سادتْ سَكْتَةٌ مُثْقِلَةٌ على القاعة.
وفي تلك اللحظة، عادَ الكونت ليبيد من قضاء حاجته، وما إن أدركَ ما يحدثُ حتّى تغيَّرَ وجهه بغضبٍ شديد.
“كاين روتشيستر! ما هذا الهراء؟!”
صاحَ الكونت وهو يلهثُ غيظًا، قابضًا على قبضته بشدّة.
“أتبعني.”
لَمْ يتفوّه كاين بكلمةٍ، وتبعَ الكونت بصمت.
وحالما غادرَ المتسبّب في الشغب، ظهر الخدم متأخّرين، وبدأوا يجرّون الرّجل المغمى عليه.
وحينئذٍ، بدأ الحاضرون الذين كانوا يراقبون بصمتٍ بالهمس وكأنّهم كانوا بانتظاره.
كان دمٌ كثيرٌ قد تسرّب على أرض القاعة.
لَمْ تكن رنايا تدري أنّ ضربَ إنسانٍ لإنسانٍ قد يُنتِجُ كلّ هذا الدم.
“قالوا إنّ الكونت الصغير مجنون، وها قد تأكّدنا بأعيننا… كنتُ أظنّه مجرّد شائعة.”
“هل تُراه مات ذلك الرجل؟”
استمرّت التعليقات غير المصدّقة في التوافد.
“لا يزال يبحث عن زوجته السّابقة في كلّ مكان.”
“سمعتُ أنّ زوجته السّابقة كانت فاجرةً. كانت تخرج خفيةً في الليل مع رجالٍ آخرين، والرّجل الذي ضُرِبَ قبل قليلٍ كان يتفاخر بأنّه نام معها.”
“ليست شائعة. أنا أيضًا سمعتُ قصصًا عن ذلك في وقتها.”
سيلين كانت تلتقي برجالٍ آخرين؟
سيلين التي عرفتها، كانت تُحبّ كاين بإخلاص.
لذلك كانت تُكافحُ للبقاء في قصر الكونت روتشيستر، وحين هربت، تألّمتْ كثيرًا.
كانت شائعةً لا تستحقّ السّماع. ربّما نشرها أحدهم بدافع الغيرة من سيلين.
رأسُها بردَ فجأة.
سيلين التي كانت تحاول الصّمود في مكانٍ كهذا بدتْ في نظرها مسكينةً وجديرةً بالإعجاب.
فهي نفسُها ما كانت لتصمدَ ليومٍ واحدٍ هناك.
“رنايا.”
ناداها هيرديان بوجهٍ يملؤهُ القلق وقد شحب لونها.
فابتسمتْ له رنايا مُجبرةً وقالت:
“…يَجِبُ أنْ نعود، قبل أن تستيقظَ ليليا.”
طوال طريق العودة إلى المنزل في العاصمة، ظلّت العربة صامتة.
وكانت رنايا تُربّتُ برفقٍ على ليليا النائمة بينما تُحدّقُ من النّافذة وقد بدت شاردة الذّهن.
كاين لَمْ ينسَ سيلين.
الوحيدة التي تصرّفت بشكلٍ مختلفٍ عن الرواية كانت سيلين.
إذًا، من تكون تلك المرأة التي كانت معه في غرفة الاستقبال منذ قليل؟
كلّما تعمّقت في التفكير، زادَ الصداع في رأسها، فعبستْ من الألم.
إنْ كان يغضب من الشائعات التي تطالُ سيلين إلى هذه الدرجة…
فليتَهُ فقط أحسن إليها منذ البداية.
صحيح أنّه في ذلك الوقت، لم يكن يثقُ بأحد، لكنّها شعرتْ أنّ ذلك لم يكن سوى ذريعةٍ.
“…….”
السماء المظلمة بدتْ وكأنّها تُجسّد مستقبلًا لا يُرَى.
كلّما تتابعتْ الأفكار في ذهنها، غرقَ مزاجها أكثر.
وفجأة، بدأت العربة تُخفّفُ من سُرعتها.
ظنّت أنّهم وصلوا، فنظرتْ حولها، لكنّها أدركتْ أنّ المكان مختلف تمامًا.
“فلنَنْزِل قليلًا.”
“…هنا؟ وماذا عن ليليا؟”
“سيرافقها سِيرف بأمانٍ إلى المنزل.
لا يُناسب أنْ نختمَ اليوم على هذه الحال.”
