لمْ يكن الطريق إلى الجنوبِ سهلًا.
فقد تعرّض لهجومٍ من قِبلِ قَتَلةٍ تنكّروا في هيئةِ لصوص، وانتهى به الأمر إلى أنْ يُدفع نحو حافّةِ جرفٍ لا نهايةَ له.
ولم يُدرِك أنّه قد تعرّضَ للخيانةِ إلّا بعدما طُعنَ بسيفِ ميغيل هناكَ.
‘ميـ…ـغيل…؟ لماذا أنتَ…؟’
لم يُقدّم ميغيل أيّ عذر.
لمْ يبرّر خيانته له… بأيِّ شيء.
شعرَ بألمٍ حادٍّ في كتفهِ الأيسر، تمامًا حيثُ استقرّ السيف.
“تبًّا…”
اجتاحتْهُ موجةٌ قاسيةٌ من العجزِ، فأغمضَ عينيه.
لكنْ، ما إنْ استعادَ ذكرى الشخصِ الذي خطّطَ لكلّ هذا، حتّى غَلَتْ أحشاؤهُ من الغضبِ الذي لمْ يستطعْ كبته.
لقد حدثَ هذا عدّةَ مرّاتٍ من قبل.
رغمَ أنّهُ لمْ يكنْ يملكُ رغبةً في الحياة، إلّا أنّ مجرّدَ التفكيرِ في أولئك الذين يتمنّونَ موتهُ كانَ كافيًا ليُبقيه على قيدِ الحياة.
لو ماتَ الآن، ألن يكونَ ذلك بالضبط ما يريدونهُ؟
‘…لا يمكنني أنْ أموتَ بهذه السهولة.’
تساءلَ كيف ستكونُ وجوههم عندما يرونَه قد عاد حيًّا، رغم أنّهم ألقوه من فوقِ الجرف.
هل سيصرخون كأنّهم رأوا شيئًا لا ينبغي لهم رؤيتُه؟ أم سيقبحونَ بوجوههم من القرف؟
ارتدى هيرديان قميصًا ممزّقًا على عجل، وأخذَ سيفَهُ ثمّ غادرَ المخزن.
كانَ يتّكئ على سيفِه وكأنّه عصًا، يتقدّمُ مترنّحًا خطوةً تلو الأخرى.
لكنّه لمْ يبتعدْ كثيرًا، إذ سرعانَ ما انهارَ فاقدًا وعيه من جديد، في مكانٍ ليس ببعيدٍ عن المخزن.
رنايا، التي اكتشفتْ أنّ الزراعة تُناسبُها بشكلٍ مدهش، كانتْ تملكُ في الماضي حلمًا مختلفًا.
عندما كانتْ بالكادِ في العاشرةِ من عمرها، كانَ حلمُها أنْ تُصبحَ طبيبة.
وبالطّبع، كانتْ تعرفُ جيّدًا مدى بُعدِ هذا الحلمِ عن الواقعِ في قريةٍ كلُّ سكّانها من المزارعين.
فلماذا إذاً حلمتْ بأنْ تُصبحَ طبيبة؟
لأنّها كانتْ ترغبُ في أنْ تكونَ شخصًا يُفيدُ القرية.
وكانَ الشخصُ الأكثرُ حاجةً فيه هو الطبيب.
‘سأُصبح طبيبة. وسأُعالجُ أهل القرية. وسأُساعدُ جدّتي.’
وبعدما حملتِ هذا الحلم، بدأتْ تُلحّ على هيلدي يوميًّا بأنْ تُعلّمها.
وفي عيد ميلادِها من تلك السنة، حصلتْ على كتابٍ طبيٍّ ثمينٍ كهدية.
”شكرًا جدّتي! أنتِ أفضلُ شخصٍ في العالم!”
”أوه، هل تُحبّينهُ إلى هذه الدرجة؟”
”نعم! رنايا ستُصبحُ طبيبة عندما تكبر!”
