“أ-أنا من عالجتُ جُرحكَ. اليوم أيضًا، كنتَ ممددًا على الطريق، فأحضرتُكَ مجددًا وبدّلتُ الضمادات بأخرى جديدة.”
اتّجهت نظرة هيرديان نحو الضمادة الملفوفة على جسده. كانت الضمادة التي تلطّخت بالدم سابقًا نظيفةً الآن.
“ثم… ألم ترَ الملاحظة؟ كتبتُ فيها أن تأكل حين تستيقظ.”
ظهر تغيّر طفيف على وجهه الوسيم. راح يُحدّق تارةً في الورقة الموضوعة على الطاولة، وتارةً في رنايا، قبل أن تتلوّى ملامحه من الاستياء.
وفي اللحظة التي همّ فيها بالكلام، تحسّس عنقه بشعور غريب وهو يحرّك شفتيه.
‘لِمَ لا يخرج صوتي…؟’
رغم أنّه كان فقط يتفحّص حال حنجرته، إلا أنّ ما رآه رنايا بدا وكأنه تهديد يقول:
‘أتُريدين أن يُقطع حنجرتكِ؟’
ومهما كانت شجاعتها، إلا أنّ تهديد الحياة يُرعب أيّ أحد. امتلأت عيناها بالدموع شيئًا فشيئًا.
“إن كان لديكَ أيّ سؤال، فقط اسألني. أضع يدي على قلبي وأجيبك بالصدق الكامل.”
“……”
“أقسم لك. لذا، هل يمكنك أن تُنزِل هذا…؟ أنا أعيش مع جدّتي المسنّة فقط. إن حصل لي شيء، فكيف ستعيش وحيدة…؟ أنا عائلتها الوحيدة ـ”
وقبل أن تنهار بالبكاء، أسكتها هيرديان بإشارة تطلب منها التزام الصمت، ثم حرّك شفتيه بصمت لينقل لها رسالته.
”اِهْدئي.'”
رغم أنّه نطق بكلمةٍ واحدة، إلا أنّ رنايا شعرت وكأنهُ قال: ‘إن أردتِ النجاة.’
هزّت رأسها بعنف، موافقة.
وحين هدأت رنايا، سحب هيرديان سيفه.
عندها فقط استطاعت أن تُفرج توتر جسدها وتُطلق زفيرًا عميقًا.
كانت عضلاتها تؤلمها من كثرة التشنج دون أن تدري.
كتب شيئًا على ظهر الورقة الموضوعة على الطاولة، ثم ناولها إياها. نظرت إليها بحذر لتقرأ:
[أين نحن؟]
كان خطّه أنيقًا ومُرتّبًا على عكس ما كتبته هي على الوجه الآخر.
فتحت رنايا فمها ببطء وقالت:
“نحن في قرية لوكلير وينادونها لوكلِ.”
[ما موقعها بالتقريب؟]
“في أقصى الجنوب. ضمن أراضي البارون إفردين.”
تنهد هيرديان ببطء وهو يعقِد حاجبيه. ارتبكت رنايا ظنًّا منها أنّ جوابها أزعجه. لكنه واصل الكتابة:
[كم مضى من الوقت منذ وصولي إلى هنا؟]
“هذا اليوم الثاني. لقد وجدتُكَ مغمىً عليك البارحة وأحضرتُكَ.”
[يجب ألّا يكون في أجوبتكِ أيّ كذب.]
“بالطبع. أُقسمُ، قلت الحقيقة فقط. ولا يوجد سبب يجعلني أكذب عليك.”
عيناها انجذبتا لا إراديًا نحو نصل سيفه، الذي بدا أكثر حدّة من سكاكين المطبخ.
حاولت أن تُثبّت نظراتها عليه، ثم قالت:
“أقفلتُ الباب فقط لأنني خشيت أن يُعثر عليك ممدّدًا في الطريق مرّة أخرى.”
[وما الخطر في أن يُعثر عليّ؟]
“سكان هذه القرية يتوجّسون من الغرباء كثيرًا. لو سبقني أحدهم إليكَ، لما عالجوكَ، بل رُبما تركوكَ فريسةً للوحوش البرية.”
تغيّرت ملامح هيرديان، وانقبضت قبضته على السيف.
