كانت ليليا تُبدي وجهًا مُفعمًا بالسّرور لكونها ستذهب معهم. على النّقيض، كانت ملامح رنايا مليئةً بالقلق والانشغال.
‘هل كان هذا الخيارُ صائبًا حقًّا…؟’
هربت من القرية لتتفادى لقاء كاين روتشيستر، لكنّها وجدت نفسَها في موقفٍ يُجبرها على لقائه وهي تصحبُ الطفلة بنفسها.
في الوقت الحالي، لا يزال يجهل وجود ليليا، لذا قد يكون الأمر على ما يُرام…
لكن لا يُمكن الاطمئنان لذلك تمامًا.
“إنَّه مجرَّدُ حفلٍ بسيط، فلا تقلقي كثيرًا. ثمّ إنّني سأكون معكِ، أليس كذلك؟”
“… أليسَ كذلك؟”
كانت رنايا الوحيدة التي تشعرُ بثقلٍ في قلبها وهي في هذا المكان.
حاولت التظاهر بالتماسك وتابعت تناول العشاء.
كان عقلها منشغلًا بالتفكير في الحفل المرتقب، حتى إنّها لم تَعِ ما إذا كانت تضع الطعام في فمها أو في أنفها.
* * *
غادرت رنايا وابنتها مع هيرديان إلى العاصمة قبل أربعة أيّام.
وفي اليوم الذي سبق الحفل، استراحوا في مقرّ مؤقّت أُعِدَّ لهم هناك، ثمّ بدأوا الاستعداد لحضور حفل العشاء في اليوم التالي.
“… هاااه.”
تنهدت رنايا وهي تقف أمام المرآة.
ورغم أنّ الخدم تولّوا مهمّة تجهيزها بالكامل، إلّا أنّها شعرت بالإرهاق قبل أن يبدأ الحفل أصلًا.
أمسكت بطرف فستانها الفاخر ذي اللون البيجَ الفاتح بكلتي يديها بتوتّر.
كان خط الترقوة بارزًا، ما أشعرها بالإحراج. كانت تتحرّك كما لو أنّها ترتدي ثوبًا لأوّل مرّة في حياتها.
وفي تلك اللحظة، فَتحت ليليا البابَ على مصراعيه واقتحمت الغرفة.
“أمِّي! كيف أبدو؟”
بدت ليليا وكأنّها جنّية خرجت من إحدى القصص الخياليّة.
شعرُها البلاتيني كان مربوطًا إلى الأعلى على شكل ضفيرتين ملتفّتين، وفستانها الأخضر الفاتح المُزيَّن بالكشكش كان يتمايل بلطافة مع كلّ حركةٍ لها.
تمنّت رنايا لو أنّ الكاميرا قد اختُرِعت بالفعل. انحنت ورفعت يديها لتمسك بخدّي الصغيرة الناعمين وتُقابلها بمستوى نظرها.
“ليليا اليوم هي ألطف مخلوقٍ على وجه الأرض. تشبهينَ الجنيّة تمامًا.”
“حقًّا؟ أنا جنيّةٌ؟!”
“طبعًا. بالتأكيد.”
قفزت ليليا فرحًا وحماسة، فقد كانت تحبّ الجنّيّات أكثر من أيّ شخصيّة أخرى في القصص المصوّرة.
“إذا كنتُ أنا الجنيّة، فأنتِ يا أمِّي أميرة اليوم!”
“أنا؟”
“نعم! لأنّ أجمل شخص في العالم هي الأميرة! لذا، فأنتِ أميرة!”
“شكرًا لكِ يا جنيّتي الصغيرة على هذا الشرف.”
“لا شكر على واجب!”
كانت ليليا قد اندمجت تمامًا في لعبتها تلك.
أسعدها ذلك كثيرًا، لكنّ قلب رنايا ظلّ مثقلًا بالهموم رغم ذلك.
“ليليا، تذكّري ما وعدتِ به أمّك، أليس كذلك؟
لا يُمكنكِ التجوُّل لوحدكِ أبدًا. عليكِ البقاء إلى جانبي دائمًا.”
“أجل، سألتزم بالوعد!”
أعادت رنايا ترتيب غُرّة الصغيرة التي تفرّقت بفعل قفزها، ثمّ اعتدلت في جلستها.
كانت الساعة تشير إلى الرابعة مساءً. لم تكن مستعدّة نفسيًّا بعد، ولكنّ الوقت لا ينتظر أحدًا.
لقد حان وقت اللّقاء.
لِقاء والدِ ليليا البيولوجي، وزوجِ سيلين.
