تسلَّل ضوءُ القمر من بين الستائر إلى غرفة النوم.
تأوَّه كاين وهو يتقلَّب طويلًا، قبل أن ينهض فجأة جالسًا.
كان جسده رطبًا من العرق الذي سال أثناء نومه.
رفع يده إلى جبينه بغيظ.
“……تبًّا.”
منذ لحظة رحيل سيلين وحتى الآن، لم يتوقَّف كاين عن رؤية الأحلام.
أحلامٌ تظهر فيها سيلين دائمًا.
محتوى الحلم كان يختلف كل مرة.
في أحد الأيام، لم يرَ منها سوى ظهرها، وفي يوم آخر، بكت أمامه بحرقة.
بل إن يومًا تصرَّف معها فيه بقسوة كان يعود ليتجسَّد في عينيه.
واليوم، كان الحلم مختلفًا.
رأى سيلين في الحلم تُبدي غيرةً من سيدة حاملٍ التقت بها صدفة.
خلال سنةٍ واحدة من زواجهما القصير، كانت سيلين تتمنّى إنجاب طفل.
حتى أنّها في إحدى الليالي تجاسرت على المجيء إلى حجرته.
لكن بعد أن أخبرها الطبيب أنّ الحمل سيكون صعبًا عليها، تخلَّت عن الفكرة.
‘لِمَ أرى حلمًا كهذا…….’
تذكَّر فجأةً الطفلة التي رآها في الحفلة.
قالوا إن اسمها ليليا.
كانت لا تشبه والدتها التي كانت تقف بجوارها، حتى راوده الشك في كونها ابنتها فعلًا.
‘ليليا في السابعة من عمرها.’
ظلَّت صورتها محفورةً في ذاكرته وهي تجيب بوضوحٍ تام.
الأطفال عادةً ما يتجنَّبون النظر في عينيه، لكن تلك الطفلة، رغم خوفها من الغريب، لم تحوِّل بصرها عنه.
كانت عيناها بلون الجمشت، تلمعان كالجواهر.
لو أنّ سيلين حبلت حينها، ألن يكون طفلها قد بلغ العمر نفسه الآن؟
ابتسم بسخرية، مدركًا أنّه لا بد أنّه لم يصحُ تمامًا بعد، لذا تراوده أفكارٌ فارغة.
بالنسبة له، لم يكن ضروريًّا أن يكون بينه وبينها طفل.
إن كانت ترغب في طفلٍ حقًا، فبإمكانها أن تتبنَّى.
فالطفل لم يكن يعني شيئًا يُذكَر لكاين.
ابتلع غيظه ونهض من السرير.
خلع قميصه ليدخل الحمام ويغتسل من البلل العالق بجسده.
لا يزال يشعر بانزعاج، وكأن رائحة الدم ما زالت عالقة به.
أُسدل ستارُ حفلة عيد ميلاد الكونت ليبيد روتشستر على وقع حادثةٍ صغيرة.
ففي فجر ذلك اليوم، عُثر على جثة أحد النبلاء، الذين حضروا الحفل، في شارعٍ مهجور.
لكن لم يجرؤ أحد على البحث في أسباب موته، ودُفن الأمر في صمت.
رفعت رنايا رأسها من بين التراب الذي لطَّخ وجهها، بعد أن تأكَّدت أنّ العمل قد شارف على الانتهاء، فألقت نظرة على ما حولها.
بدا مشهد شتلات أشجار التفاح الصغيرة، المغروسة في صفوف متقاربة وسط جبلٍ ثلجي، مشهدًا لطيفًا.
منذ أن عادت إلى بيرماوين بعد حفلة العاصمة، بدأت رنايا مباشرةً سلسلة من الأعمال.
كانت قد طلبت مسبقًا من هيرديان أن يجلب لها شتلات التفاح من قرية لوكلير، فزرعتها في مكانٍ مشمسٍ وواسع، هو الأكثر استقبالًا للضوء في الجبل الثلجي.
غطَّت قاعدة الشتلات بالقش حتى لا تتجمَّد.
وبما أنّها كانت قد قلَّبت التربة مسبقًا وهيَّأتها، لم يكن هناك خوف من مشاكل الصرف.
“يا للعجب…… لم أتخيَّل يومًا أنني سأزرع في بيرماوين.”
حين أخبرتهم بنيَّتها في زرع التفاح وسط الجبل الثلجي، نهتها أرسلينا مؤكِّدة أنّ الأمر مستحيل، وأن الأشجار ستموت قبل أن تكبر.
لكن الأشجار بقيت حيَّة.
بل ومع مرور الأيام، ازدادت تجذُّرًا وثباتًا، ما جعل الجميع مذهولين.