وبما أنّها لن تستطيع النّوم حتى إنْ عادت الآن، فقد فكّرتْ قليلًا، ثمّ غطّتْ الطفلة النائمة جيّدًا، ونزلتْ من العربة.
بعدها، اقتربت من مقعد السّائق حيث يجلس سيرف، وهمستْ إليه:
“أرجوك اعتنِ بليليا.”
“لا تقلقي، آنسة فيليت.”
وانطلقت العربة بهدوءٍ أكثر من قبل.
وحين ابتعدتْ العربة، التفتتْ رنايا إلى هيرديان.
كان يتفقّد السّرج وهو يُربّتُ على لِجام الفرس.
“إلى أين تنوي الذّهاب حتّى أعددتَ حصانًا؟”
“ستعرفين حين نصل. هل سبق أنْ ركبتِ الخيل؟”
“…لا.”
“غريب. كنتُ أظنّك تجيدين ذلكَ.”
“لأنّي من الريف؟ هذا تحاملٌ عليَ.”
“لَمْ أقصد ذلك أصلًا.”
تطلّعتْ إلى الفرس بارتباك.
أطلقَ الفرس صوتًا خفيفًا وهو يُحدّق بها بعينين لامعتين.
وفجأة، حملها هيرديان بين ذراعيه.
“مـ-مَهْلًا…!”
وجدتْ نفسَها على صهوة الحصان، فأمسكتْ بكتفَيه باضطراب.
ضحكَ هيرديان وهو يركب بخفّة خلفها، ليُحيطها بذراعَيه.
“تمسّكي جيّدًا كي لا تسقطي.”
“أفضّل أنْ أمشي فقط…”
لكنّه حثَّ الحصان دون إنذار، فأغمضتْ رنايا عينيها بقوّة وتمسّكتْ به بشدّة.
“تركبين السلالم العالية بسهولة، لكن تخافين من الحصان؟”
“هذا غير ذاك!”
فالسلالم جمادٌ، أمّا الحصان فكائنٌ حيّ!
صرختْ رنايا وهي تردّ عليه بانفعال.
“اهدئي وانظري للأمام.”
“…….”
“لن تسقطي أبدًا. وإنْ حصل، فلن أدعكِ تتأذّين.”
“…حقًّا؟”
“أجل، أعدكِ.”
تشجّعتْ رنايا وأدارتْ وجهها إلى الأمام ببطء.
هَبّتْ نسمةٌ عليلةٌ تُلامسُ خدّيها،
وعندما فتحت عينيها، رحّبَ بها ضوءَ القمِر الذي يتسلّل بين الأغصان الكثيفة.
وإذا بها تذوبُ في ذلك المنظر الخلّاب، عاجزةً عن النُّطق.
عيناها الخضراوان لمعتا تحت نور القمَر.
ارتسمَتْ ابتسامةٌ على شفتي هيرديان.
ورغم أنّه لا يرى وجهها، إلا أنّه شعرَ أنّه يُدركُ تعبيرها.
قطع الاثنان الغابةَ إلى أنْ وصلا إلى بحيرةٍ كبيرةٍ تتلألأ تحت ضوء القمر.
تنهّدتْ رنايا باندهاش وهي تتأمّل جمال البحيرة.
“واو…”
“انزلي لتُشاهدي عن قرب.”
ساعدها هيرديان على النزول، فتقدّمتْ بخطى بطيئة كالمسحورة.
‘لم أكن أعلمُ أنّ للَعاصمةِ مكانًا كهذا…’
أدهشها المنظر الذي تراه لأوّل مرّةٍ.
وبينما هي تُحدّق بالبحيرة، لمحَتْ شيئًا متأخّرة.
أضواءٌ صفراء تطير في الهواء…
كانت يراعةً.
حلّقتْ حولها، وجلستْ على إصبعها حين مدّت يدها، ثمّ طارتْ بعيدًا.
بعد وقتٍ طويلٍ من المشاهدة بصمت، قادها هيرديان لتجلسَ على صخرةٍ كبيرةٍ قريبة.
“لم أتوقّع وجود مكانٍ بهذه الجَمال في العاصَمةِ.”
“أنا أيضًا اكتشفتُه بالصدفِة. لكنّي شعرتُ أنّك ستحبّينه، وكنتُ محقًّا كما أرى.”
كان هيرديان يُحدّق في البحيرة بوجهٍ هادئ.
وشَعرُه الأشقر يتمايلُ مع النّسيَم.
تأمّلتهُ رنايا، ثمّ سألتْ فجأة دون تفكير:
“هل صحيحٌ أنّك تُواعد الكثير من النساء؟”
لم تكن تنوي سؤالهُ أصلًا.
