دخلَ صمتٌ ثَقيلٌ مكتبَ العملِ.
تحلّى هيرديان بالصبرِ، وانتظرَ حتى تجيبَ رنايا، التي كانت تفكّرُ بسرعةٍ بالغة.
خطيبةٌ.
أعادتْ استدعاءَ التعريفِ القاموسيِّ لتلك الكلمةِ أولًا.
ألا تعني كلمةٌ لشريكين يَعِدُ كلٌّ منهما الآخرَ بالمستقبل؟
‘…لماذا تطلبُ مني شيءً كهذا؟’
رنايا، التي كانت تحدّقُ فارغةً في فنجانِ الشاي، ابتلعت زفرةً، ثمّ سألت بصعوبةٍ:
“أرجو أن تشرحَ لي السببَ أولًا.”
“دائمًا عندما ألتقي عمّي، يَطرحُ موضوعَ الخطبةِ.
أظنّ أنّ رنايا ستفهمُ ذلك.
لقد عانيتِ أيضًا عندما كنتِ في الجنوب.”
يبدو أنّ الأمرَ نفسهُ في العاصمةِ أو القريةِ، إذ يستمرُّون في مضايقةِ شابٍّ بلغَ سنَّ الزواجِ ولم يتزوج بعد.
عبّست رنايا وتجعد جبينَها.
رغم فهمها تقريبًا سبب طلبه، إلّا أنّها لم تستطع قبوله.
ذلك لأنّه في الحفل، سيكون هناك كاين روتشيستر، والد ليليا الحقيقي.
“أنا لا أفكّر في الزواج.
كلّما تحدثتُ، لم يستمع عمّي إليَّ أبدًا.”
“…هل هير مستقلّ؟”
“لم أفكّر بذلك بالتحديد، لكن الأمرَ لا يختلف كثيرًا.”
“…”
“الأكيدُ أنّني الآن لا أرغب في الزواج.
ولا أريد أحدًا.”
عادةً، يَعتبرُ النبلاءُ استمرار النسل أمرًا مهمًا، للحفاظِ على اسم العائلة.
كان دوق روتشيستر لا يرضى بسيلين لأنّها كانت تعاني صعوبةً في الحمل لهذا السبب.
لكن هيرديان مختلف.
لم يكن ملزمًا بالإصرار على استمرار النسل، لأنّ العدو أخذَ عائلته منه.
ولا يستطيع حتى تخيّل مدى الاشمئزازِ من العدو الذي قتل والديه ويقحمُ نفسه في مسألة خطبته.
‘…آه، فعلاً عائلة روتشيستر هي الأسوأ.’
كانت تلك انطباعاتِها وهي تقرأ الرواية.
بعد طرد هيرديان، أصبحت عائلة روتشيستر شريرةً كأنّها جماعة شياطين تتخفّى في هيئة بشر.
حتى القارئُ الذي يقرأ فقط يشعر بالاشمئزاز.
انتابها إحساسٌ بالغثيان قليلًا.
أغمضت رنايا عينيها وزفرت زفرةً عميقة.
“رنايا؟”
“…لا شيء.”
ثمّ جمعت نفسها بالكاد، وواصلت الكلام:
“لماذا أنا؟
لو أنّهم يريدون شخصًا يؤجل يومًا واحدًا، فليس بالضرورة أن أكون أنا.”
“لا أظنّ أنّ هناك غيرك يا رنايا.”
قال ذلك، وهيرديان خفض رأسه قليلاً.
دخلت رنايا في تفكيرٍ عميق لثوانٍ، ثم أطلقت صوتًا صغيرًا: آه.
كانت قد نسيتْ للتوّ أنّ هيرديان لا يثقُ في الناس بسبب خوفه من الخيانة.
“إذا كنتِ تكرهين ذلكَ ، بإمكانكِ الرفض.
كما قلتُ من البداية، هذا طلب فقط، وليس إكراهًا.”
رغم قول ذلك، كان تعبيرُ هيرديان قاتمًا.
لو لم تذهب معه، لكان عليه الدخولُ وحده إلى معسكر العدو وحيدًا.
‘هل ما زالوا يخططون للإيقاع به؟
وإلا لما تحدث عن الخطبة.’
