أنهى هيرديان وجبته أخيرًا، وهو يُلقي نظراتٍ خاطفة نحو رنايا دون أن يُلاحظ.
ورغم أنّ بطنه امتلأ جيّدًا، إلّا أنّه لم يُحاول النهوض والمغادرة على الفور كما فعل في المرة الماضية.
فهو يعلم جيّدًا أنّه إن تحرّك الآن، فسيسقط أرضًا من جديد بعد خطوات قليلة.
لا صوت لهُ، وجسدٌ ضعيفٌ… بدا ذلكَ كلعنةٍ.
حتى لو حاول العودة الآن، فلن يُفلح سوى في تلقي حتفه.
‘يا لِحالي البائسة.’
كلّ مفاصله كانت تصرخ من الألم، بالكاد كان يقدر على كتم تأوّهاته.
تقدّمت رنايا، وقد أنهت تنظيف المائدة.
“هل تسمح بأن أرى ذراعك اليمنى؟”
ناولها ذراعه بصمت.
بدأت تَفُكّ الضماد الملطخ بالدماء، ثمّ وضعت بعناية أعشابًا طازجة كانت قد طحنتها بيدها، وغلفت الجرح بضمادةٍ جديدة نظيفة.
كانت تلك الأعشاب قد اقتطفتها صباحًا من الجبل الخلفي، وهي تقاوم الأمطار.
في أثناء العلاج، شعر بنظراتها عليه، لكنّه لاحظ نظرة فضولٍ أيضًا من طرفها.
وكأنّها تنتظر منه أن يقول شيئًا.
فهم أنّها تعتقد بأنّ لديه ما يريد قوله، فأحضرت له قلمًا بريشة وورقة.
“لديكَ ما تريد قوله، أليس كذلك؟ خُذ، يمكنك أن تكتب.”
في الواقع، لم يكن لديه ما يقوله. لقد كان يتأمّلها فقط لأنه استغرب تصرفاتها.
ومع ذلك، بما أنّها بذلت جهدها وأحضرت الورقة، فقد شعر بضرورة قول شيءٍ ما، فأمسك بالقلم.
[هل أنتِ طبيبة؟]
“لا، أنا فلاحه.”
من أول سؤال… أخطأ.
[فلاحة؟]
“نعم، أعمل في بستان تفاح.”
عقد حاجبيه مجددًا، وكأنّه لا يُصدق. هل عاش عمره كلّه مخدوعًا؟ لماذا لا يستطيع تصديق أيّ شيء؟
“حسنًا، هل لي أنا بسؤال الآن؟ يجب أن يكون الأمر تبادليًا، أليس كذلك؟”
أومأ هيرديان برأسه. كان يتوقّع أن تسأله عن سبب وجوده في القرية، أو كيف أُصيب بتلك الجراح، وراح يرتّب أعذارًا مناسبة.
لكنّها باغتته بكلماتٍ غير متوقعة تمامًا:
“أأنت محتال؟”
محتال؟
تلك أول مرة في حياته يسمع من يناديه بذلك.
‘الرجال الوسيمون جميعهم محتالون.’
كانت تلك واحدة من التعاليم التي غُرست في ذهن رنايا منذ صغرها على يد جدتها هيلدي.
”جدتي، كيف تعرفين هذا؟”
”لقد جرّبتهُ بنفسي.”
”جربتيهِ؟”
”نعم، جدكِ كان واحدًا منهم…”
حينها فقط، سمعت رنايا لأول مرة قصة الجدّ الذي لم تكن تعرف بوجوده أصلًا.
أدركت لاحقًا أنّه كان وسيمًا إلى حدٍّ يثير المشاكل، وأنّه كثيرًا ما سبّب الأذى لجدّتها.
وبالطبع، الآن بعد أن كبرت، لم تكن تصدّق كلّ ما قالته جدّتها حرفيًا.
ومع ذلك، ووفق استنتاجاتها الخاصة، بدأت تشعر بنوعٍ من اليقين بأنّ الرجل أمامها لا يبعد كثيرًا عن فكرة “المُحتال”.
“أقسم أنّي لن أُبلغ عنك. فقط سألتُ بدافع الفضول، لأنّك كنت مصابًا بشدة.”
