وَضَعَ لِيبِيدْ كأسَهُ وهو يلتقط أنفاسَهُ بهدوء.
“يبدو أنّكَ كثيرًا ما تتواصلُ مع العائلة الإمبراطوريّة هذه الأيّام.”
“ذلك بفضل نَظرةِ جلالتِهِ الطيّبة إليّ.”
“ومع ذلك، هل من المناسب أنْ يستدعيَ شخصًا من الشّمال بهذه الكثرة…؟ لا بُدّ أنّكَ تُعاني كثيرًا.
سأخصّص وقتًا وأرفعُ لجلالتِهِ ما يجب.”
كان يُظهِرُ حرصًا ظاهرًا على ابن أخيه، لكنّ دوافعه كانت واضحة كالشمس.
لم يكن ذلك إلّا لِمنع هذا الأخير من توسيع نفوذه داخل عائلة روتشيستر.
كَتَمَ هيرديان ضحكةً كادت تفلتُ منه.
كانت عيناهُ الزرقاوان تلمعان ببرودةٍ كوحشٍ بدأ للتوّ مطاردةَ فريسته.
“بالمناسبة، لديّ أمرٌ أرغب في الحديثِ عنه معكَ، عمّي.”
“…”
“ما رأيُكَ يا عمّي، في أنْ أُقيمَ في العاصمة؟”
لم يكن لهذا التصريح أنْ يمرَّ مرورَ الكرام، إذ إنّ استقرار هيرديان في العاصمة يعني الكثير.
كان ذلك يُفصح ضمنًا عن رغبته في دخول الساحة السّياسيّة، بل وتهديد مكانةِ ربِّ عائلة روتشيستر.
الإمبراطور الحاليّ كان يرغب في استبدال أصحاب السّلطة في العائلات النبيلة بمنْ هو أكثرُ نفعًا للإمبراطوريّة.
لذلك، مَنْ يُثبت كفاءته هو مَنْ سيتولّى زمام الأمور لاحقًا.
وكان لِليبيد الكثير من الجرائم المدفونة.
لكنّ أكثر ما يُرعبه كان مقتل شقيقه الأكبر، ربِّ العائلة السابق، وهي التّهمة التي طالتْهُ دون وجود أدلّةٍ قاطعة.
ولذلك، لِإسقاطه تمامًا كان لا بُدّ من تفجير تلك الأدلةِ في الوقت المناسب.
“أنا واثقٌ أنّ عمّي سيباركُ هذا القرار. فابن أخيه الوحيد قرّر أخيرًا أنْ يُؤدّيَ دَوره.”
تلألأتْ عينا هيرديان الزرقاوان ببريقٍ حادّ.
* * *
في جناحٍ للجلوس داخل حديقةِ الورود في قصرِ روتشيستر، نقلت السّيّدة ويڤريد مكانها.
أخذَتْ تعبثُ ببطاقةِ تعريفٍ صغيرة وهي تتحدّث بهدوء:
“بِيلِّيندا كانت طالبةً لديّ عندما كنتُ أعملُ كأستاذةٍ.
كانت فتاةً لا تُطيع، كثيرة المشاكل، وتجادلني كثيرًا.
وبعد تخرّجها، لم أسمع عنها شيئًا… حتى التقيتُ بها من خلالكما.”
تألّقَتْ عينا السّيّدة وهي تغوصُ في الذكريات.
فبالرّغم من أنّها تخلّت عن التّدريس بسبب حالتها الصّحيّة واقتصرت على الأعمال الإداريّة في الأكاديميّة، إلّا أنّ قلبها ما زال يحنُّ لتلك الأيام.
“هل بيليندا بخير؟ لقد مضى أكثر من عشر سنوات على آخر لقاءٍ لنا، أودّ أنْ أسمعَ عنها.”
أجابتْ رنايا بتوتّرٍ ظاهر:
“…لقد التقيتُ بها مرّتَين فقط، لذا لا أعرفها جيدًا، لكنّها تُدرّسُ ليليا بكلّ إخلاص.”
“أفهم. لا أُصدّق أنّ بيليندا تُعلّمُ الأطفال الآن. يبدو أنّ العالمَ حقًّا مليءٌ بالمفاجآت.”
ثمّ نظرتْ إلى ليليا، التي كانت تستمع بصمتٍ إلى حديثِ الكبار وفي فمِها قطعةُ ماكارون، فارتبكتْ عندما التقت نظراتُهما.
“هل اسمُكِ ليليا؟”
“…نَعَمْ، أَنا ليليا فيلِّيتْ.”