لمْ تكنْ قد درستْ بهذه الجديّةِ من قبل.
تخلّتْ عن اللعبِ مع أصدقائها، وكانتْ تقرأ الكتبَ ما إنْ تفتحَ عينيها.
قرأتْ الكتاب حتّى تآكلتْ صفحاته، ومع هذا لمْ تملّ، فأعادتْ قراءتَه مرارًا.
لكنّها لمْ تطلبْ كتبًا إضافية.
فرغمَ صغرِ سنّها، كانتْ تدركُ كم هي باهظةُ الثمنِ ونادرةُ الوجود.
ثمّ، شيئًا فشيئًا، بدأ أطفالُ القريةِ يقصدونها عندما يتعرّضونَ لجروح.
كلّ هذا بدأَ بعد أنْ عالجتْ صديقين لها، وانتشرَ الخبرُ بأنّ رنايا تُعالجُ كأنّها طبيبة.
شعرتْ رنايا بسعادةٍ كبيرة.
فقد شعرتْ بأنّها تقتربُ من حُلمها، وبأنّها أصبحتْ نافعةً في القرية.
وكانَ هذا الوقتُ أيضًا هو عندما بدأ الناسُ يتوقّفونَ عن وصفِها بـ”الغريبة”.
إذْ لمْ يتمّ الاعترافُ بها كفردٍ من قريةِ لوكل إلّا بعد أنْ بلغتْ العاشرة.
لقد شعرتْ بسعادةٍ عارمة… لكنّها لمْ تدمْ طويلًا.
“‘هل ستُصبحين طبيبة عندما تكبرين؟”
سألها أحدُ أصدقائها، فأومأتْ برأسها.
”إذًا، ستُغادرين القرية لاحقًا، أليس كذلك؟”
”…لماذا أُغادر؟”
”لأنّه لا يمكنُ التعلّمُ بشكلٍ صحيحٍ في قريةٍ كهذه. أمّي تقولُ إنّ مَن يُريدُ أنْ يُصبحَ طبيبًا، عليهِ أنْ يتعلّمَ في مكانٍ ضخمٍ جدًّا.”
شعرتْ وكأنّ صاعقةً ضربتها.
كانتْ هذه أوّلَ مرةٍ تعرفُ فيها أنّ عليها مغادرةَ القرية لتُصبحَ طبيبة.
ولمْ تُردْ حتى أنْ تتخيّلَ ذلك.
ركضتْ عائدةً إلى المنزل، وهي تفتحُ البابَ بعنفٍ رغم أنّها كانتْ عادةً هادئةً جدًّا، فحدّقتْ فيها هيلدي بدهشة.
”هلْ حدثَ شيء؟”
‘جدّتي… هلْ صحيحٌ أنّ مَن يُريدُ أنْ يُصبح طبيبًا عليه أنْ يُغادرَ القرية؟’
أرادتْ أنْ تسألها بهذا الشكل، لكنّها لمْ تستطعْ.
فلو كانَ ذلك حقيقيًّا، كانتْ متأكّدةً من أنّ جدّتها سترسلُها بعيدًا دونَ تردّد.
”…أنا لا أُريدُ أنْ أكونَ طبيبةً بعد الآن.”
”هم؟ لماذا غيّرتِ رأيكِ فجأة؟ كنتِ تقولين إنّكِ تُريدين ذلك.”
”فقط… لمْ يعدْ ممتعًا.”
رغم أنّها نشأتْ في قرية لوكل، إلّا أنّها لمْ تُولدْ فيها.
فقد وُجدتْ وهي رضيعةٌ تطفو في سلّةٍ على النهر، فأنقذتها جدّتها وربّتها.
وكانَ اسم رنايا مُطرّزًا على القماشةِ التي وُضعتْ فيها.
لذلك، كانَ اسمُها رنايا.
