نامت ليليا لأكثر من نصف يوم، وعندما أصبح النهار في اليوم التالي بدأت تستعيد بعضاً من قوتها.
بعد أن أفرغت طبق الحساء الدافئ بالكامل، احتضنت دايفيد بقوة إلى صدرها.
“دايفيد، هل كنت قلقاً عليَّ كثيراً؟ أنا آسفة.”
“…….”
“عندما أتعافى تماماً، سأغسلك وألبسك الملابس.”
أعطت رنايا نظرة غير راضية إلى دمية الأرنب دايفيد.
من المؤكد أنه لم يمضِ وقت طويل على تنظيفها… كيف أصبحت هكذا متسخة؟
بدا أن الدمية أصبحت قذرة بسرعة لأن الطفل كان يحملها في كل مكان.
كان هناك شعور قوي في داخلها بأنها ترغب في انتزاع الدمية منها وغسلها جيداً بالصابون، لكنها تراجعت.
كانت ليليا تعتبر الدمية صديقة لها، وربما تبكي إذا أخذتها منها.
قررت ألا تتابع النظر إليها. سيكون ذلك أفضل لسلامة قلبها.
وبذلك، تجاهلت رنايا الدمية.
“أمي، هل تعلمين؟ لقد حلمتُ حلماً أمس.”
“ماذا كان الحلم؟”
“حلمت أنني أصبحت طويلة مثل أمي!”
“هل كان حلم أن تصبحين بالغة؟”
“نعم، صحيح!”
ليليا البالغة. من الطبيعي أن يمر الإنسان بمرحلة الطفولة ثم يصبح بالغاً.
ومع ذلك، شعرت رنايا بتفكير غريب في عقلها، حيث بدا لها أن ليليا ستظل طفلة إلى الأبد.
ربما لأن ليليا لم تظهر في الرواية كإنسانة بالغة، كان من الصعب تصوّر ذلك.
“وكان لدى ليليا أخ أيضاً.”
في تلك اللحظة، كادت رنايا أن تسقط الطبق الذي كانت تنظفه.
ما الذي حدث في ذلك الحلم حتى يظهر أخ غير موجود في الواقع فجأة؟
“حقاً؟”
“نعم. ولهذا فكرتُ ليليا أنه حتى لو لم يكن هناك أب، فسيكون من الجميل أن يكون لديها أخ.”
وعندما قالت “حتى لو لم يكن هناك أب”، توجهت ليليا بنظراتها نحو هيرديان الذي كان يقف بجانبهم.
لقد كان يستمع إلى الحديث بين الأم وابنتها بصمت، وعبرت عن دهشته بمظهره.
“ليس ضرورياً وجود أب.”
أكَّدت ليليا مرة أخرى أنها لا تحتاج إلى أب.
ولكن التفكير في كيفية الحصول على أخ دون أب لم يكن بالأمر السهل…
رنايا فهمت أن هذه فكرة يمكن أن تراود ذهن الأطفال البراء، لكنها كانت في حيرة من أين تبدأ التصحيح.
وضعت يديها على جبينها.
تخيلت رنايا للحظة نفسها في دور الأم لطفلين.
شعرت بالإرهاق لمجرد تخيل هذا، وحركت رأسها برفق.
“كان الأخ في الحلم لطيفاً جداً.”
“….”
“سأفكر في الأمر. ليليا تحتاج إلى مزيد من النوم، لا تزال تعاني من حرارة طفيفة.”
“نعم.”
استلقت ليليا على السرير. كانت لا تزال ترغب في اللعب، ولكن الحرارة الزائدة جعلتها تشعر بالنعاس.
بينما كانت ليليا تغرق في نوم عميق، قامت رنايا بتغطيتها بالبطانية وأخذت الطبق الفارغ متوجهةً إلى الخارج.
تبعها هيرديان، وأغلق الباب برفق وراءه. كانت زاوية فمه ترفع قليلاً بابتسامة خفيفة.
“هل تفكرين في الأمر؟”
“لقد قلتُ ذلك فقط.”
رنايا لم تكن سعيدة إطلاقاً بالحديث عن الأخ. تنهدت قليلاً وفتحت عينيها بعينين ضيقتين.
“من الأفضل أن تذهب الآن. لقد ساعدت بما فيه الكفاية.”
“ما زال هناك بعض العمل.”
“….؟”
قراءة عينيها دفعته لابتسامة خفيفة.
“أولاً، دعينا نأخذ قسطاً من النوم.”
رنايا لم تستطع إلا أن تشعر بالاشمئزاز من تصريحاته الفاحشة، أو رُبما فقط أفكارها من كانت كذلكَ
حاولت أن تتجاوز هيرديان بسرعة، لكنه انتزع الطبق الذي كان في يده وأحاطت يديهِ بها.
“ماذا تفعلُ؟!”