“……”
“أصبتَ أثناء محاولتك الاحتيال على أحد، وتعرّضت للانتقام، أليس كذلك؟”
في هذا الزمن، ما السبب الآخر الذي قد يُعرّض شخصًا لهذا الكمّ من الإصابات؟
أسرع هيرديان بالكتابة:
[أنا لستُ محتالًا.]
“……حقًا؟”
[حقًا لستُ محتالًا.]
“إذًا، من أنت؟”
توقّف القلم فجأةً.
“أها، إذًا أنت محتال فعلًا.”
[لستُ كذلك!]
الذين ينفون دومًا هم في الغالب المخادعون!
ورغم محاولاته الجادة في النفي، ظلّت رنايا تُضيّق عينيها نحوه بريبة.
تكرّر هذا الجدال عدّة مرات.
وفي النهاية، أطلق هيرديان تنهيدةً مستسلمة، وتوقّف عن محاولة تغيير رأيها.
[هل ندمتِ؟ لأنّ الشخص الذي أنقذتِه ربما يكون محتالًا؟]
“حتى لو كنت محتالًا، فلن أندم. فقط كنتُ فضولية، وقلتُ لك مسبقًا، لن أُبلغ عنك.”
في رواية “سيلين غريويل”, لم يظهر أيّ غريب في قرية لوكلير قبل ظهور البطلة، سيلين.
لذا، كان من الطبيعي أن تُثير هوية هذا الرجل الغريب، الذي دخل القرية في حالة يُرثى لها، فضولها.
وبالتأكيد، لم يكن اهتمامها بسبب وسامته، أبدًا.
رنايا تمتمت داخلها: تذكّري تعاليم الجدة.
[لِمَ أنقذتِني؟]
“وهل يحتاج إنقاذ إنسان إلى سبب؟”
[أنتِ لا تعرفين من أكون.]
“هل هذا اعترافٌ بأنك محتال؟”
[حتى إن لم أكن، يوجد الكثير ممن يجَب الحذر منهم في هذا العالم.]
“……هاه.”
رنايا شهقت بدهشة.
بدل أن يشكرها على إنقاذه، بدأ يلومها على كونها لم تكن أكثر حذرًا. هل هذا طبيعي؟
حدّقت به طويلًا، ثمّ ضغطت بخفّة على الجرح الذي ضمّدته سابقًاد
رغم اللمسة الخفيفة، عقد وجهه من الألم.
“بما أنّك تتألّم من لمسة بسيطة، فأنا قادرة على هزيمتك بسهولة. لذا لا تقلق.”
بدت على هيرديان رغبة في الحديث، لكنه تراجع حين رأى نبرة الإحباط في صوتها.
قررت رنايا إنهاء الحديث، فنهضت قائلة:
“لقد تأخّر الوقت، عليك أن ترتاح. سأعود صباحًا.”
في الحقيقة، كانت متعبة هي الأخرى، وهذا سبب إضافي للرحيل.
تثاءبت وهي تُدير ظهرها، وقبل أن تفتح الباب، استدارت فجأة.
“أنا اسمي رنايا فيليت. وأنت؟”
أدركت فجأة أنّهما لم يتبادلا الأسماء حتى الآن.
نظرت إليه بترقّب، وكأنّها تطلب منه الردّ بسرعة.
تردّد قليلًا قبل أن يكتب:
[هير]
هير.
اسم لطيف بالنظر إلى شخصيتهِ القاسية.
“إذًا، سيد هير… أرجوكَ، ارتحْ بهدوء هذه الليلة، حسنًا؟”
خرجت من المستودع بعد أن كرّرت عليه الوصية أكثر من مرة، غير مطمئنة لتركه وحده هناك.
لكن النعاس كان يتسلل إليها بقوة، فأسرعت الخطى عائدة إلى منزلها.
استمرّ المطر في الهطول بعد ذلك اليوم.
وبما أنّه لا يُمكن العمل في هذه الظروف، فقد حظيت رنايا بإجازة نادرة.
رغم أنّها إجازة، إلا أنّ جدولها لم يكن فارغًا أبدًا.
استيقظت باكرًا، رغم أنّه يوم راحة، وتسلّلت إلى الخارج متجنّبة عيون هيلدي، حاملةً وجبةً جديدة إلى المستودع.