ولمْ ترغبْ أبدًا في مفارقةِ جدّتها، التي كانتْ المنقذة والوحيدة في عائلتها.
‘طالما أنّ جدّتي معي، فأنا لا أحتاجُ شيئًا آخر.’
رغبتها في أنْ تُصبحَ شخصًا مفيدًا في القرية كانتْ كلّها لأجل جدّتها.
كانتْ ترى أنّ هذا هو السبيلُ الوحيدُ لردِّ الجميل لها.
بالنسبةِ لرنايا الصغيرة، لمْ يكنِ الحُلمُ هو ما تُريدُ أنْ تُصبحهُ في المستقبل، بلْ ما يُمكنُ أنْ يُرضي جدّتها.
ولو كانتْ مضطرّةً للابتعادِ عنها، فذلكَ الحُلمُ يفقدُ كلّ معناه.
“لنْ أُصبح طبيبة. سأفعلُ شيئًا آخر.”
والشيءُ الآخر الذي اختارتْه كانَ الزراعة.
لأنّها الوظيفة الثانية الأكثرُ حاجةً في القرية بعدَ الطبيب.
ولحُسنِ الحظ، وجدتْ الزراعة ممتعة، وتُناسبُها.
واستطاعتْ أنْ تُخفّفَ العبءَ عن جدّتها، كما أنّها شعرتْ بالانتماءِ وهي تعملُ مع باقي السُكّان.
ومرّتْ عشرُ سنوات.
وصارَ حُلمُ رنايا الوحيد:
‘أنْ أحافظَ على هذا السلام.’
* * *
كانتْ رنايا نائمةً على الطاولة، وها هي ترفعُ جسدها ببطء وهي تُبدو عليه علاماتُ النعاس.
فتحتْ عينيها المتورّمتين، وتثاءبتْ بقوّة.
“آاااه…”
بعد أنْ عادتْ من المخزن صباحًا لتتناول الطعام، غفَتْ فجأة.
نظرتْ إلى الساعةِ المُعلّقة على الجدار، محاولةً فكّ تصلّب جسدها.
كانتْ تظنّ أنّها أغمضتْ عينيها للحظة، لكنّها نامتْ لأربعِ ساعات، وصارَ وقتُ الغداء.
“هلْ خرجتْ جدّتي بالفعل؟”
وكانَت تشعرُ بالجوع، فاكتفتْ بقطعةِ خبز، ثمّ دخلتْ المطبخ.
رغمَ أنّ حركتها بدتْ بطيئة، إلّا أنّ يدَيْها كانتا سريعتَيْن.
قشّرتِ البطاطا بمهارة، وشرعتْ في إعدادِ الحساء.
كانَ هذا الحساءُ من أجلِ المريضِ الراقدِ في المخزن.
كانتْ تخطّطُ لتأخذَ لهُ الحساءَ، تُراقبُ حالته، ثمّ تزورُ بيتَ سيلين.
فاليومُ هو عيدُ ميلادِ ليليا.
ولحُسنِ الحظ، ما زالَ لديها متّسعٌ من الوقت.
سكبتْ حساء البطاطا في وعاءٍ صغير، وخرجتْ من المنزل.
الجوُّ ما يزالُ رطبًا.
ومضتْ تخترقُ المطرَ الكثيفَ مُتوجّهةً نحو المخزن.
‘ترى، هلْ عادَ إليه وعيه؟’
السببُ الذي جعلها تبقى بجانبه حتى الصباح، هو أنّ حرارته لمْ تنخفضْ طوال الليل.
وكانَ يتأوّه باستمرارٍ ويتقلّبُ، إمّا بسببِ الألم، أو بسببِ الكوابيس، ممّا جعلها لا تستطيعُ تركَه.
وعندما استقرّ حالُه صباحًا، تركتهُ قليلًا.