عندها ارتجفت رنايا من الخوف، لكنّها واصلت حديثها بثبات:
“……إنّهُ الحَق.”
لكن صوتها كان أخفض من ذي قبل.
رمقها هيرديان بنظرة جانبية ثم كتب:
[أنا مدين لكِ. آسف على ما حدث قبل قليل. ظننت أنني محتجز بسبب الباب المقفول.]
رغم أنّ الرسالة كُتبت بلغة مهذّبة، فإنّ عينيه الباردتين حين رفع رأسه لم تعبّرا عن أيّ ندم.
نظرته كانت توحي بأنّها إن لم تقبل الاعتذار، فسيفه لن يتردّد في الانقضاض من جديد.
“……أنا أيضًا آسفة لأني أقفلتُ الباب. كان يجب أن أكتب ذلك ضمن الملاحظة.”
عقَد هيرديان حاجبيه مجددًا وهو ينظر إلى خطّها الرديء. حتى مع التركيز، لم يكن من السهل قراءة جملة “كُل حين تستيقظ”.
تساءل في نفسه إن كانت هذه القريةُ تستخدم نظام كتابة خاصّ بها، لكنه هزّ رأسه، رافضًا التعمق أكثر في شأن هذه البلدة الريفية.
أنزل الورقة، ثم مدّ يده إلى جيبه. لكن لم يجد شيئًا. لم يكن يملك شيئًا ذا قيمة بعد أن سقط من على الجرف وفقد كلّ شيء.
وبعد تردّد قصير، خلع زرًا من معطفه. “طقطق.” انقطع بسهولة.
“لِمَ الزرّ…؟”
[مكافأة. لن تكون كثيرة، لكنّها قد تُفيدكِ.]
تناولت رنايا الزرّ وهي تبدو مترددة. كان يبدو مصنوعًا من مادة غريبة، لكنها لم تشعر أنه ثمين.
“ما كان عليك أن تُعطيني شيئًا.”
لكن رغم كلامها، وضعت الزرّ في جيبها بعناية. في عامٍ كئيبٍ كهذا، كلّ قرشٍ ثمين.
وبالطبع، كانت تدرك أنّ هذا ليس مجرّد مكافأة، بل “رشوة صمت”.
عزمت في سرّها أن تأخذ هذا السرّ معها إلى القبر.
“هل سترحل الآن؟”
أومأ برأسه. تساءلت في نفسها إلى أين يذهب بجسدٍ منهكٍ هكذا، لكنها لم تسأله ولم تحاول منعه.
فحتى لو سألته، فلن يُجيب. ولو حاولت منعه، فلن تتغلّب عليه.
كان يتصرّف بعقلانية، لا كمن ظلّ يتأرجح بين الحياة والموت لأيام. لكن عينيه تقولان عكس ذلك.
سبق أن رنايا رأت نظرةً مشابهة لعينيه من قبل.
نظرة حيوان بري، جائع، على وشك أن يُصطاد بعد أن نزل إلى القرية في شتاءٍ قارس.
‘عَينان حزينتان… ومُتألّمتان.’
الوحش الكبير الذي خسر صغاره من شدة الجوع وبقي وحيدًا لم يكن بعقله.
رغم تمزّق جلده، لم يشعر بالألم، بل انقضّ على البشر كالمجنون.
حتى أنفاسه الأخيرة كانت مشبعةً بالكراهية.
كان هذا الرجل يكبح كراهيته بقوة إرادةٍ خارقة.
لكنه، حين يُقابل عدوه… سيغرز أنيابه في عنقه كالوحش.
ولأنها لا تعرف كيف تُروّض وحشًا غارقًا في الكراهية، قرّرت أن تدعه يرحل حين يريد.
“إذًا… اعتنِ بنفسكَ.”
خرج هيرديان من المخزن دون تردّد. ومع ابتعاد صوته، خفّ توتر الأجواء أخيرًا.
جلست رنايا على الكرسي بتعبٍ وأطلقت زفيرًا عميقًا.
رغم أنّ ما حدث بينهما كان بضع جمل فقط، إلا أنّ جسدها كان مُنهكًا بالكامل.
صدق مَن قال:
“البشر أخطر من الأشباح أو الحيوانات.”
