كلّما كنتُ أذهبُ وأعودُ من مزرعةِ التفاح، كانت رنايا كثيرًا ما تمرُّ على منزلِ رينولد لتُجري حديثًا قصيرًا معه.
رغم أنَّها رفضت عرضَ أنْ تكونَ مساعدةً، إلّا أنَّها لم تستطع رفضَ دعوةِ صديقٍ لها لزيارة المنزلِ كثيرًا.
كان منزلُ رينولد يثيرُ إعجابها في كلّ مرّة تزورهُ فيها.
‘كنتُ أظنُّ أنَّ لديّ معرفةً كثيرةً بالأعشاب الطبية، ولكنَّ منزله كان يحتوي على أعشابٍ لم أرَها من قبل.’
“من أين تحصل على كلّ هذه الأشياء؟”
“طوال الوقت كنتُ أتجوّلُ في مناطقَ مختلفةٍ لأجمعها. وبعضها ما زالت قيد البحث لأنّ تأثيرها لم يُعرف تمامًا بعد.”
كنتُ أعرفُ منذ الصغرِ أنَّه ذكيّ، لكنّني شعرتُ فعلاً أنّه طبيبٌ الآن.
ذلك الفتى الذي كان دائمًا يقطرُ أنفُه ويخجلُ، أصبح رجلًا ناضجًا وهذا مدهشٌ حقًّا.
بينما كنتُ أتفقدُ الأعشابَ بسرعةٍ، توقفتُ فجأةً عند عشبٍ طبيّ يتوهّجُ بضوءٍ أزرق خافت.
كان العشبُ المعروفُ باسم “رونيل”.
رونيل عشبٌ شائعٌ وسهلُ الحصولِ عليه، ويُستخدمُ في الكثيرِ من الوصفات الطبية، وهو فعّال جدًا.
لو لم تكن ليليا تُظهرُ مقاومةً له، لكان قد أثّر منذ زمن.
“قلتِ إنَّ الطفلةَ كان لديها مقاومةٌ لرونيل، أليس كذلك؟”
هزّت رنايا رأسَها.
حين أتذكرُ كيف كانت حمى ليليا لا تهدأ، أشعرُ بقلبٍ ينهار.
“يقال إنَّ رونيل ضروريٌّ للأمراضِ المعدية، كيف صَنعتِ الدواءَ بدونِه؟ حتى الأطباء المخضرمون لا يعرفون.”
“قبل سنةٍ تقريبًا، قابلتُ مريضةً لم تستجب لرونيل. أثناء بحثي عن طريقة تصنيعٍ تناسبها، اكتشفتُ طريقة جديدة.”
كلما طالَ الحديثُ، زادَ تعبيرُ رنايا قتامةً، فحاول رينولدُ بسرعةٍ تغيير الموضوع.
“آه، تذكرتُ، اسمُ تلك المريضةِ كان مثلكِ بالضبط. كان غريبًا أن أرى شخصًا تحمل نفسَ اسمك.”
“……حقًا؟”
شخصٌ يحمل نفس اسمي.
وشخصٌ مثل ليليا، لا تستجيب لرونيل على الإطلاق.
رغم اتساع العالم وتنوّع الناس، كان هذا تزامنًا عجيبًا.
حين بدأتُ أفتحُ فمي لأتساءل عن تلك المريضة، جاء صوتٌ من الخارج مقطعًا كلامي.
“هل الطبيب موجود؟!”
أنهى رينولد حديثه بسرعةٍ واستعجل استقبال المريض.
“نعم، آتٍ!”
حاولتُ جاهدًا أن أُبعدَ أفكارًا سلبيةً تطرأ عليّ.
رغم أنَّ الأشخاصَ الذين لديهم هذا النوع من التركيب نادرون، إلّا أنَّ التفكير بأنَّ تلك المريضة كانت سيلين كان مجرد تخمينٍ مفرطٍ.
‘…لا بدَّ وأنَّها ليست كذلك.’
في ذلك الوقت، بالقرب من منزل رينولد، كان ظلّان مشبوهان يتحرّكان.
ظلّ كبير وظلّ صغير دخلا إلى الزقاق يراقبان منزل رينولد.