فمهما كانا مقرّبين، تبقى هذه أمورًا شَخصيّةٌ.
لكنّ الكلمات خرجت دون وعي، فتفاجأتْ من نفسَها وأشاحتْ بوجهها.
“انسَ الأمر. خرجَ الكلام دون قصد.”
“مِن أين سمعتِ هذا؟”
“…….”
“آه… ليس هذا ما يجَدرُ بي قولهُ. آسفٍ. كان سؤالًا خاطئًا.”
تنهد وهو يمرّر يده في شعره.
ثمّ قال بعد تردّدٍ:
“لكن، قبل أن أُجيب، دعيني أسألك: هل تسألين لأنّك لا تُريدينني أن أكون كذلك؟”
“…لا، ليس تمامًا. ومَن أكون أنا لأتدخّل؟”
“…….”
“عندما تسمع شائعةً سيّئة عن صديقكَ، من الطبيعي أنْ تشعر بالضيق، سواء كانت صحيحةً أو كاذبة… هذا كلّ ما في الأمر.”
لكنّها، رغم صدقها، شعرتْ بشيءٍ من الذنب.
وكأنّها تُخفي شيئًا.
أطرقَ هيرديان قليلًا، ثمّ ظهرتْ على وجهه ابتسامةٌ حزينةٌ.
“تلكَ الشائعةُ ليستْ صحيحة، بل أنا من اختلقها.”
“أنتَ اختلقتها؟”
“كان عَمّي يُرسل لي مقترحات زواج باستمرار، وكان عليّ أن أُوحي له أنّي شخصٌ طائشٌ، لا يستَحقّ الثقة.”
بمعنى آخر، كانت مجرّد وسيلةٍ للبقاءِ.
وسيلةٌ للحماية من كونت روتشيستر الذي كان يتربّصُ بحياته.
هل كان طرده من بيرماوين وهو طفلٍ غير كافٍ؟
لماذا يسعى خلفه دومًا، يريد قتله وسلب كلّ ما يملكه؟
تذكّرتْ الحاضرين في الحفلة وهم يطعنون به.
لقد عاشَ حياته كلها يُواجه كلماتٍ مهينة.
وحين فكّرتْ في كلّ ذلك، شعرتْ بالشفقة وبغصّةٍ في صدرها.
“هل ساعدتُكَ اليوم ولو قليلًا؟”
ما فعلتْه لم يتجاوز تمثيل دور الخطيبة.
فهل كان لذلك أيُّ فائدة؟
كونها من عامّة الناس، لعلّها لم تكن ذاتَ نفعٍ أصلًا.
كانت أفكارها تُلاحق بعضها حين قاطعها صوتهُ:
“لأوّل مرّة، لَمْ أشعر بالاختناقِ في ذلك المكَان. هذا يعني أنّي كنتُ أعتمدُ عليكِ كثيرًا.”
اهتزّتْ عيناها الخضراوان قليلًا، وهبّت نسمةٌ نثرتْ شعرها.
مدّ يده برفقٍ، كما لو كان يُلامس زجاجًا، وسوّى خصلات شعرها، ثمّ َسألها:
“هل تعلمين؟ لقد تجاوزنا منتصف الليل قبل قليل، ما يعني أنّكِ لم تعودي خطيبتي.”
كانت مُدركة لذلكَ، فأومأت برأسها بهدوءٍ.
“صحيح أنّي طلبتُ منك أنْ تكوني خطيبتي ليومٍ واحد… لكن، هل يُمكنك البقاء خطيبتي قليلًا بعد؟”
“…ماذا؟”
“أظنّ أنّ عَمّي لن يتراجع قريبًا.”
الاستمرار بادّعاء الخطوبة لم يكن صعبًا.
فهو محض تمويه.
“وكم من الوقت سنُبقي على هذا الحالِ؟”
ظنّت أنّه سينتهي حين تُقنع ليليا،
لكنّ الإجابة التي أتت كانت غير متوقَّعة تمامًا:
“إلى أنْ تَكرَهيني.”
✧───── ⋆⋅☆⋅⋆ ─────✧
ستجدون الفصول دومًا متقدمةً لهذهِ الرواية في واتباد وقناة الملفات،
حَسابي واتباد : _1Mariana1
( حسابي السابق قد حُذف)
وستجدون إعلانات تنزيل الفصول قبل هيزو في الرابط المثبت أول التعليق ~ ❀
التعليقات