كانت رنايا قد ارتعشت بخفة عندما سمعت القصة.
ذكّرتها ماضيه، الذي لم يستطع الاتكاء فيه على عائلته، بماضيها هي.
فقد تُوفِّي والديه في سنٍ صغيرة، وتُرك وحيدًا في أرض قاسية، لذا كان من الطبيعي أن يجد صعوبة في التعامل مع الناس حتى الآن.
وفي هذا اليوم بالذات، كانت تتكرر في ذهنها ذكريات لقائهما الأول.
أنهى هيرديان كلامه وغير موضوع الحديث.
كان ذلك إشارة واضحة إلى أنه لا يرغب في الاستمرار في هذا الموضوع.
جلست تستمع إليه باهتمام، تنظر إلى الحطب المشتعل المتوهج، تومئ برأسها أحيانًا وترد عليه بإجابات قصيرة.
وعندما بدأت تشعر بأن وقتًا طويلاً قد مر، بدأت فقط تسمع أنفاسهُ الهادئة والمنتظمةَ إلى جانبها.
خلال الحديث، غلبها النعاس وبدأ رأسها يتمايل، ثم ما لبثت أن أسندت رأسها على كتفه.
لقد غطّت في نومٍ عميق لدرجة أن أحدًا لم يكن ليوقظها بسهولة، ولم تسمع حتى من يناديها.
أما هيرديان، فتنفّس بهدوء، ثم مرّر يده على شعره،
وكأنما يحاول كتمان مشاعره في صمت.
‘… هل هي مرتاحة جدًا؟’
في وقت ما، كانت تكرهُ حتى الكلام معهُ.
هناك أشخاص في العالم يتعاملون بقسوة مع من هم خارج دائرتهم، لكنهم يمنحون كل شيء من قلبهم لمن يدخلونها. وكانت رنايا واحدة منهم.
توقف نظر هيرديان عند معصم رنايا الأيسر.
رأى علامة حمراء تحت الكم، كانت أثر قبضته القوية قبل قليل.
خفض رأسه قليلاً وقبل المعصم الرقيق الذي لا يُصدق أنهُ لـمزراعٍ، كما لو كان يعامل أغلى شيء في العالم.
* * *
وقفت رنايا أمام المرآة تعدل ملابسها بتوتر.
لم يكن هناك فرق كبير عما كان عليه الأمر سابقًا، لكنها حرصت على ترتيب حاشية التنورة لتبدو بأقصى درجات الأناقة.
أخذت نفسًا عميقًا لتستجمع أنفاسها حين طرق الباب وأعلن أحد الخدم عن وصول ضيف.
“نعم، سأخرج!”
نزلت رنايا مسرعة إلى الطابق الأول.
هناك كانت امرأة بشعر أحمر مجمع في ضفيرة أنيقة ترتدي فستانًا بنيًا هادئًا، تنتظرها.
“مرحبًا بكِ! لقد أتيتِ من مكان بعيد، شكرًا لتحملكِ المشقة.”
“تشرفتُ بلقائكِ. هل أنت الآنسة فيليت؟”
“نعم، هذا صحيح.”
وضعت المرأة حقيبتها وانحنت انحناءة محترمة وأنيقة، خالية من الزوائد.
“أنا بيليندا دوران، سأعمل كمعلمة خصوصية للطالبة ليليا فيليت اعتبارًا من اليوم. أرجو التعاون منك.”
جف حلق رنايا.
رغم أنها شربت كوبين من الشاي، ظل فمها جافًا جدًا.
لم تعرف كم مرة شعرت بهذا التوتر في حياتها.
قدمت بيليندا بعض الوثائق من حقيبتها، ولفت انتباهها عدة بنود.
[التزام السرية] (رسالة)
① لا يجوز للمعلمة الكشف أو تسريب معلومات الطالب أو بياناته الشخصية التي تعلمتها خلال العملية التعليمية لأي طرف ثالث.
② في حال خالفت المعلمة هذا البند، يحق للمتعهد مطالبتها بغرامة تعادل 20 ضعف قيمة العقد.
[غرامات الفشل في الامتحان]
① الغرض الأساسي من العقد هو توجيه الطالبة ليليا فيليت لاجتياز امتحان القبول في أكاديمية كليرفور.
