“أنتِ من العامّة، أليس كذلك؟
لم أسمعْ من قبل عن عائلة فيليت.”
“نعم، هذا صحيح.”
همسَتِ السيّدات الصغيرات وهم ينظرن إلى رنايا بإزدراء.
“لا عجب أنّها تبدو وضيعة المستوى.”
“كيف استطاعتِ أن تُوقِعَ بدوق روتشيستر؟ هل استعطفتْهُ لأنها امرأةٌ مسكينة بلا مالٍ وتجرُّ خلفها طفلة؟”
كلّما سكتت عنهنّ، زادتْ حدّة كلامهنّ.
كانت رنايا تفضّلُ أن تنتظرَ هيرديان بهدوء، لكنّ الطرف الآخر هو مَن بدأ بالتحرّش، ولمْ تَطِقْ كتمَ كلماتها أكثر.
خاصةً أنّ ليليا كانت تُراقب. وكان مثلُ هذا السّلوك السيء يؤثّرُ سلبًا على تنشئة الطفلة.
“في الواقع، لم أكن أنا مَن أغرى دوق روتشستر، بل هو مَن طاردني أولًا.”
“…….”
“ثم إنّني لستُ فقيرة كما تظنّون. فأنا أديرُ مزرعة تفّاحٍ مسجّلة باسمي.”
“هاها…!”
ضحكتْ إحداهنّ بصوتٍ عالٍ، وما لبث أنْ تتابعتِ الضحكات في أنحاء القاعة.
كانت سُخريةً واضحة، غير أنّ رنايا بقيتْ واثقة.
فهم ببساطة لا يفهمون شيئًا.
“هل لم تتذوّقنَ التّفاح في حياتكن؟ ليس التفّاح فقط، بل كلّ ما تأكلنهُ يمرّ عبر أيدي الفلّاحين. ولو لم يكن هناك مزارعون، لكنتنّ جُعتن.”
لم تتوقّعْ يومًا أن تُضطرّ لتشرح لأشخاصٍ بالغين أشياءً يعرفها الأطفال.
شعرتْ بوضوح أنّ هذا المجتمع يُفرّق بين النّاس حسب مكانتهم، ويُصنّفُ الأعمال بين نبيلة وحقيرة.
ومهما قالتْ، فإنّهم لنْ يُصغوا، لأنّ كلام مَن هو أدنى منهم منزلةً لا يُؤخذ على محمل الجد.
‘هل يجب أن أُغيّر مكاني بصمتٍ؟’
بينما كانت تفكّر، شدّتْ ليليا طرفَ كمّها.
“أمّاه، لماذا تكلّمين نفسكِ؟”
قالتْ ذلك بعينَي طفلةٍ بريئة لا تعرف شيئًا.
“أظنُّ أنّ السبب هو أنّني لا أرى أو أسمع الأغبياء، لذا لا أعرفْ مَن تكلّمين.”
فتحتْ رنايا فمها بدهشةٍ تامّة.
ليليا… الطفلة اللطيفة والمحبوبة، تتهكّمُ على الآخرين بهذا الشكل أمامهم؟
والأدهى أنّ سخريتها كانت فعّالة للغاية.
بدأتْ وجوههنّ البيضاء والجميلة تحمرّ غضبًا.
“ما الذي تفوّهتْ به تلك المشاكسة؟!”
“هل قالتْ إنّنا أغبياء؟!”
وما إن ارتفعت أصواتهنّ حتّى توقّفَ العزفَ.
“أيّ فوضى هذه في حفلٍ للاحتفال؟”
تقدّمتْ عجوزٌ كانت تُراقب الوضع من بُعد، تتّكئ على عصاها، ونطقتْ بنبرةٍ هادئة:
“قلةُ المعرفة ليستْ خطأ. لكنّ التفاخر بالجهل سلوكٌ غبيّ.”