“ششش. كفّي عن الكلام. ماذا لو استيقظت ليليا؟”
“ما الذي يجعلكَ تظن أنه يجب عليكَ حملي؟”
“لِمَ لا؟”
تمسك هيرديان برنايا بشدة ولم يسمح لها بالتحرك. حاولت التملص، لكن قبضته كانت أقوى، ففشلت محاولاتها.
هكذا، حملها على ظهره وانطلق بها إلى غرفة نومه.
كان هذا أول مرة تدخل فيها غرفة نومه.
نظرت حولها بدهشة. كانت تشبه غرفة الضيوف التي تستخدمها، ولكن أكبر قليلاً وأقل تجهيزاً.
بسرعة، وضعها على السرير وأغطاها بالبطانية حتى كتفيها. نظرت إلى السقف بحيرة، غير قادرة على تصديق ما حدث.
“نحن في منتصف النهار.”
“أعرف.”
“وأنتَ تطلب مني النوم في هذا الوقت؟”
أغلق هيرديان الستائر، مما جعل الغرفة تصبح مظلمةً في لحظة.
لم تزل رنايا مندهشة من تصرفاته، فبدأت تشعر بالضيق.
“هل يمكنكَ أن تشرح لي ما الذي يجري؟”
“قلتُ لكِ بالفعل. دعنا نأخذ قيلولة معاً.
بما أنك تشاركين ليليا غرفتها، لن تتمكنين من النوم بشكل مريحٍ معها هكذا.”
اقترب منها مجدداً، وجلس بجانب السرير. مد يده وغطى عيني رنايا.
“رنايا، هل لم تلاحظي نفسكِ في المرآة منذ الأمس؟”
“….”
“من المدهش أن ليليا لم تندهش. أي طفل آخر كان سيصرخ.”
على الرغم من أنها كانت متعبةً للغاية بعد ليلة بلا نوم وعدم تناول الطعام، فإن رنايا شعرت أنها بخير، على الرغم من مظهرها الممزق.
“ليليا لم تتعاف تماماً بعد…”
“إن كنتِ تنوين السهر لحراسة ليليا، فسأتولّى ذلك.”
“لا، دَعْكَ. سأفعلها بنفسي.”
“أنا سأراقبها. أريدكِ أن تنامي.”
رنايا لم تكن تريد النوم. رغم أن السرير كان مريحاً، إلا أن المكان غير مألوف لها.
لكن يد هيرديان على ظهرها كانت تهدئها تدريجياً، وكان النوم يقترب منها.
ربما كانت هذه اليد تحمل شيئاً مميزاً.
تراخت مقاومة رنايا، وسرعان ما غطت في نوم عميق.
“…. نمتِ بسهولةٍ، لكنكِ أصررتِ على الرفضِ.”
لو كانت تهتم بنفسها قليلاً، كما تهتم بليليا، لكان الأمر أسهل.
لكنها كانت عادةً تهمل نفسها، مما جعل الآخرين يتكفلون بمسؤولية العناية بها.
كان التعب مرسوماً على وجه رنايا.
بعناية، مسح هيرديان حول عينيها برفق، ثم خرج من الغرفة.
عند الباب، كان سيرف ينتظره، وأومأ له بتحية.
“سيدي.”
اتجه هيرديان إلى غرفة ليليا وأخذ تقرير سيرف بوجه جامد.
“كما توقعت، تم اكتشاف تحركات رجال ليبيد بالقرب من الحدود. من المؤكد أنهم يخططون للسيطرة على المناجم الجوفية هناك.”
“……هل أصاب عمّي الخَرَف أخيرًا؟”
كانت المناجم الجوفيّة عند الحدود قد أُغلقت تمامًا منذ انتهاء الحرب، بحيث مُنع الجميع من استخدامها.
حتى العائلة الإمبراطورية لم يكن مسموحًا لها أن تمسّها، فما بال عمّه يحاول مدّ يده إليها؟ ذلك لا يعني خرق القانون فحسب، بل إعلانًا للحرب أيضًا.
كان يعرف أنّ أوضاع عائلة روتشستر الماليّة بدأت تهتز شيئًا فشيئًا.
فهو نفسه كان يتعمّد أن يُسقط المشاريع التي يشرع فيها الكونت باسم طرف ثالث واحدًا تلو الآخر.
من وجهة نظره، لم يكن ذلك سوى استرجاع لما سُلب منه، لكن بالنسبة للطرف الآخر الذي يخسر دون أن يفهم السبب، فلا بدّ أنّ القلق والتوتّر يزدادان.
مع ذلك… لم يصدّق أنّ ذلك الأحمق، عمّه بالذات، سيحاول سدّ عجزه المالي عبر المناجم المحظورة.
“ألا ينبغي لنا أن نسبقهم بالتحرّك قبل أن يتحرّكوا؟”
“……نعم، لا بدّ من ذلك.”
كان الموقف مهدّدًا بالتطوّر إلى حرب، وهذا ما جعله مزعجًا للغاية.