كيف يرفضُ ابنُ اللورد في بيرماوين خطبةً، وهو الذي لا يستطيع حتى رفضَ دعوة لا يريدها؟
أدركت رنايا كم يعيش هيرديان وحيدًا.
قالوا سابقًا إنّ عائلته مشغولة بمطاردة ممتلكاته.
وكانوا على حقّ.
عائلته تريد كل شيء منه، حياته ومستقبله وحتى روحه.
المهلة للرد على دعوة الحفل يومان فقط.
قال لها هيرديان أن تفكري في الأمر بهدوء.
بعد الخروج من المكتب، مزّقت رنايا شعرَها بين يديها وصاحت بلا صوت:
‘هل جننت؟
هل فقدتِ عقلك؟
حتى لو طلب هير، كان عليكِ الرفض!
هذا مستحيل!’
تعبتْ كثيرًا، فاستندت إلى الحائط القريب وأخذت نفسًا عميقًا.
لكنها لم تستطع قول أي كلمة، فكان من الصعب عليها رفض طلب هيرديان مباشرةً.
‘هل سيكون الأمر أسهل لو ساعدته؟’
كانت نيتها مخلصة ألا يعاني بسبب عائلته عديمة القيمة.
تعرف رنايا جيّدًا أنّ الجرح الذي يسببه الأقارب أشد ألمًا من جرح الغريب.
“لكن هذا مستحيل…”
ضربت جبينها على الحائط بلا سبب.
رنايا الغبية.
حقًا رنايا الغبية.
في تلك اللحظة، سمعت ضحكات ليليا من الخارج.
فركت جبينها الأحمر وتوجهت نحو النافذة كما لو كانت مسحورة.
رأت ليليا تلعب بصنع رجل ثلج مع سيرف، الذي عاد للتوّ.
“جدي، هذا ليس صحيحًا!
يجب أن تجعل رجل الثلج أكثر استدارة!”
“…أهكذا تقصدين؟”
“يجب أن تصنعه أكثر ظرافة، مثل ليليا!”
ابتسمت رنايا قليلًا.
رؤية طفل يضحك جعلـها ترفعَ شفتيها تلقائيًا في إبتسامةٍ.
لكنّها سرعان ما تذكرت طلب هيرديان، فعاد العبوس إلى وجهها.
قبضتا يديها بقوة.
لو حضرت الحفل، سترى بنفسها كاين روتشيستر، البطل الذكر في قصة سيلين ووالد ليليا الحقيقي.
‘ماذا سأفعل حين أراه؟
هل أغضبّ منه على تعذيب سيلين؟
أم أخبره بأنّ لديها طفلًا؟’
سألت رنايا نفسها، لكن لم تجب أيّ إجابة.
رغم ذلك، من الضروري أن تعرف أخبار كاين.
اختارت سيلين بالفعل طريقًا مخالفًا لسير الرواية، فلا يمكن استبعاد احتمال تصرف كاين بطريقة مختلفة.
‘…ماذا لو لم يكن كاين يفتقد سيلين كما في الرواية؟’
حينها سيكون الأمر جيدًا لها ولليليا، فلن تضطرا للهروب من عائلة روتشيستر.
لكن فجأة خطر في بالها أمنيةٌ بأن يبقى كاين يفتقد سيلين.
رغم أنّ سيلين هربت ولن تعود أبدًا.
كما عانت سيلين، ليت هو أيضًا يعاني…
* * *
“أنا أكره الدراسة فعلاً.”
تمتمت ليليا، واضعة خدّها على المكتب، ومخفضةً رأسها.
كانت شفتاها البارزتان مليئتان بالامتعاضِ.
كانت هذه هي المرة الثانية التي تحضر فيها الدرس هذا اليوم.
وصلت بيليندا إلى القصر بالفعل، وكانت تُجري محادثةً قصيرةً مع رنايا، بينما جلست ليليا في مكانها بانتظار بداية الدرس.
“هاا…”
الدرس الأول، الذي جرى قبل يومين، لم يكن شيئًا مميزًا.
قدموا أنفسهم، وكتبت ليليا إجابات قصيرة على ورقة الأسئلة التي أعطتها بيليندا.
[الأشياء المفضلة]
أمّي، الجدة هيلدي، اللعب مع أمي، فطيرة التفاح التي تصنعها أمي،
النوم مع أمي.