“حسنًا، ليليا. كيف تجدينَ الأستاذة بيليندا؟ هل تُعلّمكِ جيدًا؟”
بلعت ليليا الماكرون وقالت:
“المعلّمة طيّبة وتُعلّمني جيدًا. قالت إنّي ذكيّةٍ أيضًا.”
“يا إلهي، هذا رائع. يبدو أنّ بيليندا التقت بتلميذةٍ نجيبة.”
على الرغم من أنّ ليليا خجولةٌ عادة، إلّا أنّها شعرتْ براحةٍ تجاه السيّدة ويڤريد.
فقد استشعرتْ ببراءتها أنّها ليست شخصًا خطرًا.
أعجبتْ رنايا بابنتها، فمسحتْ بلطفٍ على رأسها.
“الزمن يمضي سريعًا. هؤلاء الأطفال الّذين كانوا لا يعرفون شيئًا عن الحياة… ها هم اليوم يُنقلون المعرفةَ للأجيال القادمة.”
رَقّتْ عينا السيّدة ويڤريد وتناولت حقيبتها تُفتّشُ عن منديلاً لِتَمسحَ دموعها، لكن بدا عليها الارتباك.
“ما الأمر، سيّدتي؟”
“…يبدو أنّي نسيتُ منديلي في القاعة.”
“دعيني أذهب لأحضره.”
“لا بأس، لا حاجة لأن تُتعبِي نفسكِ…”
“سأعود بسرعةٍ.”
أرادتْ رنايا أنْ تبني علاقةً طيّبة مع زوجة مدير الأكاديميّة، وكان إحضار المنديل أقلَّ ما يمكن ردًا على مساعدتها لها منذ قليل.
“ليليا، هل يمكنكِ الانتظار هنا؟”
“أجل!”
أجابت الطفلة بحيويّة، وبمجرّد أنْ غابتْ والدتها، بدأتْ تشرب عصيرها بهدوء. كان طعم البرتقال الحلو يملأ فمها.
بينما كانت السّيّدة ويڤريد تُحدّق بها، سألتها برفق:
“كمْ عُمرُكِ يا ليليا؟”
“سبعُ سنوات.”
“إذًا، ستلتحقينَ بالأكاديميّة في العامِ القادم، أليس كذلك؟”
“نعم.”
هزّت ليليا رأسها.
“هل هناك سببٌ خاصٌّ وراء رغبتكِ في دخولِ الأكاديميّة؟”
“…سبب؟”
لأوّل مرّة تتردّد ليليا في الإجابة. لم تَسبق لها أنْ شاركتْ أحدًا هذا السبب، حتى والدتها.
سبب رغبتها في دخول الأكاديميّة يعودُ إلى الرّمزِ المنقوشِ على قلمِ بيليندا، في أوّل درسٍ تلقّتْهُ.
‘زنبقُ الوادي المُرصّع بندى الفجر.’
رأَتْ هذا الرّمز سابقًا عندما كانت في قرية لوكلير، وكان محفورًا على الفاصلِ الّذي كانتْ تستخدمه والدتُها الحقيقيّة في كتبها.
حينها أدركتْ أنّ هذا الشعار يرمزُ إلى أكاديميّة كْليرفور، وأنّ والدتَها كانت من طلّابها.
لكنّها لم ترغب في إخبارِ شخصٍ غريب بكلّ هذا.
وبينما كانت تفكّر في كيفيّة الرّد، خطرتْ على بالها ذكرى قديمة، لم تَعدْ تتذكّرها كثيرًا في الآونةِ الأخيرة.
‘ليليا قاربتْ أنْ تَبلغَ سنّ الأكاديميّة، أليس كذلك؟’
”…هل من الضّروري أنْ أذهبَ؟ لا أريدُ الابتعادَ عنكِ يا أُمّي.”
”وإنْ لَمْ تُرِدي، لا بُدّ أنْ تذهبي.”
قالتْ سيلين ذلك وهي تضحكُ بهدوء:
”إنْ أردتِ حمايةَ مَنْ تُحبّين، لا بُدّ أنْ تتعلّمي.”
تنهدتْ بعد إسترجاع ذكرياتِـها
“لأنّي أريد أنْ أُحافظَ على مَنْ أُحبّ.”
تفوَّهت ليليا بذلك دون تفكير، ثمّ شعرتْ بالدهشة من نفسها.
لم تَعرفْ لماذا تذكّرتْ ذلك الآن، لكنّه لم يكن جوابًا خاطئًا.
ألمْ تقُلْ لها بيليندا أيضًا إنّ من يُريد أنْ يحميَ مَنْ يُحبّ، عليه أنْ يتعلّم؟
أمّها كانت أغلى مَنْ في العالم.
وكانت ليليا متأكّدة أنّ هذا الشعور لن يتغيّر.