الظلُّ الكبير كان هيرديان، والظلُّ الصغير كان ليليا.
كان الاثنان يرتديان قبعةً، ووشاحًا، ونظاراتٍ تُخفي ملامحهما.
تحدّثا بصوتٍ منخفضٍ بحيث لا يسمعه إلا بعضهما البعض.
“عمي، هل قررت ألا تخفي بعد الآن حبكَ لأمي؟”
“……”
“غيظكَ من الطبيب واضح جدًا.”
“لماذا هو الطبيب وأنا عمكِ؟ الفرق في العمر ليس كبيرًا.”
“الطبيب هو الطبيب، وأنتَ بلا وظيفة.”
ردّت ليليا بلا مبالاة وخلعت القبعة التي كانت ترتديها في محاولة تنكّر.
كانت قد خرجت وهي متحمسة متنكّرة، لكنها أدركت أنَّ التنكّر لن يجعلها تسمع ما يُقال داخل المنزل، لذا فقد شعرت أنّ الأمر بلا جدوى.
في النهاية، استسلمت ليليا للملل وجلست على كرسي قريب.
نظرت إلى هيرديان بنظرة ازدراء، وهو الذي كان لا يزال يتصرّف بشكل مشبوه.
“عمي، اجلس فقط. حتى لو فعلت هذا، لن تسمع صوت أمي.”
شعر هيرديان بالحرج، وخلع قبعة التنكّر والنظارات وجلس بجانبها.
“هاه…”
تنهد الاثنان في آنٍ واحدٍ.
رغم أنّهما يتحرّكان معًا، إلّا أنَّ همومهما مختلفةٌ إلى حدٍّ ما.
كان هيرديان قلقًا من الطبيب الذي هو صديق رنايا وأول حب له.
لقد تبعها لأنه كان يفكر فيها كثيرًا.
لم يعجبه أمر وجودها مع رجلٍ آخر غيره.
‘…هناك كثير من الأشخاص الخطيرين في العالم، فمن الطبيعي أن أقلق. كيف يمكنني معرفة إن كان هذا المظهر مجرد خداع؟’
بينما كان هيرديان يبرر شعوره لنفسه، كانت ليليا غارقة في قلق مختلف.
يتعلق الأمر بمن تُحب والدتها.
كانت لا تزال تعارض فكرة وجود أب جديد، لكنها كبرت قليلًا وأصبحت مستعدة لقبول إن كان لوالدتها شخصٌ تُحبّه حقًا.
المشكلة كانت مَن هو ذلك الشخص الذي تُحبّه أمها؟
كانت ليليا قد لاحظت بسرعة مَن هو البالغ الذي يولي والدتها اهتمامًا.
‘ عمي أم الطبيب… مَن تُحب أمي منهما؟’
رغم أنَّها خرجت متنكّرة لتعرف الجواب، إلّا أنها لم تحصل على أي معلومة.
بل شعرت بالتعب والضيق.
‘لماذا يجب على ليليا أن تقلق بشأن هذا؟’
رغم تفكيرها في ألا يكون هناك أب، كانت تذكّرها الحادثة التي حدثت منذ بضعة أيام تزيل بعض هذا الغضب.
في اليوم الذي دخلت فيه إلى القصر بحجة البرد، تجسّست ليليا على والدتها وهي تتنزّه مع هيرديان بالقرب من النافذة.
لم تستطع سماع ما يقولانه بوضوح، ولكنّ ابتسامة والدتها كانت واضحة من بعيد.
هناك مَن يجعل والدتها تبتسم غيرها.
‘…أدرك الآن. وجود أب لا يعني أن أمي ستتخلّى عني. أمي تُحبّني.’
الطبيب كان شخصًا طيبًا عالجني، لذا لم يكن لديّ مشاعر سيئة تجاههُ.
لكنني كنت أريد أن أقف إلى جانب هيرديان، لأنه هو الذي يجعل أمي تبتسم.
بعد ترتيب أفكارها المعقّدة، نزلت ليليا عن الكرسي وأخذت نفسًا عميقًا.
ثم وضعت يديها على خصرها وقالت:
“عمي، لا أحب وجود أب، لكنني سأساعدكَ قليلًا لأنني أريد أمي أن تبتسم كثيرًا.”