ابتلع ضيقه وأرجع خصلات شعره إلى الوراء بيده.
شعر بقوّة أنّ الأيّام القادمة ستحمل أعباءً أثقل.
“ثمّ إنّ هناك من حاول تتبّع أخبار السيّدة فيليت والطفلة ليليا. بل تتبّعوا خطواتك منذ الحفل أيضًا.”
“……”
“لكن حين قبضنا عليه واستجوبناه بشأن مَن يقف خلفه… انتحر على الفور.”
“لا بدّ أنّها من صنيعة عمّي… أو أخي.”
فمن غيرهما سيسعى إلى التجسّس على رجاله؟
“كن حذرًا. لا تسمح بتسرّب ولو ذرة واحدة من المعلومات.”
“أمركَ يا سيّدي.”
أنهى سيرف تقريره وانحنى برأسه احترامًا.
* * *
“إن كنتِ تنوين السهر لحراسة ليليا، فسأتولّى ذلك.”
“لا، دَعْكَ. سأفعلها بنفسي.”
“أنا سأراقبها. أريدكِ أن تنامي.”
تذكر انهُ قد وعد رنايا بكلّ ثقة، لذا كان عليه أن يفي بما قاله.
أشار إلى سيرف بأن ينصرف، ثم دخل الغرفة التي كانت ليليا نائمة فيها.
حتى تلك اللحظة، لم يعتبر مسألة رعاية الطفلة أمرًا صعبًا.
فهي في طور التعافي، وكلّ ما يلزمه هو تبديل قطعة القماش المبلّلة على جبينها بين الحين والآخر، أليس كذلك؟
لكن لم يمضِ وقت طويل حتى أدركَ كم كان ساذجًا ومتهاونًا.
لَمْ تجرؤ رنايا أن تُغمِض عينيها للحظةٍ عندما اعتنت ب ليليا، فكلّما غفلت قليلًا ارتفعت حرارة ليليا وبدأت تتقيّأ.
لهذا السبب، لَمْ يستطع هيرديان أن يغمض عينيه طوال الليل، بل بقي بجانب الطفلة حتى اليوم التالي.
وبعد ثلاثة أيام، شُفيت ليليا تمامًا وكأنها لم تمرض قط.
خافوا من أن تترك الحُمّى أثرًا عليها، لذا أخذوها إلى الطبيب للفحص.
لكن الطبيب قال باطمئنان: “إنها أقوى من باقي الأطفال في عمرها.”
حينها فقط استطاعت رنايا أن تتنفس الصعداء.
وبعد أن ارتاحت قليلًا، حملت سلّة من الفاكهة وتوجّهت إلى منزل الطبيب الشاب.
اتّضح أنّه طبيب لم يمضِ وقت طويل على استقراره في بيرماوين، وقد أنهى فترة التدرّب حديثًا.
“……هل هذا هو المكان؟”
كان منزل الطبيب في أطراف القرية.
رأت دخانًا يتصاعد من المدخنة، فطرقت الباب.
وسرعان ما جاءها صوت من الداخل:
“نعم، تفضّلي بالدخول!”
ما إن دخلت، حتى اجتاح أنفها عبير الأعشاب الطبيّة.
كانت الأعشاب مكدّسة في كل مكان يصل إليه البصر.
يبدو أنّ الطبيب كان يصنع دواءً، فقد ظهر وهو يغطي فمه وأنفه بقطعة قماش.
قال معتذرًا:
“آه، أنا في وسط إعداد الدواء، لذا الرائحة قويّة بعض الشيء. لكن، من تكونين…؟”
“أردتُ أن أشكركَ يا سيدي الطبيب. لقد أنقذتَ حياة ابنتي.”
“آه، الطفلة التي أصابتها الحُمّى إذن… يبدو أنّها بخير الآن بما أنكِ جئتِ بنفسك. هذا حقًّا خبر جيّد.”
“هذه هديّة شكر بسيطة، أرجو أن تقبلها.”
أخذ الطبيب سلّة الفاكهة وانحنى قليلًا قائلًا:
“سآكلها بامتنان، شكرًا جزيلاً.”
“إذًا، أتمنى لك يومًا سعيدًا.”
وقبل أن تغادر رنايا بعد أن أنهت زيارتها، تردّد الطبيب قليلًا ثم استوقفها:
“أوه… عذرًا، لكن…”
“……”
“ألا تشعرين أنّنا… التقينا في مكان ما من قبل؟”
✧───── ⋆⋅☆⋅⋆ ─────✧
ستجدون الفصول دومًا متقدمةً لهذهِ الرواية في واتباد وقناة الملفات،
حَسابي واتباد : _1Mariana1
( حسابي السابق قد حُذف)
وستجدون إعلانات تنزيل الفصول قبل هيزو في الرابط المثبت أول التعليق ~ ❀
التعليقات