“ألا ترين أنّكِ قاسيةٌ بكلامكِ، يا سيّدة ويڤريد؟ هل تدركين أنّ الطفلةَ هي مَن تصرّفتْ بوقاحةٍ؟”
“ألم تفكّرنَ بكلامكنّ قبل أنْ تغضبن؟”
قطّبتْ العجوز جبينها، وبنظرةٍ صارمة سادَ الصمت بين السيّدات.
لمْ يجرؤْنَ على رفع رؤوسهنّ، وقد شعرنَ بالإهانة علنًا.
“لا أُريدُ أن أفسدَ يومًا جميلًا بمزيدٍ من الضوضاءِ، لكن عليكنّ أن تَتَمهّلْنَ. فمَنظرُكنّ لم يكن جميلًا.”
ثم أدارتْ ظهرها.
عندها، تذكّرتْ رنايا بطاقة الاسم التي أعطتها إيّاها بليندا، والهدفَ من إحضار ليليا للحفل.
زوجة مدير أكاديميّة كليرفور.
وبحسب بليندا، فإنّها امرأةٌ مثقفة، كانت تَشغلُ وظيفةً تعليمية في السابق.
قالت إنّ من يراها سيعرفها على الفور.
وبالفعل، كانت العجوز خيرَ تجسيدٍ للأناقة وسط هذا الحفل.
ركضتْ رنايا خلفها، تمسكُ بيد ليليا التي كانت تمضغ الكعك.
وما إن حاولتْ السيّدة ركوب العربة حتّى نادتْها.
“سيّدة ويڤريد!”
التفتت العجوز، وقالت:
“أنتِ…”
“شكرًا جزيلًا على تدخّلكِ، سيّدة ويڤريد.”
“لا أذكرُ أنّني فعلتُ ما يستحقّ الشكر.”
ابتسمتْ ابتسامةً لطيفة، كأنّها فعلتْ ما هو بديهيّ. لم تكن كغيرها ممّن يتصنّعون الودّ.
“هل تعرفين الآنسة بليندا ديرين؟”
“…بليندا؟”
بدتْ الدهشةُ على وجهها حين سمعتْ الاسم، ونظرتْ إلى رنايا كأنّها تتساءل: كيف عرفتِ؟
أخرجتْ رنايا البطاقة من حقيبتها وقدّمتْها لها.
“هل يُمكن أن أطلب من حضرتكِ بعض الوقت؟”
رغم أنّ الحفل لا يزال مستمرًّا، إلّا أنّ قصر روتشيستر بدا هادئًا في أجزائه الأخرى.
دخلَ ليبيد إلى المكتب، وخلع معطفه الثقيل وهو يعبّر عن استيائه.
“هيرديان… ما زلتَ تسيرُ في الطّريق الخطأ.”
تبعَهُ هيرديان إلى الداخل، مُرتديًا وجهًا جامدًا.
بدتْ في عينيه لمحةُ غضب، لكنّه رسمَ ابتسامةً مصطنعة.
“لا أفهمُ ما تقصده، يا عمّي.”
“كيف لي أنْ أتقبّلَ امرأةً بهذا الشكل؟ بلا حسبٍ أو مال، وفوق هذا معها طفلة!”
قبضَ هيرديان قبضتَه خلف ظهره بشدّةٍ حتى برزتْ عروق يده.
يدّعي أنّه يقلق عليه، في حين أنّه غاضبٌ لأنّ خططه تعرقلتْ مجدّدًا.
‘لا يعرفُ شيئًا عن رنايا، ومع ذلك يتجرّأ على انتقادها؟ أودُّ أن أكمّم فمهُ.’
“بل يجبُ أن تهنّئني، يا عمّي. هل لديك ما تقولهُ غير هذا؟”
“هيرديان روتشيستر!”
ضربَ ليبيد الطاولة بقبضته.
في الماضي، كان ذلك يُرعبه، أمّا الآن فلمْ يُحرّكْ فيه شيئًا.
