“أين فقدتِ أمَّكِ؟”
“أممم… في مكان فيه أشياء كثيرة تلمع.”
عندما سمع الجواب، عقد كاين حاجبيه.
“حاوِلي أن تتذكّري أكثر.”
“أممم… آه، كان هناك متجر مليء بدُمى الدببة. كنتُ أنظر إلى الدمى، وفجأة اختفت أمي…”
متجر مليء بدُمى الدببة.
معلومة لا بأس بها حصل عليها كاين، فغيَّر اتجاهه وسار نحو المكان الذي وصفته ليليا.
لم يكن يعرف تفاصيل كل ما يوجد في الشوارع، لكنه كان يعرف مكان متجر الدببة ذاك.
ظلَّ محفورًا في ذاكرته الباهتة مشهدُ سيلين وهي تحدّق مطولًا في ذلك المتجر من نافذة العربة وهي في طريقها إلى قاعة الحفل.
لم تكن تهتمُّ عادةً بمثل تلك الدمى، لذا كان قد سألها بتعجّب.
”ما الأمر؟”
”… أعتقد أنّ الأطفال سيحبّونها.”
لم يكن الأمر مقتصرًا على الدمى فقط، فقد كانت عيناها كثيرًا ما تتعلقان بكل ما يناسب الأطفال.
كانت سيلين في ذلك الوقت تتوق إلى طفل بشدّة، ولم تكن تريد الاستسلام.
وعندما تبع خيوط ذاكرته، وجد أنّ المتجر ما زال موجودًا في مكانه منذ بضع سنوات.
ومن خلف الواجهة الزجاجية الشفافة كان يرى الأطفال وهم يختارون الدمى برفقة والديهم.
“هل هذا هو المكان الذي قصدتِه؟”
“نعم، صحيح!”
“لكن لا يبدو أن الشخص الذي نبحث عنه موجود هنا.”
مهما التفت حوله، لم يكن يرى أي أثر لرنايا.
كانت ليليا قد ظنّت أنّها ستجد أمّها بسهولة هذه المرة، لكنها خفّضت رأسها من دون أن تقول شيئًا.
“كنتِ تحدّقين لأنكِ أردتِ دمية؟”
“… لا. كنتُ أنظر لأنني تذكرتُ ديفيد.”
“ديفيد؟”
“إنه صديقي الذي أهدتني إيّاه أمي. من المفترض أنه ينتظرني في البيت…”
ديفيد.
من سياق الكلام، خمّن كاين أنّه اسم دمية.
ولأنّه لم يُرد التعمق أكثر، غيّر الموضوع.
“أماكن أخرى تتذكّرينها؟”
“… لا، لا يوجد شيء مميز. لقد كنّا فقط نتجوّل معًا. أنا أصررتُ على أن أرى السوق…”
بعد الامتحان، كان منظر المدينة من نافذة العربة جميلًا جدًا، فأصرت على أن تتجوّل قليلًا، مدركة أنّ أمّها دائمًا ترضخ لرغباتها.
لكن لم يكن عليها فعل ذلك.
أخذت تلوم نفسها بأنها طفلة سيئة.
تذكرت اليوم الذي حاولت فيه الخروج من قرية لوكلير خُفيةً عن الكبار.
والدتها التي احتضنتها باكية، كانت كلماتها ما تزال ترنُّ في أذنيها بوضوح، مما جعل الدموع تترقرق في عينيها.
“هيييينغ…”
فجأة انفجرت بالبكاء.
ارتبك كاين، ولم يعرف ماذا يفعل.
فلم يسبق له أن هدّأ طفلًا من قبل.
“إن كان بكاؤكِ لأنكِ أردتِ دميةـ”
“ليس ذلك… هيك… أريد أمّي… أمييي!”
كانت هناك نوعية من الأطفال يزداد بكاؤهم إذا شعروا أنّ أحدًا يواسيهم، وكأنهم يريدون أن يُفهموا أكثر.
وليليا كانت من هذا النوع.
صرخت وبكت بصوت عالٍ لدرجة أنّ كل الأنظار اتجهت إليهما فورًا.
“الطفل يبكي، ماذا يفعل الأب؟”
“… لا يكون خاطفًا بدلًا من الأب؟”
لا هو أب، ولا هو خاطف.
رمقهم كاين بنظرات باردة، ثم احتضن ليليا المولولة بين ذراعيه.
وبيد مرتجفة طبطب على ظهرها قائلاً:
“يكفي.”
“…”
“لو كان البكاء سيُعيد أمّكِ، لوجدناها منذ زمن.”
“…”
“البكاء لا يجلب إلا الخسارة لكِ.”
كانت لمسته حنونة، لكن كلماته لم تكن كذلك.
صُدمت ليليا من أسلوبه الغريب في المواساة، فتوقّفت عن البكاء.
أما كاين فظنّ أن صمْتها يعني نجاحه في تهدئتها، فشعر بشيء من الرضا.
وفجأة، انتشر في الجو عبير زبدة حلوة.
أخذت ليليا تشمشم بأنفها، حتى وقعت عيناها على متجر خبز محمص قريب.
قرقر بطنها بصوت مسموع، لكنها لم تجرؤ أن تطلب شيئًا، واكتفت بابتلاع ريقها.
فتنهّد كاين وتوجّه نحو المتجر.