② إذا لم تنجح الطالبة في الامتحان، يجب على المعلمة دفع غرامة تعادل 10 أضعاف مبلغ العقد للمتعهد.
كانت رنايا، التي كانت تقرأ العقد المليء ببنود غير معتادة، تتوقف عند كلمة واحدة.
“… أكاديمية كليرفور؟”
كانت أكاديمية سمعت بها من قبل، بعد بحثها المستقل عن مستقبل ليليا الدراسي.
كانت مدرسة رفيعة المستوى، حتى الأمراء من العائلة الملكية يلتحقون بها.
“أليست هذه الأكاديمية مقتصرة على النبلاء فقط؟”
رغم أن ليليا من نسل نبلاء، فهي الآن فقط من عامة الشعب.
“عادةً، نعم، ولكن ليس من المستحيل الالتحاق بها.
يمكن لأي شخص التقدم للامتحان بغض النظر عن نسبه، وإذا حقق نتائج ممتازة، يُسمح له بالالتحاق استثنائيًا.”
النتائج الممتازة…
لم تكن رنايا تضع أي أمل في ذلك.
كيف يمكن لليليا التي تربت بين عامة الناس أن تتفوق على أولئك النبلاء الذين تلقوا تعليمًا راقيًا منذ صغرهم؟
“لماذا أكاديمية كليرفور؟ لا أذكر أنني طلبت مدرسة معينة…”
“عادةً ما يُعد العقد بناءً على أعلى مستوى أكاديمي. وتُضاف غرامات حتى تحفز المعلمة على بذل جهد أكبر. بالطبع يمكنك تعديل هذا لاحقًا إذا أردت.”
كانت الغرامات كبيرة جدًا.
عقد مليء بالشروط المجحفة من البدايةِ إلى النهايةِ.
كان من الغريب أن يكتب هيرديان مثل هذا العقد، ومن الغريب أيضًا أن تقبل به بيليندا.
“… لماذا وقعتِ على هذا العقد؟”
“لأنهم دفعوا مبلغًا كبيرًا.”
كان مبلغ العقد جذابًا للغاية، فقد تم دفع 5000 قطعة ذهبية فور التوقيع.
في حين أن كسب 1000 قطعة ذهبية في السنة يحتاج لجهد كبير، كانت هذه المبالغ تُكسب ببضعة أشهر من العمل، وهو إغراء كبير لبيليندا.
“وأنا واثقة من نفسي. كل الطلاب الذين علمتهم اجتازوا الأكاديمية بنتائج ممتازة.”
نظرت رنايا في وثائق أخرى تظهر خبرات بيليندا، التي يبدو أنها أدخلت طلابًا جيدين إلى مدارس مرموقة.
لكن هذا كان مع النبلاء فقط، أليس كذلك؟
لم يتبق سوى ستة أشهر على الامتحان، وكانت الشهور تبدو قصيرة جدًا.
كانت قلقة بشدة إن استطاعت ليليا مواكبة الدروس في هذه الفترة القصيرة.
“سأحدد جدول الدروس بعد أول حصة بناءً على مستوى الطالبة. يمكنك حضور الدروس إن أردت، ما رأيكِ؟”
“… لا، لن أحضر. شكرًا لكِ يا معلمة.”
وضعت رنايا العقد جانبًا وانحنت برأسها برفق.
رتبت بيليندا حقيبتها، ثم غادرت بإرشاد الخادم الذي كان ينتظرها عند الباب.
أُغلق الباب، وزفّت رنايا نفسًا طويلًا وجلست على الأريكة.
غطى العرق البارد جسدها.
فقط تحدثت عن تعليم ابنتها، لكنها لم تكن تعرف أن الأمر سيُرهقها بهذا الشكل.
‘… هل سيكون الأمر على ما يرام؟’
ليليا التي تكره الدراسة ربما لن تتحمل أكثر من ساعة وتفر هاربةً.
لم توقع العقد بعد.
إذا لاحظت أن ليليا تجد الدروس صعبة للغاية بعد أول حصة، ستلغي وظيفة المعلمة الخصوصية.
المدرسة والدراسة فقط لتوسيع أفق ليليا، وليس لإيذاء رغباتها الشخصية.
نظرت رنايا إلى الباب بقلق عميق.
* * *
استغرقت الحصة الأولى ثلاث ساعات.
لحسن الحظ، لم تفر ليليا خلال الدرس، لكنها لم تبدُ سعيدة بعد انتهائه.