لم يقتصر الأمر على أرسلينا وحدها، فكل سكان بيرماوين أبدوا دهشتهم نفسها.
“كيف يكون هذا ممكنًا؟”
“صحيح أن القرية لم تكن أرضًا صالحة للزراعة، لكن الجبل كان مختلفًا.
ثم إن أشجار التفاح التي كانت في قريتي تتحمَّل البرد الشديد، وكل ما تحتاجه هو أشعة الشمس.”
ساعدها سكان القرية قليلًا، لكن ما يزيد على 80% من العمل أنجزته بمفردها.
بمجرد معول، هيَّأت الأرض الواسعة وزرعت الشتلات بمسافاتٍ متساوية.
لم يكن لدى أهل القرية خبرة بالزراعة، فاقتصر دورهم على وضع سورٍ لحماية المزرعة من الحيوانات البرية.
“صحيح أنّنا لن نحصد شيئًا الآن، لكن بعد عامين أو ثلاثة ستكبر الأشجار وتثمر.”
كان أمرًا غريبًا أن ترى أشجار التفاح، رمز قرية لوكلير، تنمو في شمال بيرماوين البعيد.
شعرت رنايا بالرضا وهي تتأمل مزرعة التفاح الصغيرة وهي تترسَّخ في مكانها.
“كيف دخلت نعمة كهذه إلى قريتنا؟”
في تلك اللحظة، أتى بارتان لزيارة المزرعة، فربت على كتفها شاكراً.
كان قد أنهى للتوّ إصلاح بيوت السكان استعدادًا للعاصفة الثلجية.
وقد أصبح الآن يتحدث معها بأريحية، بعد أن اعتاد عليها.
“شكرًا لكِ. بفضلكِ قد نستطيع الحصول على غذاءٍ غير الصيد.
الناس متحمسون، ويقولون إن نجح التفاح، سيبدؤون بزراعة أشياء أخرى.”
“لم أفعل الكثير. فقط زرعت أشجارًا، لا أكثر.”
“وهذا هو العظيم!
لو كان لي ابن، لزوَّجتكِ إيّاه على الفور.”
“آهاها…… شكرًا لكَ.”
ابتسمت رنايا بخجل وهي تحك رأسها.
لم يكن الأمر صعبًا حتى تستحق كل هذا المديح، لذا شعرت بالحرج.
وحين انتهت من العمل، كان النهار قد تجاوز منتصفه.
وحيث إن الشمس تغيب مبكرًا في الشمال، فقد حان وقت العودة.
“لكن ما بال ذلك الشاب هيرديان؟ لماذا لم يأتِ إلى القرية؟”
“……يبدو أنّه مشغول هذه الأيام.”
“مشغول؟! وهو عالق في الشمال؟! ما أكثر كسله.”
أطلق بارتان صوت استنكار، منتقدًا هيرديان بلسانه.
واكتفت رنايا بابتسامة باهتة، متجنبة الرد.
في الحقيقة، كانت تفضّل أن يبقى بعيدًا عن القرية.
فمنذ عودتها من العاصمة، وهي تتجنبه عمدًا.
‘……هل مرَّ أكثر من أسبوع؟’
قبل أن تعود إلى بيرماوين، طلب منها هيرديان أن تستمر بدور خطيبته.
لكنها، كالعادة، أجَّلت الجواب.
كانت تدرك سبب إصرار الكونت روتشستر على خطبتهما.
فهو الذي حاول قتل هيرديان أكثر من مرة، ولا بد أنّ غرضه لم يكن طيبًا.
هي تودّ مساعدته، لكن كلماته حينها علقت في ذهنها:
‘إلى أن تكرهي وجودي…….’
كلامٌ غريب.
كيف له أن يتوقع يومًا تكرههُ فيهِ؟
بل شعرت أنّه، على العكس، كان يطلب منها البقاء إلى الأبد.
‘اعتراف؟ لا، هذا غير منطقي.’
كانت تعرف أنّ منزلتهما الاجتماعية مختلفةٌ جذريًا.
مجرد أن تكون صديقتهُ كان أمرًا استثنائيًا، فما بالكَ بأكثر من ذلك؟
‘لا بد أنّه يقصد أمرًا آخر.’
لا شكَ أنّه يعلم أنها لن تكون ذات نفعٍ لطريقه السياسي.
فهي مجرد فلاحة بلا سلطة، ولا تستطيع أن تسانده في صراع النبلاء.
كانت مجرد حلٍّ مؤقت.
ولكي يحمي نفسه من الكونت روتشستر، عليه أن يخطب فتاة نبيلة ذات نفوذ.