* * *
حتى قبل قليل، كانت ليليا تضحك بسعادة، لكنّها الآن بدت غاضبةً وهي تحدّق في هيرديان عاقدتً حاجبيها.
والسبب؟ أنّها سمعت من رنايا كلامًا صادمًا قبل لحظاتٍ من انطلاق العربة.
”ليليا، اسمعيني. حين نذهب إلى الحفل، علينا أن نؤدّي أدوارًا، كأنّها لعبة تمثيل.”
”لعبة تمثيل؟ هل أكون أنا الجنيّة؟”
‘همم، للأسف لا. اليوم ستلعبين دورًا مختلفًا. سيكون لديكِ أبٌ… هل ستتمكّنين من ذلك؟’
بل والأسوأ، أنّ ذلك الأب هو هيرديان.
ورغم أنّ رنايا أكّدت أنّها لعبة تمثيلٍ ليومٍ واحد، لم يرقَ ذلك لليليا إطلاقًا.
“همف.”
أدارت وجهها نحو النافذة وهي تُظهر انزعاجها الشديد.
ورغم أنّها طفلةٌ مطيعة، ومن المرجّح أن تساير الأمر في الحفل، إلّا أنّ حالتها هذه تُشير إلى أنّها ستظلُّ غاضبة لوقتٍ طويل.
تنهدت رنايا في سرِّها ونظرت بارتباكٍ نحو هيرديان الجالس أمامها.
كان شعره الأشقر مرتّبًا بعناية أكثر من المعتاد، ويرتدي بدلة سوداء رسميّة تُزيّنها بروش أخضر عند صدره.
كان واضحًا أنّهم ارتدوا ملابس متناسقةً كعائلة.
لاحظ هيرديان نظراتها أثناء تأمّله للمنظر خارج النافذة، فاستدار وسألها بشفتيه:
‘ما الأمرُ؟’
‘هل سنكون بخير؟’
ردّت عليه بنفس الطريقة وهي تُلقي نظرةً خاطفة نحو ليليا.
‘ما الذي تقصدينه؟’
‘أقصد كلّ شيء.’
كان ذهن رنايا مشغولًا بألف شيءٍ وأخر.
متى آخر مرّة شعرت فيها بهذا القدر من التوتّر؟
حياتها بعد سيلين لم تكن سهلة، لكنّ الوضع في الآونة الأخيرة فاق توقّعاتها.
كانت تفضّل العمل الشاق والتعب الجسدي على هذا الاضطراب النّفسي.
‘سيكون كلّ شيءٍ بخير.’
‘بأيّ دليل؟’
‘إحساسي.’
‘…’
أطبقت شفتيها. لم ترغب إلّا في ألّا يدوم هذا الغضب في قلب ليليا طويلًا.
وأثناء تبادلهما هذه الهمسات، بدأت العربة تُبطئ سرعتها، مشيرةً إلى اقترابهم من قصر عائلة روتشيستر.
رفعت رنايا رأسها ونظرت عبر النافذة نحو القصر، فاختنق تنفّسها للحظة.
ذلك هو المكان…
المكان الذي كان يسكن فيه هيرديان.
المكان الذي عاشت فيه سيلين عامًا من زواجها.
والمكان الذي كان يجب أن تُربّى فيه ليليا.
بل يُمكن القول إنّه المكان الذي بدأت فيه كلّ المآسي.
كانت ليليا أوّل من نزل من العربة، وأطلقت تعليقات إعجابٍ متتالية.
عيناها الكبيرتان اتّسعتا أكثر من المعتاد.
ثمّ نزلت رنايا بمرافقة هيرديان. كان القصر فخمًا وواسعًا بشكلٍ يبعث الرهبة.
تنفّست بعمق، ثم همست لهيرديان بصوتٍ لا يسمعه سواه:
“أعلم أنّه وقتٌ متأخّر للسؤال، لكن… كيف يفترض بي أن أتصرف كخطيبة؟
هل هناك ما يجب أن أحذر منه؟”
“ليس هناك شيءٌ خاص. تصرّفي على طبيعتكِ.”
كان الردّ غير مُجدٍ على الإطلاق.
ومع ظهور ملامح الاستياء على وجهها، ابتسم هيرديان بخفّة:
“وإن كنتِ قلقة، يكفي أن تُحبّيني ليومٍ واحد.”
“…”
“عندها، سيسهل عليكِ التصرّف تلقائيًّا.”
كان يعلم تمامًا أنّ الإعجاب كصديقة يختلف كثيرًا عن الإعجاب كرجلٍ وامرأة.
ومع ذلك، ألقى كلماته بسلاسةٍ تامّة.
ثمّ ضحك بهدوء وهو يرى تعابير وجهها تزداد عبوسًا.
