقتٍ لأيِّ شيءٍ آخرَ.
قالَ إنَّهُ ساعدَها لأنَّنا سنصبحُ قريبًا من نفسِ العائلةِ؟
ربّما لو قالَ شخصٌ آخرَ هذا السّببَ لفهمتْهُ، لكنَّ كاين مختلفٌ.
‘…هل اكتشفَ أنَّ ليليا ابنتُهُ؟’
هزّتْ رنايا رأسَها. لو اكتشفَ كاين ذلكَ، لكانَ قد حاولَ أخذَ الطّفلةِ بأيِّ طريقةٍ.
فما الّذي جعلَهُ يعتني بليليا؟
بينما كانتْ غارقةً في القلقِ، اتّجهتْ إلى المطبخِ لتحضيرِ حساءٍ للطّفلةِ.
في اللحظةِ التي مدّتْ يدَها لتأخذَ طبقًا من الرّفِّ، نزلقتْ يدُها، فسقطَ الطّبقُ على الأرضِ وتحطّمَ إلى أشلاءٍ.
“آه…”
لو كانتْ في حالةٍ طبيعيّةٍ، لأحضرتْ المكنسةَ على الفورِ. لكنَّ رنايا، التي كانتْ شبهَ فاقدةٍ للوعي، لمستْ قطعةَ زجاجٍ حادّةً بيدِها العاريةِ. جُرحَ إصبعُها وبدأَ الدّمُ يسيلُ.
“رنايا!”
سمعَ هيرديان صوتَ تحطّمِ الطّبقِ، فاقتربَ وأمسكَ بمعصمِها. عندما رأى الدّمَ يخرجُ من إصبعِها، عبسَ وأخذَ الجرحَ إلى فمِهِ.
شعرتْ رنايا بألمٍ خفيفٍ عندما لعقَ الجرحَ، وبدأَ وعيُها يعودُ تدريجيًا.
“هير…؟ ماذا تفعلُ الآنَ…؟”
“سأنظّفُ هذا، فابقي هادئةً. دعينا نعالجُ يدَكِ أوّلًا.”
أخذَ هيرديان رنايا المذعورةَ إلى غرفةِ المعيشةِ وأجلسَها على الأريكةِ.
أحضرَ علبةَ الإسعافاتِ من مكانٍ ما، ووضعَ الدّواءَ على إصبعِها بطريقةٍ خرقاءَ، ثمّ لفَّ ضمادةً حولَهُ.
كانتِ العمليّةُ صحيحةً، لكنَّ النّتيجةَ خرقاءَ، فضحكتْ رنايا بصوتٍ خفيضٍ.
“لقد شعرتُ بذلكَ من قبلُ، لكنَّ هير ليسَ جيّدًا في علاجِ الآخرينَ.”
“……لأنَّني لم أعالجْ أحدًا من قبلُ.”
ربّما يكونُ هيرديان الوحيدُ الذي يُعالجُ جرحًا بسيطًا في الإصبعِ بهذا التّفاني. نظرتْ رنايا إلى إصبعِها الملفوفِ بالضّمادةِ بعينينِ مليئتينِ بالأفكارِ.
“لقد انخفضتِ الحمّى، فلا تقلقي كثيرًا.”
كانتْ صحةُ ليليا مصدرَ قلقٍ، لكنَّ ما كانَ يُقلقُ رنايا أكثرَ الآنَ كانَ موضوعًا آخرَ. لكنَّها لم تستطعْ قولَ ذلكَ لهيرديان.
خافتْ أنْ يصابَ بخيبةِ أملٍ إذا عرفَ أنَّ ليليا ابنةُ عدوهِ.
خافتْ أنْ لا يُعطيَ الطّفلةَ الحبَّ نفسهُ الذي يُعطيهِ الآنَ.
وخافتْ أنْ يبتعدَ عنها مجدّدًا بعدَ أنْ اقتربا أخيرًا.
لم تتمكّنْ رنايا من الإجابةِ، فاكتفتْ بهزِّ رأسِها.