……لكن، إن كان ذلك فعلًا اعترافًا، فماذا ستفعلُ حينها؟
خطرت ببالها صورة ابنتها الأرنبية، ليليا، وهي تنتظرها في القصر.
لو عرف هيرديان أنّ والد ليليا الحقيقي هو كاين، فهل سيعاملها كما يفعلُ الآن؟
“إن قابلتِه، فقولي له أن يحفظ رقبته. أراكِ قبل غروب الشمس.”
“هاها…… حسنًا، شكرًا على تعبكَ.”
كانت خطواتها ثقيلة وهي تعود إلى القصر.
خلال الأسبوع الماضي، بالكاد تبادلا بضعَ كلمات، فقد كانت تتجنبه، وكان هو مشغولًا خارج القصر.
لكن اليوم، كان من المقرر أن يتناولَا العشاء معًا، فلا مهرب من المواجهة.
‘لا بد أن أجيبه اليوم…… لكن سأستوضح قصده أولًا.’
وصلت إلى القصر متأخرة قليلًا عن الموعد، فأسرعت إلى غرفة الطعام، وهي تفكّر بالشخصين اللذين ينتظرانها.
“آسفةٌ على التأخير…….”
لكنها ما لبثت أن قطعت كلامها، بعدما شعرت بأجواء غريبة.
إذ وجدت هيرديان وليليا يتبادلان نظرات متحدية على جانبي الطاولة.
“ليليا؟”
انتبهت الصغيرة لنداء أمها، فأسرعت نحوها بأرجلها القصيرة، بدلًا من تحية “مرحبًا بعودتكِ” المعتادة، قائلة:
“أمي! هل تكرهين النوم مع ليليا؟”
تفاجأت رنايا قليلًا وأجابت:
“……هاه؟ لا، لا أكرههُ.”
“هذا الرجل قال إنكِ لا تنامين معي بعد الآن.”
‘هذا الرجل’؟!
تكلّمهُ وكأنّه غريبٌ تمامًا، وهو كذلك، ولكن……
“قرأت أنّه من الأفضل البدء بفصل النوم في مثل عمرها، لأن ذلك يزيد من استقلالية الطفل ويحسّن نومه.”
“لا! ليليا ستنام مع أمها للأبد!”
آه…… إذن هذا سبب مشاحنتهما.
وضعت رنايا أصابعها على صدغها وهي تتمالك نفسها.
“هل تغار لأنني أنام بجوارهَا؟”
“أتراني أغار من طفلة؟”
“نعم، وحتى إن غرتَ، فسأبقى أنام بجوار أمي.”
راح الاثنان يتشاجران بالكلامِ كالأطفاِل.
ليليا معذورةٌ لصغر سنها، لكن هيرديان، ما عذرهُ؟
قاطعت رنايا الجدال:
“كفى. لنتناول الطعام أولًا. ليليا، اجلسي.”
“……حسنًا.”
جلس الاثنان، وقد أدركا أنّ استمرار الشجار سيغضبها.
وبعد أن هدأ الجو، تناولوا الطعام في صمت.
حين امتلأت بطونهم، خفّ توترها قليلًا، مدركة أنّ عصبيتها كانت بسبب الجوع.
وقبل أن ينتهوا، بادرت بالكلامِ:
“العم بارتان كان غاضبًا لأنك لم تزره. وطلب أن أخبركَ أن تحافظ على رقبتكَ.”
“……سأذهب قريبًا. لم يتسنَّ لي الوقت هذه الأيام.”
كان يبدو منشغلًا بحق، لدرجة أنّها شكّت إن كان ينامُ ثلاث ساعاتٍ في اليوم أصلًا.
“سأغيب عن القصر بضعة أيام من الغد. سأصطحب سيرف وحده، وسيبقى باقي الخدم، فلن تتأثّر حياتكم.”
“إلى أين ستذهب؟”
“إلى الحدود.”
“الحدود……”
كانت الإمبراطورية دولة حروب منذ زمن بعيد، وخاضت حروبًا طاحنة مع الجوار، حتى انتهت باتفاق سلام قبل أكثر من عشر سنوات.
لكن، رغم السلام، ظلّت المناطق الحدودية مناطقَ خطر، إذ لا يُعرف متى قد تتوتر العلاقات مجددًا.
‘ما الذي يستدعي الذهاب إلى الحدود في هذا الوقت؟’
✧───── ⋆⋅☆⋅⋆ ─────✧
ستجدون الفصول دومًا متقدمةً لهذهِ الرواية في واتباد وقناة الملفات،
حَسابي واتباد : _1Mariana1
( حسابي السابق قد حُذف)
وستجدون إعلانات تنزيل الفصول قبل هيزو في الرابط المثبت أول التعليق ~ ❀
التعليقات