ماذا يعني ذلك؟
أدرك هيرديان معنى كلام ليليا فقط بعد أن عاد إلى القصر.
“أمي، ليليا ستنام اليوم مع عمها.”
“……ماذا؟”
سمعت رنايا هذه الكلمات وهي تستعد لإطفاء النور والنوم، فتجمّد قلبها.
“الأطفال الطيّبون يجب أن يناموا الآن منفصلين عن أمهاتهم. لذلك ستنام ليليا مع عمو بدلًا من أمي.”
يبدو أنها تشير إلى حديث النوم المنفصل الذي تشاجرت فيه مع هيرديان سابقًا.
لكن النوم المنفصل يعني أن تنام وحدكَ، أليس كذلك؟
هل من معنى أن نغيّر فقط الشخص؟
قبل أن تردّ رنايا، قالت ليليا ببساطة:
“تصبحين على خير يا أمي!”
ثم أخذت ديفيد وخرجت من غرفة النوم.
كانت غرفة النوم خاوية.
رغم أن صوت خطوات الطفل لم يعد يُسمع، إلّا أنَّ رنايا لم تستطع استعادة توازنها بسهولة.
“……”
لم يكن أمامها خيار سوى إطفاء الشمعة والاستلقاء على السرير وحدها.
غطّت نفسها بالغطاء وأغلقت عينيها، لكن من الطبيعي ألا تغفو.
‘كم مرّ وقتٌ منذ أن نمتُ وحدي؟’
منذ أن عشتُ مع ليليا، كنا دائمًا ننام معًا.
مرت سنتان على ذلك.
في البداية كان الأمر غريبًا، لكن الآن الغياب عنها يبدو غريبًا.
دفء الجلوس بجانبها كان مفقودًا، فحتى لو عدّيتُ إلى الألف، لم يغمرني النعاس.
فقامت رنايا ورفعت الجزء العلوي من جسدها.
“سأذهب فقط لأتأكد من أنها نائمة.”
ربما تبكي لأنها تشتاق إلى أمها.
لبست رنايا معطفًا وتوجّهت إلى غرفة هيرديان.
كانت تعرف أن دخول غرفة رجل في وقت متأخر أمرٌ غير لائق، لكن قلقها على الطفلةِ كان أكبر.
أدخَلت الباب بهدوء وابتعدت متحاشيةً لإحداث صوت.
اقتربت من السرير بحذر.
تحت ضوء القمر الأزرق الذي دخل عبر النافذة، كان الاثنان نائمين بسلام.
بل إن ليليا كانت تضع قدمها على هيرديان وتتنفّس بعمق وهي نائمة بسلامٍ عميق.
‘…تنام بشكلٍ أفضل مما توقعت.
كانت ليليا طفلًا لا ينام جيدًا إلا بجانبي.
حتى لو نامت مع جدتها، كانت دائمًا تستيقظ في الصباح الباكر لتزحف إلى غطائي.
كنت أتوقع أن تفعل ذلك هذه المرة أيضًا، لكن لم يحدث شيء من ذلك.’
‘شعورٌ غريب.’
رغم سروري بنمو طفلتي، كانت هناك دائمًا لحظات حزن.
خفضت رنايا ساق الطفل وغطتها بالغطاء جيدًا، ثم وضعت جسدها في الفراغ بجانب السرير.
الآن، حتى لو عدتُ لن أنام بسهولة، سأبقى أراقب وجه ليليا قليلاً قبل أن أرحل.
كانت أصوات الشخير هادئة ومريحة.
عندها فقط، شعرت رنايا بالراحة النفسية وأغلقت عينيها.
‘الجميع يقولون إن ليليا تعتمد علي كثيرًا، لكن…
يبدو أن الأمور خرجت عن السيطرة.
يبدو أنني أنا التي تعتمد أكثر على طِفلتها.’
✧───── ⋆⋅☆⋅⋆ ─────✧
ستجدون الفصول دومًا متقدمةً لهذهِ الرواية في واتباد وقناة الملفات،
حَسابي واتباد : _1Mariana1
( حسابي السابق قد حُذف)
وستجدون إعلانات تنزيل الفصول قبل هيزو في الرابط المثبت أول التعليق ~ ❀
التعليقات