* * *
كانتْ قريةُ لوكلير تُمطرُ كثيرًا. في الليالي الباردةِ أحيانًا، كانتْ سيلين تجلسُ أمامَ المدفأةِ المتراقصةِ وتمشّطُ شعرَ ليليا البلاتينيِّ بعنايةٍ.
“أمّي، لماذا شعرُ ليليا ليسَ أسودَ مثلَ شعرِكِ؟”
“لأنَّ ليليا طفلةٌ مباركةٌ.”
“……مباركة؟”
أثارتْ ليليا تساؤلًا لأنَّها سمعتْ هذا لأوّلِ مرّةٍ.
“بُركتُ ليليا لأنَّها طفلةٌ ثمينةٌ، فأصبحَ شعرُها بلونٍ يحملُ النّورَ.”
“هل أنا أعظمُ من الجنيّاتِ؟”
“بالطّبعِ.”
حتّى لو بُوركتْ، شعرتْ ليليا بالنّقصِ. كانتْ تتمنّى أنْ يكونَ هناكَ شبهٌ واضحٌ بينَها وبينَ أمِّها يراهُ الجميعُ.
“ومع ذلكَ، أفضّلُ أنْ يكونَ لونُ شعري مثلَ لونِ أمّي…”
“أمكِ في الحقيقةِ تُحبُّ لونَ شعرِ ليليا أكثرَ.”
“حقًا؟”
وضعتْ سيلين المشطَ جانبًا، وضمّتِ الطّفلةَ إليها، وملستْ على رأسِها الصّغيرِ.
“لا بأسَ إنْ لم يكنْ لونُ الشّعرِ نفسهُ. ليليا ستظلُّ ابنتي الحبيبةَ على أيِّ حالٍ.”
في صغرِها وبراءتِها، صدّقتْ ليليا هذا الكلامَ. لم يكنْ يهمُّها اختلافُ لونِ الشّعرِ أو العينينِ، طالما أنَّ أمِّها تُحبُّها.
بعدَ مرورِ وقتٍ طويلٍ.
في يومٍ ما، كانتْ ليليا جالسةً في غرفةِ المعيشةِ بهدوءٍ، تضمُّ دميتَها ديفيد وتدقُّ بقدميها.
لم تتمكّنْ اليومَ من طلبِ قراءةِ كتابٍ من أمِّها أو اللّعبِ في الخارجِ، لأنَّهُ كانَ يومًا لم تكنْ فيهِ أمِّها بمزاجٍ جيّدٍ.
‘هل تعملُ خالتي الآنَ؟’
كانَ من الأفضلِ لو أتتْ خالتُها رنايا التي تسكنُ الجوارَ لتُسلّيَها، لكنَّها، للأسفِ، قالتْ مسبقًا إنَّها مشغولةٌ اليومَ ولا تستطيعُ القدومَ.
بينما كانتْ تنظرُ إلى السّاعةِ، فُتحَ البابُ بهدوءٍ وظهرتْ سيلين.
شربتْ كوبًا من الماءِ الباردِ، ثمّ نظرتْ إلى ليليا بنظرةٍ ساخطةٍ، أو بالأحرى، كانتْ تُحدّقُ في شعرِها البلاتينيِّ الذي يبدو وكأنَّهُ يحملُ النّورَ.
في تلكَ اللحظةِ، أدركتْ ليليا لأوّلِ مرّةٍ. إنَّ لونَ شعرِها لم يكنْ نتيجةَ بركةٍ.
إنَّهُ لونٌ ورثتْهُ من أبٍ لا تعرفُ وجهَهُ ولا اسمَهُ.
“كانَ يجبُ ألّا أنجبْ شيئًا مثلَكِ.”
✧───── ⋆⋅☆⋅⋆ ─────✧
ستجدون الفصول دومًا متقدمةً لهذهِ الرواية في واتباد وقناة الملفات،
حَسابي واتباد : _1Mariana1
( حسابي السابق قد حُذف)
وستجدون الروابط، لحسابي واتباد، وقناة الملفات في أول تعليق~ ❀
التعليقات لهذا الفصل " 72"