“سعيدٌ أنّكَ ما زلتَ تتذكّر أنّني من عائلة روتشيستر، يا عمّي.”
كانت هذه أوّل مرّةٍ يعودُ فيها إلى مكتب القصر منذ نفيه إلى الشمال.
كلّ شيءٍ كما كان، عدا الزخارف الفاخرة الزائدة، واختفاء كلّ ما يعود إلى والده.
“لو لمْ تكن من العائلة، لما كنتُ أهتمّ لأمركَ. أنا أتحدّثُ بهذا الشكل لأنّني أحبّكَ كعائلةِ.”
ربّتَ ليبيد على كتفه، وأضاف:
“كنتُ غاضبًا للحظة فقط، فلا تأخذ الأمر على محمل شخصيّ.”
“…نعم، عمّي.”
لكنّه كان مجرّد إنسانٍ لا يتغيّر أبدًا.
ابتسمَ هيرديان ساخرًا.
“سمعتُ أنّ شقيقي يرفضُ الزّواج مرّة أخرى. لذا لِمَ لا تهتمّ به أوّلًا بدلًا من مراقبتي؟”
“أخوك سيعتني بنفسه. أمّا الآن، فالمهمّ أنت―”
“وأنا أيضًا أستطيع الاعتناء بنفسي، عمّي. لقد نجوتُ وحدي حتى في بيرماوين.”
في ذلك الحين، كانت المنطقة الشماليّة مختلفة.
أرضٌ قاحلة مغطّاةٌ بالثلوج، وأشخاصٌ قساة جاؤوا هربًا من مصيرهم.
كلّ ما امتلكه كان طعامًا لأيامٍ معدودة، وملابسَ شتويّة بالكاد تكفي.
وكانَ عمره لا يتجاوزُ العاشرة. طُردَ لأنّه خسرَ في صراع العائلة.
قالوا إنّهم رحمُوه لأنّهم لم يقتلوه.
لكنّه لمْ يكن يَعتبر ذلك رحمةً.
“أظنّ أنّ عمّي أرسلني إلى هناك ليُعلّمني كيف أعيشُ دون والد.”
“…شكرًا لتفهّمكَ.”
“والآن وقد صار كلّ شيءٍ كما تريد، فلا تقلق بشأني.”
“…كما تشاءُ.”
أمسكَ ليبيد كوبَ ماءٍ بارد ليُهدّئ نفسه.
بات يشعر أنّه يفقدُ زمام المبادرة كلّما تحدّث مع هيرديان.
‘أفعىٌ ماكرة… يشبه أخيَ كثيرًا.’
كان ربّ عائلة روتشيستر السابقُ بارعًا في الإقناع والسيطرة على الآخرين، لذا فشل ليبيد أمامه.
ورغم أنّهم من نفس الدم، إلّا أنّه لمْ يرثْ مهارته.
حتى ابنه لا يخضعُ له.
‘ما العمل الآن؟’
نقرَ ليبيد لسانه بانزعاج.
طالما أنّ الإمبراطور بات يراقبه، فلا يمكنه قتل هيرديان.
خطّطَ لأن يُلزمه بامرأةٍ تمتصّ ثروته، لكنّه تأخّر.
لم يتوقّعْ أن يأتي بامرأةٍ أخرى.
يحتاجُ الآن إلى طريقةٍ أخرى…
طريقةٍ تُقيّده وتمنعه من التحليق مجدّدًا.
✧───── ⋆⋅☆⋅⋆ ─────✧
ستجدون الفصول دومًا متقدمةً لهذهِ الرواية في واتباد وقناة الملفات،
حَسابي واتباد : _1Mariana1
( حسابي السابق قد حُذف)
وستجدون إعلانات تنزيل الفصول قبل هيزو في الرابط المثبت أول التعليق ~ ❀
التعليقات