منذ أنْ كانت تزحفُ وهي طفلة، كانت هناك أحضانٌ محدّدة تُشعرها بالدفء والأمان.
كانت تنامُ فيها بارتياح، وتَطْمئنُّ لسماعِ التّهويدةِ الغريبةِ القادمة منها.
‘الآن أعلم… كان ذلك حضنَ أُمّي رنايا.’
في البداية لم تُصدّقْ أنّها كانت تُفضّل جارة والدتها على والدتها الحقيقيّة، لكنها لم تعد تهتمّ.
ما يهمّها الآن هو أنّ والدتها الحالية تُحبّها.
وفي تلك الأثناء، كانت ملامح السّيّدة ويڤريد قد تغيّرت بعد سماع جوابها. بدا وكأنّها تفاجأتْ.
“ما بكِ؟”
“…آه، لا شيء. تذكّرتُ شخصًا عزيزًا عليّ، عندما نظرتُ إلى وجهكِ.”
أجابتْ بابتسامةٍ محرجة وهي تُحوّل نظرها إلى البطاقة.
لم يكن صعبًا فهمُ سببِ إرسال بيليندا بطاقةً مع المَولودة وأمّها، طالبةً منها مقابلتهما.
فقد قالت يومًا: إنْ وجدتُ تلميذةً تُحرّكُ قلبي، فسأعرضها على أستاذتي.
وفعلًا، بدأتْ تفهم لماذا أحبّتْ بيليندا هذه الطفلة.
فهي تُشِعُّ من كلّ النواحي، وتجذبُ الانتباه بشدّة.
حتى أنّ وقوفها بثقة وسط النبلاء الكبار في القاعة كان مشهدًا مُذهلًا.
بل وحتى… إجابتُها تشبه تمامًا إجابةً أخرى سمعتها منذ زمن.
السّيّدة ويڤريد شعرتْ أنّ حضورها لهذا الحفل لم يكن عبثًا.
لم تكن تُعيرُهُ اهتمامًا، لكنها الآن تَشعر بالامتنان لهذه الفرصة.
رغبتْ في مواصلة الحديث، لكنّ الليلَ قد أزفَ عليهمَ.
وقفتْ بأسفٍ واضح وقالت:
“…آه، يا للأسف. عليَّ المغادرة الآن. بلّغي والدتَكِ تحيّاتي، ليليا.”
ثمّ أخرجتْ من حقيبتها منديلاً جميلًا وسلّمتْه إلى ليليا. كان المطرّز عليه زنبق الوادي.
عندما سألتها ليليا عن منديلي القاعة، رفعت السّيّدة إصبعها إلى فمها بابتسامةٍ ناعمة.
كانت تكذب، وقد فهمتْ ليليا ذلكَ. فاكتفتْ بهزّ رأسها بهدوء.
“هل تريدين أنْ أُرافقَكِ حتى بابِ القاعة؟ قد تخافين وحدكِ.”
“لا بأس. يمكنني الانتظار وحدي حتى تعود أُمّي.”
“أنتِ شجاعةٌ. سأنتظرُ لقائنا القادم، ليليا.”
ثمّ رحلتْ السيّدة ويڤريد متّكئةً على عصاها.
وبقيتْ ليليا وحدها تأكل ما تبقّى من الماكرون، وقد بدتْ شاردة.
‘أُريدُ رؤيةَ الجدّة هيلدي فجأة… لا بُدّ أنّها تشتاقُ لي أيضًا.’
لم تَطُلْ عودةُ رنايا كثيرًا. لكنّها عادتْ خاليةَ اليدين، وبدتْ مُتفاجئة من خلوّ المكان.
“ليليا، أين السّيّدة؟ لماذا أنتِ وحدكِ؟”
“قالتْ إنّ الوقتَ تأخّر، فغادرتْ.”
“…حقًّا؟”
كانت السيّدة ويڤريد نادرًا ما تظهرُ في المناسبات الرسميّة. ربّما لن يلتقينَ بها مجددًا.
وقفتْ رنايا في مكانها تُحدّقُ في المنديل الأبيض والمكانِ الفارغ بتنهيدةٍ طويلة.
وكان عبيرُ الكتبِ القديمة ما يزال عالقًا في الهواء.
✧───── ⋆⋅☆⋅⋆ ─────✧
ستجدون الفصول دومًا متقدمةً لهذهِ الرواية في واتباد وقناة الملفات،
حَسابي واتباد : _1Mariana1
( حسابي السابق قد حُذف)
وستجدون إعلانات تنزيل الفصول قبل هيزو في الرابط المثبت أول التعليق ~ ❀
التعليقات لهذا الفصل " 48"