ارتعشت حين تذكّرت عينيه الزرقاوين التي بدت مخيفة حتى في الظلام.
نظراته لم تكن موجّهة لها، لكنها كانت كافية لتُقشعرّ منها.
مسحت ذراعيها بيديها وهزّت رأسها لتطرد الأفكار السوداء.
لا وقت لهذا الآن. يجب أن تنظّف وتعود إلى البيت لترتاح.
وفي اللحظة التي همّت فيها بالوقوف مجددًا…
“طح.”
صدر صوت من خلف الباب الموارب. مدّت رأسها بحذر لتنظر.
وكما توقّعت… لقد سقط مجددًا فاقدًا للوعي. للمرة الثالثة.
نظرت إليه بوجهٍ مليء باليأس.
‘هذا الرجل… يحتاج إلى الكثير من الرعاية.’
لحسن الحظ، استعاد هيرديان وعيه مجددًا بعد ساعتين في المخزن.
حين رأى السقف البالي الذي اعتاد عليه، تنهد بعمق.
رنايا، التي كانت تطحن الأعشاب إلى جانبه، سمعته، فسارعت بالاطمئنان عليه.
“آه، بدأتَ تستعيد وعيكَ؟”
أومأ بهدوء وحوّل نظره عنها. لم يشأ أن يلتقي عينيها في هذه اللحظة.
‘متى أصبح جسدي هكذا…؟’
لقد سقط مغشيًا عليه مرتين في يومٍ واحد. لم يعرف هذا الجسد يومًا بهذه الهشاشة.
رنايا هزّت رأسها نفيًا مرارًا، ثمّ ناولتْه حساء البطاطا الذي كانت قد سخّنته مسبقًا. انتشرت منه رائحة طيبة في الأرجاء.
“تفضّل، كُل هذا أولًا. أنتَ لم تأكل شيئًا منذ البارحة.”
“…….”
“إن لم تأكل، سيُغمى عليك مجددًا.”
ما إن سمع هيرديان جملة “سيُغمى عليك مجددًا” حتى رفع جزعه العلوي تلقائيًّا.
لكن الألم الشديد الذي اجتاحه جعله يبتلع تأوّهًا بين أسنانه.
ورغم أنّه لا يريد الاعتراف بذلك، إلا أنّه إن لم يتناول شيئًا الآن كما قالت هذه المرأة الغريبة، فربّما يُغمى عليه مرةً أخرى فعلًا.
راح يُحدّق في حساء البطاطا بعينين مليئتين بالحذر. قد يبدو آمنًا من الخارج، لكن من يدري؟ لعلّه يحتوي على سُمّ.
وبما أنّه لا يأكل بسهولة من طعام يُحضّره غرباء، فقد دخل في مواجهةٍ طويلة مع الحساء، متبادلًا النظرات معه.
“لو كان من الصعب عليك أن تأكله، يمكنني مساعدتك.”
تجعّدت المسافة بين حاجبي هيرديان بعمق. وإن رفض، فهذه المرأة ستُطعمه عنوة على الأرجح.
اضطرّ على مضض إلى أخذ أوّل ملعقة. رغم الرائحة الشهية، كان الطعم باهتًا ومائيًّا.
“تعمّدتُ أن أُقلِّل التوابل. عليك أن تأكله كلّه.”
رغم وجهه الذي بدا بوضوح غير راضٍ، تجاهلت رنايا ذلك تمامًا، وواصلت طحن الأعشاب الطبية.
في ذلك المستودع الهادئ، لم يكن يُسمَع سوى صوت الدقّ المتقطّع.
‘هذه المرأة… أليست مختلفة قليلًا عن قبل؟’
قبل قليل بدت كغزالةٍ مذعورة. أمّا الآن، فصارت تشبه غزالة عصبيّةَ الطبعَ.
✧───── ⋆⋅☆⋅⋆ ─────✧
ستجدون الفصول دومًا متقدمةً لهذهِ الرواية في واتباد وقناة الملفات،
حَسابي واتباد : _1Mariana1
( حسابي السابق قد حُذف)
وستجدون إعلانات تنزيل الفصول قبل هيزو في الرابط المثبت أول التعليق ~ ❀
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 6"