‘ماذا لو لمْ يستعدْ وعيه؟ والمطرُ لا يبدو أنّه سيتوقّف قريبًا…’
وبينما كانتْ تغرقُ في تلكَ الأفكار القلقة، رأتْ جسدًا مألوفًا وغريبًا في آنٍ معًا.
كانَ الرجلُ مُنهارًا على الطريقِ المؤدّي إلى الجبل الخلفي.
صرختْ بدهشة، وسقطَ منها الوعاء وهي تُسرعُ نحوه.
“يا سيّدي!”
لكنّه كانَ فاقدًا للوعي من جديد.
ويبدو أنّه حاولَ التحرّك بعد أنْ استفاقَ قليلًا، فانهارَ مرّةً أخرى.
نظرتْ إليه بدهشةٍ ممزوجةٍ بالأسى.
كيف يُحاولُ التحرّك وهو في هذه الحالة؟ لا بُدّ أنّه فقدَ صوابَه.
كما في الأمس، سحبتهُ على الأرضِ وجرّتهُ إلى المخزن.
فلمْ يكنْ بوسعِها نقلُ رجلٍ بهذا الحجمِ بمفردها بغير تلك الطريقة.
أجلستهُ فوق القشّ، وبدّلتْ الضماداتِ المبتلّةِ بالدماءِ والمطرِ بأخرى نظيفة.
لقد انفجرتْ الجراحُ مجدّدًا بسببِ مجهودِه.
قطّبتْ جبينها، وأكملتْ لفَّ الضماد.
“لحُسنِ الحظ، لمْ يرَنا أحد…”
لو رآهُ أحدُ سكانِ القرية، لكانتْ مشكلةً كبيرة.
لكنّ الخطرَ مرّ، وهذا ما جعلها تتنهّدُ براحة.
بعد أنْ انتهتْ من تضميدِه، عادتْ إلى المنزل، وأحضرتْ حساء البطاطا المتبقّي، ووضعتْه بجانبه.
ثمّ تركتْ ورقةً صغيرةً:
[إذا استيقظتَ، فتناولْ هذا.]
رغم أنّ رنايا كانتْ تُفضّل البقاءَ بجانبِ الرجلِ حتى يستفيق، إلّا أنّ موعدَها مع سيلين كانَ قد اقترب.
نظرتْ إلى الرجلِ للحظة، ثمّ غادرتِ المخزن وهي تشعرُ بانزعاجٍ غامض.
توقّفتْ قليلًا تفكّر، ثمّ أمسكتْ بعصًا طويلةٍ كانتْ مرميةً بالجوار، واستخدمتها لإغلاقِ بابِ المخزن من الخارج.
بدتْ وكأنّها ترتكبُ شيئًا سيّئًا، لكنّها لمْ تملكْ خيارًا آخر.
فلو غادرتْ وراحَ يتحرّكُ وحدهُ ثمّ انهارَ مجدّدًا، فستكونُ في ورطة.
الاهتمامُ بالبطلة، والاهتمامُ بالمريض… حقًّا، كلُّ يومٍ هي مشغولةٌ.
تنهدتْ رنايا في نفسها، تشكو حالها، ثمّ ابتعدتْ عن المخزن.
* * *
كانتْ ليليا تجلسُ على وسادةٍ ناعمةٍ تُحرّكُ قدميها في تململ.
ومنذُ الصباح، لمْ تكنْ تُبعدُ نظرها عن البابِ المغلق، وكأنّها تنتظرُ أحدًا.
“ليليا، مَن تنتظرين؟ لماذا تُحدّقين بالباب طوال الوقت؟”
✧───── ⋆⋅☆⋅⋆ ─────✧
ستجدون الفصول دومًا متقدمةً لهذهِ الرواية في واتباد وقناة الملفات،
حَسابي واتباد : _1Mariana1
( حسابي السابق قد حُذف)
وستجدون إعلانات تنزيل الفصول قبل هيزو في الرابط المثبت أول التعليق ~ ❀
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 4"