“استيقظتَ، سيد هير؟”
طرقت الباب، فجاءها صوت طرق خفيف من الداخل.
أدخلت رأسها بحذر بعد أن تأكّدت من خلوّ المكان، ثمّ سلّمت إليه الطعام الذي خبأته بعناية.
كان خبزًا مُحمّصًا بالزبدة، محشوًّا بشرائح اللحم المقدد والجبن والملفوف.
“اليوم لدينا شطائر. أظنّ أنّك أصبحتَ قادرًا على تناول طعام حقيقي الآن.”
اتّسعت عينا هيرديان دهشة. لقد مضى أسبوع كامل وهو يعيش على حساءٍ باهت، بالكاد مملّح.
كان يظن أنّه سيأكل اليوم طبقًا مملًّا آخر.
“تشمّ الرائحة الطيبة، أليس كذلك؟”
منذ أن دخلت رنايا، لم تتحرّك عيناه عن الخبز.
ضحكت بخفة، فأدار رأسه بسرعة محاولًا إخفاء خجله.
فقط قبل بضعة أيام، لم يكن يقترب من الطعام أو حتى الماء. بدا كمن يرفض أيّ شيء يدخل جوفه.
عادة ما تظهر هذه الحالة عند من يتعرّضَ لصدمات شديدة.
لكن كما يُقال، الجهد لا يُخيّب.
بفضل إصرار رنايا خلال الأيام الماضية، عاد إليه بعضٌ من شهيّته.
أوّل أمس أنهى نصف الحساء.
وأمس أنهى الطبق كاملًا.
واليوم، أظهر اهتمامًا واضحًا بالطعام. وهذا تقدمٌ مُبهج.
“لم الخجل؟ من الجيد أن تستعيد شهيتكَ.”
[لم يحدثَ ذلك ، أنا لستُ خجلاً.]
“نعم، نعم، كما تقول.”
ناولته الشطيرة بابتسامةٍ مليئة بالدفء.
“تفضّل، كُل.”
قضم لقمة منها.
وحين بدأ يأكل، بدأت هي أيضًا في تناول إفطارها.
بعد أن أنهى طعامه، شرعت رنايا مباشرة في تفقد جراحه.
وكانت بالفعل تلتئم بشكلٍ واضح.
ربّما كانت الأعشاب مفيدة، لكنّ سرعة تعافيه كانت استثنائيةً أيضًا.
“بَذلتُ جُهدي قَدرَ المُستَطاع، لكنْ يبدو أنّ أثر الجُرح سيبقى.”
لم يُبالِ هيرديان أبدًا إنْ ترك الجرح ندبةً أم لا.
لكنْ رنايا لم تكن كذلك.
ظلّ وجهها حزينًا وهي تُبدّل الضمادةَ ببطءٍ.
قبل بضعة أيام، فقط أدركتْ كم يحمل جسده من الندوب.
ففي البداية، كانت إصاباته شديدة للغاية لدرجة أنّها لم تلحظ شيئًا آخر.
لكن الآن وقد أصبحت الجراح أخفّ، بدأت ترى الآثار التي تُثير الأسى في النفس، خاصّةً أنّها بدت وكأنّها بفعل شفرات حادّة.
‘كيف لإنسانٍ بوجهٍ وسيمٍ هكذا أن يُعامل جسدهُ بهذه القسوة؟’
رغم أنّ الجسد ليس جسدها، إلّا أنّ الندوب جعلتها تشعر بمرارةٍ ما.
حاولت ضبط تعابيرها، وأتمّت العلاج.
شعر هيرديان بأنّ جسده أصبح أخفّ قليلًا، فمدّ يده إلى الورقة والريشة وكتب سؤالًا:
[ألستِ مشغولة؟]
“…هل هذا يعني أنّ وجودي يُزعجك، وتريدني أن أغادر بسرعةٍ؟”
✧───── ⋆⋅☆⋅⋆ ─────✧
ستجدون الفصول دومًا متقدمةً لهذهِ الرواية في واتباد وقناة الملفات،
حَسابي واتباد : _1Mariana1
( حسابي السابق قد حُذف)
وستجدون إعلانات تنزيل الفصول قبل هيزو في الرابط المثبت أول التعليق ~ ❀
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 7"