“إذًا، أراكِ في الحصة القادمة.”
غادرت بيليندا بسرعة بعد الحصة الأولى دون تعليق. بدا أن الدرس كان جيدًا بالنسبة لها.
بعد رحيل المعلمة، أبدت ليليا تعاسة وراحت تتودد لرنايا.
“… هيين، أمي… ليليا تعبت…”
كانت عادة تتودد كثيرًا، لكنها اليوم بدت ضعيفة جدًا ومرهقة.
جلست رنايا ليليا على حضنها واحتضنتها بشدة.
رأت أن إصرارها على جعلها تدرسُ في هذا الوقت قد يكون مبكرًا جدًا.
“ليليا، هل كان الدرس صعبًا جدًا؟”
“نعم.”
“هل تعتقدين أنه سيكون صعبًا في المستقبل؟”
“نعم.”
“إذن، ماذا لو لا تذهبين للمدرسة؟”
“…”
أغلقت ليليا فمها عن الإجابة على هذا السؤال.
“أمكِ لا تريدكِ أن تضغطي على نفسك. سأخبر المعلمة بذلك…”
“لا، أمي.”
“ماذا؟”
رفعت ليليا رأسها وأجابت بحزم، وعينيها البلوريتان لا تعرفان التردد.
“سأبذل جهدي في الدروس.”
“… أليس صعبً؟”
“صعب، لكن يمكنني تحمّله. أمي كانت تعمل بجد رغم الصعاب.”
“…”
“أريد الدرس، أستطيع فعلهُ.”
دهشت رنايا من نضوج ليليا المفاجئ، وربتت على رأسها.
نزلت ليليا عن حضن والدتها وجلست على الأريكة وأدخلت قطعة من البسكويت في فمها.
“أمي، لنأكل بعض الوجبات الخفيفة ثم نذهب للعب. اتفقنا سابقًا على صنع رجل ثلج.”
“… حسنًا، لنفعل ذلك.”
شعرت رنايا كما لو كبرت ليليا فجأة، فلم تستطع حتى التفكير في أكل البسكويت.
[101 طريقة للتربية السليمة]
تذكرت كتابًا كان يقرأه هيرديان الليلة الماضية.
فكرت في استعارته وقراءته قريبًا.
على الرغم من أنها ربّتت طفلها لمدة عامين، إلا أنها ما تزال تشعر بأنها تفتقر إلى المعرفة والخبرة.
‘هل كان عليّ أن أشجعها بدل أن أطلبَ منها التوقف؟’
تمنت وجود معلم متخصص يساعدها في تربية الطفل.
لاحقًا، أخذت رنايا ليليا إلى ساحة القصر لصنع رجل ثلج.
كانت تدحرج الثلج بحماس لتكوّن كرة، بينما أحضرت ليليا أغصانًا وحجارة لتزيين رجل الثلج.
“هذا من يكون؟”
“الرجل العجوز.”
كان أبسط رجل ثلج مصنوع هو هيرديان.
“وماذا عن هذا؟”
“أمي.”
رجل الثلج الذي زُيّن بحجارة مستديرة وجميلة كان يمثل رنايا.
“والصغير؟”
“ليليا، أليس كذلك؟”
رجل الثلج الصغير والجميل كان ليليا.
ابتسمت رنايا لشعورها بالحب الذي تبديه ليليا من خلال هذا الرجل الثلجي.
كانت تبدو كطفلة صغيرة حقًا.
بينما كانتا تلعبان، سمعتا صوتًا عاليًا من أمام بوابة القصر.
“وصل البريد!”
“أمي، يبدو أن هناك رسالة من جدتي!”
لم تستطع رنايا إيقاف ليليا، التي ركضت لتستلم البريد من الباب.
كانت تبدو متحمسة جدًا لكنها نظرت إلى ظرف الرسالة بحيرة.
“ما خطبك، ليليا؟”
“كاين روتشيستر؟”
✧───── ⋆⋅☆⋅⋆ ─────✧
ستجدون الفصول دومًا متقدمةً لهذهِ الرواية في واتباد وقناة الملفات،
حَسابي واتباد : _1Mariana1
( حسابي السابق قد حُذف)
وستجدون إعلانات تنزيل الفصول قبل هيزو في الرابط المثبت أول التعليق ~ ❀
التعليقات