“أمِّي، هل حقًّا لا يُمكنني الدخول إن لم أُشارك في لعبة الأدوار؟”
بدت على ليليا علامات التوتّر.
كان القصر ضخمًا لدرجة تُثير الفضول، لكنّه كان مُخيفًا بعض الشيء أيضًا.
“… أجل، فقط لليوم، سنكون عائلة.”
اتّجهت عيناها البنفسجيتان المُفكّرتان نحو هيرديان. ‘إنّها مجرّدُ لعبة. مجرّدُ تمثيلٍ ليومٍ واحد فقط…’
ردّدت ليليا ذلك في عقلها وهي تقف بينهما وتمسك بكلتا يديهما.
“ليليا؟”
“أنا لا أمسك يد العمّ لأنّني خائفة! إنّه فقط لأنّي أُريد التركيز على لعبة الأدوار!”
ضحك هيرديان بخفّة وبدأ بالسّير. دخل الثلاثة سويًّا إلى القاعة الضخمة وكأنّهم عائلةٌ مترابطة.
وبمجرّد دخولهم، عمَّ الصمت الحضور، وتوجَّهت عشرات، بل مئاتُ الأنظار نحوهم.
ارتبكت رنايا وشعرت بأنّ جسدها قد تجمّد من التوتّر.
‘يا إلهي… مُخيف…’
أما ليليا، التي لا تحبُّ لفت الأنظار، فقد أرادت الاختباء فورًا.
اختفى وجهها البشوش وبدت وكأنّها على وشك البكاء.
عندها، تكلّم هيرديان بنبرةٍ لطيفة:
“ليليا، لا بأس. فقط تمسّكي بيدي. سواء بيد أمّك أو يدي، لن نترككِ.”
عندما لم تتمكن رنايا من التصرّف، تولّى هو أمر تهدئة الطفلة. ربّت على رأسها بلطف، ثم نظر إلى رنايا.
“وإن احتجتِ أنتِ أيضًا، يُمكنكِ الإمساك بيدي.”
“… هل تمزح؟”
“أبدًا، أنا جاد.”
رمقته رنايا بنظرة جانبيّة، ثم أدارت رأسها بعيدًا.
لكنّها شعرت بانفراج توتّر جسدها إثر كلماتهِ.
وحين هدأ نفسها أخيرًا، بدأت تلتقط أصواتَ من حولها.
“إنّه بطلُ بين عامّة الشعب. سمعت أنّه ساهمَ كثيرًا في القضاء على قطّاع الطرق.”
“وما فائدة ذلك؟ لقد خسرَ معركة وراثة اللقب داخل العائلة. لو كنتُ مكانه، لما جئتُ إلى حفلٍ كهذا أبدًا.”
“ومن تلك المرأة القرويّة البائسة؟ ومن الطفلة؟”
لم تكن تملك سمعًا خارقًا، ومع ذلك استطاعت سماع كلماتهم اللاذعة بوضوح.
تعمّدوا رفع أصواتهم كي تصل إليهم.
لقد أرادوا استفزازهم عمدًا.
السبب واضح، فهؤلاء من مؤيّدي اللورد الحالي، ليبيد روتشيستر.
رغم أنّ الحفل كان مغلقًا على المقرّبين فقط، لم تتوقّع أن يتجرّأ أحد على التفوّه بتلك الكلمات المهينة علنًا.
ولحُسن الحظ، لم تسمع ليليا تلك الأحاديث، فقد كان توتّرها يمنعها من سماع أيّ شيء سوى دقّات قلبها المرتفعة.
شدّت رنايا على يد الطفلة أكثر لتُشعرها بالأمان.
وفجأة… سمعت خطواتٍ تقترب.
لم تكن سريعة ولا بطيئة.
استدارت رنايا نحو مصدر الصّوت، واتّسعت عيناها تدريجيًّا في ذهول.
وشعرت بأنّ الزّمن قد بدأ يتباطأ…
‘… كاين روتشيستر.’
رأته من قبل عن بُعد، لكنّ رؤيته عن قرب كانت كافيةً لانتزاع الأنفاس، كما وُصفَ في الرواية.
كان وسيمًا لدرجةٍ تُفقدكَ الكلمات.
✧───── ⋆⋅☆⋅⋆ ─────✧
ستجدون الفصول دومًا متقدمةً لهذهِ الرواية في واتباد وقناة الملفات،
حَسابي واتباد : _1Mariana1
( حسابي السابق قد حُذف)
وستجدون إعلانات تنزيل الفصول قبل هيزو في الرابط المثبت أول التعليق ~ ❀
التعليقات لهذا الفصل " 45"