أخرج عملة ذهبية من جيبه وقدّمها للعامل.
“شيء تأكله الطفلة، بسرعة.”
“بـ، بالتأكيد! سأحضره ساخنًا على الفور!”
عملة ذهبية من أجل خبز محمص!
ولمّا لوّح كاين بيده قائلاً إنه لا يحتاج الباقي، تهلّل وجه العامل وهرع لإعداد الطعام.
فجذبت ليليا كمّه وهمست:
“أنت غني يا عمّ؟”
“…”
“حتى لو كنتَ غنيًّا، لا يجب أن تُنفق بلا تفكير. هذا تصرّف سيّء، هكذا قالت أمي.”
“إذًا أنتِ وفّري ما عندكِ.”
تجاهل ملاحظاتها.
وما هي إلا لحظات حتى قدّم العامل الخبز المحمّص، فأخذته ليليا بكلتا يديها بعد أن انحنت شاكرة.
جلست على كرسي قريب، وقضمت قضمة كبيرة، فامتلأ فمها بمذاق الزبدة والخبز المقرمش والجبن واللحم.
فارتسمت ابتسامة عريضة على وجهها.
“ممم، لذيذ!”
“ما المضحك؟”
“إنه لذيذ. من الطبيعي أن أبتسم عند أكل شيء لذيذ.”
بدا كاين غير مقتنع.
فأعطته قطعة من خبزها.
“تفضّل، خذ قضمة. أعطيك إياها خصيصًا من ليليا.”
“لماذا؟”
“لأنك لا تعرف كيف تبتسم. لكن إن أكلتَ هذا ستبتسم!”
“لا بأس.”
“لكنها قضمة مميزة من ليليا!”
احتدّ الجدال بينهما، حتى لاحظ كاين آثار الصوص حول فمها.
“أليس عندك مناديل؟”
“المناديل؟”
“في مثل هذه المواقف، الكبار يمسحون فم الأطفال بمناديلهم.”
نظرت إليه مباشرةً بعينين تنتظران أن يتصرّف كـ”شخص بالغ”.
فتنهّد وأخرج منديلاً، لكنه حين اقترب، سقط من صدره قلادة صغيرة وانفتحت.
“عمّو، وقعت منك!”
تناولتها ليليا بسرعة، وما إن رأت الصورة داخلها حتى تجمّد وجهها.
‘… آه؟’
بداخل القلادة صورة محفوظة بعناية.
شَعر أسود طويل كالليل، وعينان ذهبيتان، ووجه جميل خالٍ من الابتسامة.
إنها صورة الشخص الذي كانت تشتاقه وتكرهه في الوقت نفسه.
من كان ليتوقع أنّ القلادة التي يحملها ذلك “العمّ الطيّب” تحتوي على صورة والدتها الحقيقية!
لقد ترسّخ في ذهن ليليا منذ زمن بعيد أنّ والدها كان رجلًا سيئًا يجرح أمّها دومًا.
حتى أنّها سمعت أمّها تبكي يومًا وهي تعانقها وتقول:
”ليليا، لا تُشبهي ذلك الرجل أبدًا، مفهوم؟”
”من هو؟”
”الشخص الذي آذى أمك.”
لم تكن بحاجة لتفسير أكثر.
كان يعني “الأب”.
فأومأت الصغيرة بعزم.
”لن أفعل! لن أُتعب أمي أبدًا!”
لأنها فتاة مطيعة، على عكس والدها الذي جعل أمّها تبكي دومًا.
لكن مع مرور الوقت، تضاءلت ثقتها.
فأحيانًا، كانت نظرات سيلين إليها باردة.
وكانت أمّها كثيرًا ما تنغلق على نفسها لساعات، تاركة الطفلة وحيدة.
وعندما كانت تخرج لتحضّر لها طعامًا بوجه خالٍ من التعابير، لم تستطع ليليا بلع اللقمة، رغم جوعها.
وحين لم تأكل جيدًا، تنهدت سيلين قائلة:
”أنتِ تزدادين شبهًا بذلك الرجل.”
كانت كلماتها كخنجر يغرس في قلب الطفلة.
ومن يومها، كانت تنظر إلى انعكاسها في المرآة وتتساءل:
‘هل أشبهه فعلًا؟’
فحاولت أن تتصرّف بشكل مختلف.
تكبح رغبتها في اللعب، وتقرأ أكثر، وتأكل طعامًا مرًّا وهي تجاهد الابتسام.
لكن مهما فعلت، لم تختفِ تلك النظرات الباردة.
“…”
استعادت ليليا وعيها، وما زالت تحدّق بالصورة.
حتى وهي تنكر في داخلها، لم تستطع خداع عينيها.
إنها وجه أمّها بلا شك.
“أعيديه.”
مدّ كاين يده.
فأفاقت ليليا، وأعطته القلادة بوجه متماسك قدر الإمكان.
ثم سألت بصوت مرتجف:
“عمّي… مَن هذه المرأة بالنسبة لك؟”
✧───── ⋆⋅☆⋅⋆ ─────✧
ستجدون الفصول دومًا متقدمةً لهذهِ الرواية في واتباد وقناة الملفات،
حَسابي واتباد : _1Mariana1
( حسابي السابق قد حُذف)
وستجدون الروابط، لحسابي واتباد، وقناة الملفات في أول تعليق~ ❀
التعليقات لهذا الفصل " 71"