[الأشياء المكروهة]
الأشخاص الذين يؤذون أمي، الدراسة، هـ
[الهوايات]
اللعب.
[ما أريد أن أكونه في المستقبل]
تركَ فارغًا
كتبت حرف “هـ” في قسم الأشياء المكروهة، ثم محته بقوة.
لم تجب على السؤال الأخير، وسلّمت الورقة هكذا.
أمعنت بيليندا في قراءة الإجابات، التي تستغرق خمس ثوان فقط، بابتسامة خفيفة، وسألت:
“هل تكرهين الدراسة يا ليليا؟”
“نعم.”
“هل تستطيعين شرح السبب؟
ليس استجوابًا، بل فضول لمعرفة سبب كرهك للدراسة.
البعض يجدها صعبة، وآخرون لا تناسب ميولهم.
ماذا عنكِ؟”
وجدت ليليا أنّ المعلمة غريبة.
عادةً، من يكره الدراسة يُوبّخ.
على الأقل، في الكتب التي قرأتها، كان هذا هو الحال.
“لأن الوقت الذي أقضيه بعيدًا عن أمي طويل.”
لم تتردد في الإجابة.
“ليليا تحب أُمّها.”
“نعم.”
“لكن لا يمكن أن يبقى الحال هكذا إلى الأبد.
ليليا ستصبح كبيرة يومًا ما، وعليها رعاية أمها.”
“…ليليا؟”
لم تفكر أبداً في أنّها ستكون من يعتني بأمها.
كانت تظنّ ببساطة أنّها ستظل صغيرةً وتُعتنى بها طوال حياتها.
“بالطبع.
مع أنّ الأمر يتطلب جهدًا كبيرًا، الدراسة أحيانًا هي وسيلة للحفاظ على من نحبّ وسعادتنا.”
لم تكن ليليا معتادة على رعاية رنايا في البداية.
لم تكن تنظّفها جيدًا، ولا تلبسها ملابس أنيقة، وطعامها لم يكن لذيذًا، وأغانيها كانت غريبة.
لكنّ مهارات رنايا تحسنت يومًا بعد يوم، وأصبحت تعتني بها كما لم تفعل من قبل.
كانت ليليا تعرف أنّ كل هذا كان ثمرة جهد.
“يبدو أنّ شيئًا خطر في بالكِ.
إذا أردت أن تبقى سعيدة بجانب أمك، عليك أن تبذلي جهدًا.
البداية أن يكون لديكِ رغبة في التعلم.”
الجهد للبقاء بجانب أمها.
هذا الكلام أثر في ليليا، التي تكره الدراسة، فقررت في النهاية حضور الدرس.
“ما زلتُ أكره الدراسة…”
جمعت ليليا شتات نفسها وعدّلت جلستها.
نظرت إلى الساعة، وكان الدرس قد تأخر 20 دقيقة.
بعد تردد، نزلت من الكرسي.
كان القصر واسعًا، ومن المحتمل أن المعلمة ضاعت.
“كنت أضيعُ الطريق كثيرًا في البداية.”
فكرت ليليا أنّها طالبةٌ جيدةٌ، ويجب أن تُساعد المعلمة التي ضاعت في إيجاد الطريق.
بينما كانت تمشي في الرواق، سمعت همسات خافتة لصديقين يفتحان الباب قليلاً ويتحدثان بصوت منخفض:
“كيف سنصمم الفستان؟
حتى لو طلبناه من الصالون الآن، سيكون متأخرًا…”
تغير تعبير ليليا تدريجيًا بعد سماعها حديث الخدم عن طريق الخطأ.
بعد خروج الخدم وابتعادهم، لم تستطع الطفلة أن تتحرك من مكانها بسبب الصدمة.
‘…أمي ستذهبُ مع هذا الرجل بدونّي؟’
✧───── ⋆⋅☆⋅⋆ ─────✧
ستجدون الفصول دومًا متقدمةً لهذهِ الرواية في واتباد وقناة الملفات،
حَسابي واتباد : _1Mariana1
( حسابي السابق قد حُذف)
وستجدون إعلانات تنزيل الفصول قبل هيزو في الرابط المثبت أول التعليق ~ ❀
التعليقات